قال الرئيس الراحل أحمد بن بلة (رحمه الله) أن مشكل الجزائر- على غرار كثير من الدول النامية – ليس في ضعف الإمكانيات ، أو نقص الإطارات والكفاءات ، بل في مدى التمكن وحسن إختيار ووضع هذه الكفاءات في مكانها الملائم والأنسب . وبالتالي إننا في الجزائر ندفع فاتورة سوء إختيارات الرجال ( الكفاءات ) ، وتعيين من تنقصهم الخبرة والكفاءة في بعض المناصب والمسؤوليات ، و نعاني كذلك من ترتيب الأولويات . متسائلا : وإلا لماذا تنجح نفس هذه الإطارات في الخارج وتفشل في بلادنا ؟ . الرئيس الراحل محمد بوضياف ( رحمه الله ) ، هو أيضا كان صرح في بداية حكمه أنه لم يجد خمسين كفاءة يعينها في المجلس الإستشاري الإنتقالي الذي شكله بعد ذلك . وإستغرق الرئيس بوتفليقة أشهرا لتشكيل أول حكومة في عهدته الأولى . وإكتشف في عهدته الثانية أن الأحزاب التي كان " يعول " عليها كثيرا لتحقيق برنامجه لا يهمها سوى المناصب والمكاسب كما صرح علانية . أكثر من ذلك فإن كثيرا ممن عينهم من المسؤولين والوزراء لم يكونوا واعين أو على الأقل غير مستوعبين لحجم الرهانات والتحديات. والجزائريون يذكرون إنتقاده اللاذع من خلال ذكره لمثل شعبي : " الماء ماديهم ، وهم يقولو ما أحلاها عومة " . وربما أيضا هذا ما يفسر كثرة التغييرات التي مست حكومات متعاقبة والحركات الواسعة للولاة ، ورؤساء الدوائر والمديرين التنفيذيين ، وغيرها من تغييرات مست مختلف المؤسسات والإدارات ... حتى الحزب الواحد رفع شعار : " الرجل المناسب في المكان المناسب" لكنهلم يفلح في تجسيد هذا الشعار على النحو الأفضل . حيث إرتبطت كثير من مراحل حكمه ومجالات تسييره بسوء التسيير والفساد المفضي إلى إحتجاجات وأحداث وأزمات عصفت بالإستقرارالإجتماعي والبلاد عموما . وما فضيحة 26 مليارا التي أوردها الوزير الأول سابقا عبد الحميد إبراهيمي إلا دليل على ذلك . نقص الخبرة والكفاءات أمر واقع وزراء وولاة كثيرون بدورهم أيضا يبررون تأخر إنجاز المشاريع ، أو تعطلات التسيير وإدارة شؤون قطاعاتهم وولاياتهم بنقص الكفاءات وأصحاب الخبرة أوالذين يتمتعون بإرادة قوية وبروح المبادرة . أو من لهم قوة الإقتراحات والحلول وإستشراف الأزمات فيما يرتبط بالمنتخبين على الخصوص . يكفي أن نعلم على سبيل المثال أن أكثر من 780 مجلس بلدي هو محل متابعات قضائية ، كمسؤولين مباشرين ( بصفة فردية ) أو كهيئة إنتخابية . كل من سبق ذكرهم لم يشتكوا مرة واحدة ( على الأقل في السنوات الأخيرة ) من نقص الإمكانيات والإعتمادات المالية المخصصة للتنمية والتسيير من طرف الدولة والحكومات المتلاحقة . يكفي أن نشير أن غالبية البلديات على سبيل المثال لم تنفذ برامجها التنموية السنوية ، ولم تستنفذ ميزانياتها سوى بنسب ضعيفة ومتدنية جدا لا تكاد تذكر . هذا يعني أن المشكلة ليست مشكلة إمكانيات . بالتأكيد أن ما سبق ، فيه جزء كبير من الأدلة والإثباتات التي تؤكد أن أزمة الموارد البشرية ونقص الكفاءات من المعوقات الرئيسية للتنمية الوطنية ، بل تشكل عاملا مؤثرا ، له إنعكاسات سلبية عديدة على ما نحن عليه . فهل يعني هذا أن الجزائر أصيبت بالعقم فلم تعد تلد الكفاءات ؟ . وهل أن نقص الكفاءات والموهوبين جزء من الأزمة أم أنه كل الأزمة ؟ . وهل نحن اليوم مجبرين على اللجوء إلى إعلان مناقصة دولية لتوظيف إطارات وخبراء وكفاءات مسيرة لشؤوننا الإجتماعية ، وقطاعاتنا الإقتصادية والمالية والفلاحية والتعليمية والصحية ... بل حتى لتسيير مجالسنا البلدية ؟ . بعض الجزائريين ( سيما محترفو السياسة ، ولا أقول السياسيين ، لأن ممارسة السياسة فيما يبدو أصبحت عند البعض مهنة ووظيفة وليست آلية أو مهمة لتحقيق أهداف إجتماعية وإقتصادية ... ) مازالوا يعتقدون أن الإعتماد على خبرات وكفاءات أجنبية " كفر وخيانة " ومس بالسيادة الوطنية . رغم أننا نعيش في عالم منفتح لا يؤمن بالحدود . ولنا شواهد في تجارب الآخرين كالتجربة الإماراتية والكورية والفيتنامية والأرجنتينية والبرازيلية والهندية وخصوصا الصينية ، وحتى الإثيوبية ... تجارب إعتمدت على الخبرات الأجنبية وعلى شراكات إنفتاحية ثبت نجاحها ورقيها . أخرجت مجتمعات وشعوب وإقتصاديات هذه الدول من رتب الدول الفقيرة والمتخلفة إلى دول ينظر إلى نموها وتطورها بإعجاب . حين نتحدث عن هذه النقائص وعن سوء التسيير ، يختار غالبية الناس أقصر طرق الإتهام لتعليق هذه الأزمات على ما تخرجه المدرسة الجزائرية .أي ضعف التكوين وتدحرج مكانة مؤسساتنا التعليمية والتربوية في سلم التصنيف الدولي . آخرها تقرير الأممالمتحدة حول تراجع المستوى التعليمي والتربوي ببلادنا . قد تكون من عوامل ذلك أيضا سنوات تسييس برامج المدرسة الجزائرية ( وهو أمر بدأ مبكرا حين تخلت البرامج عن تعليم نواصي العلوم والمعارف ، بل وأبجديات اللغة والتعبير ، والتربية الإنسانية والإجتماعية والجوارية ، والفنون البسيطة الإدراك والإستيعاب ، واللجوء إلى " حشو مخ " التلميذ بخطابات حزبية ومطالب وخيارات سياسية أكبر من سنه وإدراكه كالثورة الزراعية وتقسيم الأرباح والإنتخابات المحلية والبرلمانية وعذاب القبر ...). نعم ، قد تكون المدرسة التي غرقت في لعبة الأرقام والتفاخر بالكم على حساب النوعية والتنافسية ، فأهملت إعطاء الأهمية اللازمة للمعلم ( بمفهوم واسع ومن جميع الجوانب )، هي التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه اليوم . وكنا أشرنا في " الخميس الماضي " إلى الترتيب السيئ للجامعات الجزائرية على الصعيد العالمي ( أول الجامعات الجزائرية مرتبة ما بعد 3000 ) . وأدى عدم إستقرار المنظومة التعليمية ( في أطوارها الثلاثة ) سواء ما تعلق بكثرة الإضرابات والإحتجاجات والغيابات والتسربات ، أو ما نجم عن تغيير البرامج والتوجهات دوريا تقريبا ، إلى عدم إتمام البرامج المحددة سنويا وإلى نقص وضعف في التكوين . برنامج يلغي برنامجا . ودفعات منفصلة عن أخرى في المد التعليمي ، أي شرخ في التواصل التكويني . لذلك إنتهينا إلى تخرج دفعات من الطلبة بشهادات وتخصصات لا مكان لها في ساحة التوظيف . ما أدى أيضا إلى فقدان شهادات وديبلومات التخرج إعتبارها وقيمتها لمتابعة الدراسة أو أثناء التوظيف في الجامعات والمؤسسات الخارجية . بعد أن كان الديبلوم الجزائري يحظى بإعتراف وأولوية لما كانت المدرسة مدرسة ، والجامعة جامعة . تنضاف إلى هذه الأسباب أيضا الأزمات التي عصفت ببلادنا ، سيما الأزمة الأمنية ( سنوات الفوضى والجنون والدم )التي عطلت كل