هل سُرقت مكتبة الروائي عبدالرحمن منيف في دمشق كما أشاعت الصحافة العربية عام 2015؟ لم تُسرق المكتبة، كل ما في الامر أن متطفلين عبثوا بها وعمدوا إلى نسخ كتب نادرة منها بغية بيعها، فأفسدوها ومزقوا أغلفتها وكادوا يتلفونها. هذا ما يؤكده الكتاب الضخم عندما سُرقت المكتبة ، الذي يوثّق محتويات المكتبة التي لا تزال في بيت منيف الدمشقي، موقعها الأول والأخير. الكتاب يعيد بناء المكتبة بيبليوغرافياً ويورد عناوين كل الكتب التي تضمها وهي تناهز العشرة آلاف. أصدرت الكتاب دار عربية تحمل اسم فهرس الممارسات النشرية، مركزها برلين. عندما قرأت الكتاب اكتشفت للفور أن ما يحتويه لا يليق بصاحب المكتبة ولا بالمكتبة نفسها، على رغم ضخامته وفخامة طباعته. فالنصوص التي استبقت المادة البيبليوغرافية هزيلة بمعظمها وخارجة عن غاية الكتاب المفترضة. ولولا نص زوجة منيف سعاد قوادري، لأمكن حذف بقية المواد، ما خلا ربما الحوار الذي أجراه معدّو الكتاب مع الناشر حسن ياغي، الذي عرف منيف عن كثب وكان صديقه وواحداً من ناشري كتبه، لكن الحوار دار بمعظمه حول حركة النشر العربية، ولم يتطرق إلا قليلاً إلى منيف، مع أن ياغي كان ليتحدث بإسهاب، لو سئل، عن مكتبة صاحب أرض السواد وعن ذائقته بصفته قارئاً حقيقياً. أما المقالات أو النصوص الأخرى، فيمكن حذفها بسهولة من غير أن تُحدث خللاً في الكتاب البيبليوغرافي. لم يكن من حاجة بتاتاً مثلاً لنشر نص عامر بدر حسون وعنوانه مكتبات على رمال متحركة الذي لم يرد فيه ذكر منيف ومكتبته. ويمكن أيضاً حذف مقال الباحث الفرنسي فرانك ميرمييه الذي لا محل له في الكتاب وبدا كأنه مستل من كتابه عن النشر العربي الذي شارك في تأليفه الروائي اللبناني الفرنكوفوني شريف مجدلاني وصدر قبل أعوام بالفرنسية في باريس. أما المفاجئ، فهو نشر حوار إذاعي قديم مع الروائي المصري يحيى حقي كانت أجرته الصحافية المصرية نادية صالح في سياق برنامج إذاعي هو زيارة لمكتبة فلان أطلقته عام 1974، علماً أنه حديث مرتجل ولا أهمية له. أما المقدمة التي كتبها أصحاب الدار أو الناشرون وهم سامي رستم وعمر نقولا وكنان درويش، فبدت في جزئها الاول بمثابة بيان اوضحوا فيه اهداف الدار التي انشأوها في برلين العام 2015 وهي اقرب الى الشعارات الرنانة ومنها، على سبيل المثل: تعمل الدار على إصدار مشاريع تجرّب من خلالها اشكال بديلة للنشر في محاولة لتوسيع هذا المفهوم واستحداث ثقافة جديدة للتعاون معه . مثل هذا الكلام قد يظنه القارئ صادراً عن مكتبة الكونغرس او المكتبة الوطنية الفرنسية اللتين تعملان فعلا على إنشاء فضاء عصري لمفهوم المكتبة والنشر. أما البيبليوغرافيا الشاملة التي ترصد محتويات المكتبة وعناوينها، فوردت منضبطة، ولكن في حرف صغير يحول دون متابعتها بسهولة. وكان يجب إيراد اسماء الكتّاب او الكتب نفسها بحرف سميك او نافر لئلا يعاني القارئ مشقة التنقيب عن العناوين التي تهمه. وارفق معدو الكتاب هذه البيبليوغرافيا بما يقارب اربع مئة صورة التقطت داخل المكتبة، بعضها يقدم كتبا منفردة وبعضها كتبا موضوعة على الرفوف او على الطاولات. وبدا أن نشر هذه الصور في الكتاب ضرب من الهباء لا فائدة منه، فقراءة معظم العناوين صعبة وكذلك التعرف إلى أصحابها. كان يمكن الاكتفاء ببضع صور تشكل فكرة عن المكتبة ما دامت الصور غير فنية وغير مجدية بتاتاً. وهذا ما يدل على عمل نشري غير محترف وغير منهجي. وكان يمكن أيضاً تحقيق عمل بيبليوغرافي رصين ومفيد يكون دليلاً