شيئ . وقتلت كل شيئ . وصفت كل النوابغ . وهجرت آلاف الكفاءات . " السوسيال " أيضا جرد المدرسة الجزائرية من دورها التعليمي وحولها إلى ما يشبه المفرخة ، أو دور حضانة أومجمعات لشغل التلاميذ والطلبة طوال اليوم أي إلهائهم . يجب الإعتراف بتراجع المنظومة التعليمية والتربوية لأسباب موضوعية ، وأخرى بفعل إختيارات و " بريكولاج " نحن جميعا ، المتسببون والمسؤولون عن مآلاته . ثمة تقصير في إعطاء المكانة أو الدور الريادي للمدرسة ، والذي هو – مع ذلك – يظل هدف وأمل ورغبة كل الفاعلين تربويا . بن غبريط تصطدم بمخلفات بن بوزيد ومن .. سبقه الوزيرة الحالية للتربية والتي تتمتع بكفاءة عالية ، إصطدمت بإرث ثقيل تركه من سبقها . هي اليوم تواجه " عقليات " وذهنيات ورواسب تيبست طوال إستوزار سابقها ما يقارب 20 سنة. يمكن طرح سؤال جدي : كيف نقيم حصيلة 20 سنة من الإستوزار بكل المعايير العلمية الموضوعية المتعارف عليها ولا أقول السياسية ؟ ... نترك التقييم والأحكام لأهل الإختصاص تفاديا للقسوة في الرأي . ونكتفي بالقول : إن مهمة بن غبريط لن تكون سهلة في إرجاع العربة وراء الحصان . رغم تحطيمها لرقم قياسي غير مسبوق في الحوار مع النقابات ( 500 ساعة ) ، ونكاد نراها في وضع سيزيف الذي ظل يدحرج الصخرة إلى أعلى الجبل فتعاود السقوط إلى الأسفل ،وهكذا .. نتمنى أن يترك الوقت الكافي لبن غبريط في دحرجة " صخرة المنظومة التربوية " إلى الأعلى ، وأن تقاوم عناد وحسابات أصابع الظل والعلن . فهي مازالت في معاركها الأولى ضد إرث ثقيل وضد مكاسب وسلوكات ومناطق " محرمة " . إن المكاسب المحققة في عهدها وفي ظرف قصير المدة لم يسبق تحقيقه ، فلماذا يتصلب البعض في مطالبه ؟ . الوقت أيضا كفيل بحل ما تبقى من إختلالات وهي مشروعة بإعتراف الوزيرة نفسها . الله القادر الأوحد خلق الدنيا في ستة أيام ، فلماذا تريد النقابات تحقيق مطالبها في يوم واحد وفي دفعة واحدة ؟ . النهوض بالمدرسة الجزائرية مطلب الجميع ، وقضية الجميع . لذلك لابد أن تحظى هذه المرأة بدعم الجميع . لابد أن تعود المدرسة إلى أهلها . وأن تكون مقاعد التعليم والدراسة مخصصة وفقط ، للتلاميذ والطلبة الذين يريدون فعلا كسب العلم والتدرج في سلم المعرفة والإنتصار والتتويج في مشوارهم الدراسي . إذ لا مكان للمنحرفين وحاملي السكاكين وأقراص المخدرات وللذين يأتون المدارس من باب " الكرفي " . مكانهم خارج أسوار المدارس والثانويات والجامعات. تماما كما أن المناصب الوظيفية والتربوية لا بد أن تعود للذين يكرسون كل أوقاتهم للمهنة. أولئك الذين يكرسون كل وقتهم للبحث وتطويرإمكانياتهم . يجددون معارفهم ومعلوماتهم على الدوام . وليس أولئك الذين يتعاطون مهنة التعليم أيضا من باب مدخول إضافي . إن مسابقات التوظيف التي أفرغت من نبلها ونزاهتها ، فباتت قوائم الناجحين معلومة قبل إجراء المسابقات ، زعزعت ثقة الكفاءات ، وأقصت كثيرا من المترشحين الذين شاركوا في تلك المسابقات من باب " رب وعسى " أو من باب " أترك أمري لله " ، لأنهم لا يملكون وساطات أو أصحاب الأذرع الطويلة . ما سبق لا يمكن إعتباره البداية والنهاية . أي السبب الوحيد . ولا يجوز تحميل المدرسة كل نقائصنا ، وتخلفنا . فمن هذه