حقيقياً إلى مكتبة منيف ومدخلاً إلى مقاربته كقارئ وجامع كتب. ولعل الطباعة الفاخرة والمكلفة لم تعوض فداحة الهنات التي حلت بالكتاب. باشر منيف، وفق مقدمة زوجته والمعلومات التي وردت في مقدمة الناشرين مهمة القراءة وتجميع الكتب منذ فتوّته في الأردن، وعندما انتقل إلى بغداد بدأت كتبه تأخذ شكل المكتبة ورمزيتها، لا سيما أن بغداد كانت منطلق الروائي إلى عالم السياسة والالتزام الحزبي. لكن حياة الترحال، الجغرافي والسياسي والثقافي، التي عاشها والتي انسحبت من الأربعينات إلى الثمانينات من القرن المنصرم، فرضت على مكتبته ان تترحل معه: من بغداد إلى دمشق، فبيروت، ثم بلغراد التي درس في جامعتها اقتصاديات النفط ، فإلى باريس مع الزوجة والابناء الذين درسوا فيها، ثم الى بيروتودمشق وما بينهما. وكان منيف مصيبا عندما جعل من دمشق مربض مكتبته، جاعلاً من بيته العائلي مكانها الأول والأخير. وكانت الكتب خلال مسار الترحال، تنتهي في اليبت الدمشقي وتصب في مكتبته. وكان على هذه المكتبة أن تتسع لتحتل معظم الغرف كما تعبر زوجته، ولم تتلكأ هي عن مدها بما تهوى من كتب وكذلك الأبناء. من يستعرض معظم العناوين في البيبليوغرافيا ولو بمشقة، يدرك أن المكتبة تضم كتباً عادية وعادية جداً وبعضها فقد أهميته ومرجعيته ولم يعد أهلاً للقراءة. وكان منيف على ما يبدو حريصاً على الاحتفاظ بما يختار من كتب ويشتريها، وبما كانت تتكرم عليه دور النشر العربية من مطبوعات أياً تكن عناوينها. ويبدو جلياً أن المكتبة هذه ليست انتقائية ولا نخبوية أو شخصية تماماً، فهي تضم كل الحقول ومنها لا علاقة لمنيف به. يجد القارئ في المكتبة كل ما يخطر أو لا يخطر في باله حتى ليشك في أن المكتبة ليست مكتبة تمثل ذائقة منيف الروائي والمؤرخ وعالم النفط والاجتماع. لعلها تحتمل صفة المكتبة العامة ولو لم تتخط العشرة آلاف كتاب. كان على معدّي الكتاب، ما داموا بذخوا عليه ماديا، أن يعهدوا الى بعض دارسي أدب منيف وفكره مهمة استعراض العناوين وكتابة مقالات أو دراسات عن منيف القارئ، فيفرزون العناوين ويوزعونها على حقولها ويستخرجون صورة منيف القارئ من خلالها. وكانوا حتما ليقعوا على هوامش قد يكون منيف دوّنها على صفحات الكتب، وهي مفيدة جدا في البحث. وليت الناشرين استعانوا بخبراء في علم المكتبات الرائج في الغرب لتقديم تحليل شامل عن المكتبة وصاحبها. فالمكتبة كما علمنا بورخيس والبرتو مانغويل وامبرتو ايكو هي صاحبها، هي الكاتب نفسه، وفي ثناياها ترقد أسراره واسرار إبداعه. وليتهم نشروا، عوض معظم المقالات والنصوص التي ادرجت في الجزء الأول، مقالات عالمية عن مفهوم المكتبة وشهادات كتبها كتاب كبار عن مكتباتهم. هل تُقدم زوجة عبدالرحمن منيف وأبناؤه على منح مكتبة الروائي الكبير إلى مكتبة وطنية عامة، أم أنهم سيجعلون البيت متحفاً يضم مكتبته واللوحات الفنية التي خصه بها فنانون كبار عطفاً على بعض آثاره الشخصية؟ لم تقرر الأسرة كما عبّرت الزوجة في المقدمة حتى الآن مصير المكتبة. واذا مُنحت كتب منيف إلى مكتبة عامة، فهل تحافظ هذه المكتبة عليها كلها؟ معروف الآن أن المكتبات العامة الكبيرة لم تعد قادرة على استيعاب المزيد من الكتب أو الأعمال الورقية بعدما ضاقت فيها الجدران والأجنحة والرفوف حتى الغصص. وكم من كتب عرضت على مثل هذه المكتبات فلم تختر منها إلا القليل. مكتبة عبد الرحمن منيف يجب أن تحمل اسمه أينما حلت أو كيفما كان مصيرها. إنها مكتبة أحد أعمدة الرواية العربية المعاصرة.