المدرسة تخرجت أسماء وإطارات تصنع ربيع التطور في مشارق الأرض ومغاربها . كفاءات هي اليوم تقود أكبر المصانع والشركات ومخابر البحث في اليابان والولايات المتحدةالأمريكية وبريطانيا وفي دول الخليج وفرنسا وكندا وأستراليا وألمانيا وفي الأرجنتين ... بكلمة أشمل في القارات الخمس . قلت تقود ، ولم أقل تشتغل أو موظفة تتقاضى أجورا بمفهوم " الخبزة " . ومن باب الشهرة والأمثلة نذكر : الياس زرهوني وصنهاجي وبلبشير ومنصوري وقدور وخياري وبنات وجبار وخير الله وغزوات ومباركي وعودية وحرطاني ولعمري وزكريني وآية السعيد وعموشي وسعدلي وبلهادف وأوعراب وآسيا جبار ( رحمها الله ) ... وآخرون أعدادهم بالآلاف . كل هؤلاء تتلمذوا وتخرجوا من مدارس جزائرية متواجدة في المدن وأيضا في الأرياف . لذلك أقول بأن المدرسة لا تتحمل لوحدها مسؤولية سوء التسيير والتخلف . كيف تسند المسؤوليات في بلادنا ؟ ثمة سؤال آخر قد يحرج البعض . ما هي معايير تولي المسؤوليات في بلادنا ؟ . هل يتم إسناد المسؤوليات في بلادنا وفق معايير الكفاءة والإختصاص ، أم ثمة معايير أخرى خارجة عن النطاق لا يفهمها إلا أصحاب القرار ؟ . ولماذا لا تعلن شروط تولي المسؤوليات مسبقا وفق دفاتر صريحة مرفقة بعقود نجاعة وأهداف محددة ، تكون ميثاقا للتقييم والمحاسبة بعد ذلك . هذا كفيل بفرز حقيقي للغث من السمين . للكفء من الذي " جابو الواد و الشهيلي " . ثم قبل ذلك ، هل تتوفر إداراتنا ومصالحنا على سجلات دقيقة ( فيشيي ) بأسماء كل الخبرات والتخصصات والكفاءات والسير الذاتية ، قريبها وبعيدها ؟ ، داخل الوطن وخارجه ، لتسهيل مهمة الإختيار عند شغور المناصب والتخصصات أي أثناء التعيينات ؟ ، ما يعرف بالتحقيقات القبلية لتولي المسؤوليات . قبل سنوات دعا خطيب مسجد ( على المباشر ) إلى التمييز في عملية الإغتيالات التي كانت تستهدف الشرطة يومئذ بالقول : " لماذا إستهداف عناصر الأمن ، فليسوا جميعا شيوعيين ؟ . أي كأني به يجيز قتل من كان منهم ذا توجه غير توجه الخطيب فيما يبدو . ثم رأينا بعد ذلك أن هذا الأخير أصبح وزيرا ، ثم سفيرا . وأوردت صحيفة وطنية الأسبوع الماضي أن إبن ذلكم الوزير متهم بالمتاجرة في جوازات الحج ... ويذكر بعض زملاء وزير سابق ( درس معهم في ثانوية بقسنطينة ) بأن لم يكمل الدراسة لأن معدله الفصلي لم يبلغ أربعة على عشرين ؟ ومع ذلك أهله مشواره الحزبي لتولي مسؤوليات أوصلته إلى رتبة وزير بعد ذلك . وحالات الذين لا يحملون شهادات جامعية أو ديبلومات مؤهلة لمناصب المسؤولية بالآلاف ، ومع ذلك أسندت لهم مسؤوليات ، ونتائج تسييرهم معلومة . أردت أن أقول أن الأزمة لا تعود بالضرورة إلى نقص في الكفاءات والخبرات المؤهلة ، بل مرتبطة بمدى التوفيق في الإختيار ، كما قال بن بلة، وفي مدى تمكين الكفاءات من تولي المسؤوليات والإدارات . المسؤوليات والوظائف هي " أمر بمهمة " متجدد . مرتبط بمدة وأهداف ونتائج يجب تحقيقها . لكن في بلادنا أصبحت المسؤوليات هدف في حد ذاته . قد لا يعجب البعض حين أقول بأن المسؤوليات لا يجب توليها أو النظر إليها من باب السن ، أو منطق " ولد عائلة وناس ملاح " فهذا مهم لكن ليس الشرط الوحيد . الكفاءة والمردودية والنجاح في تحقيق الأهداف هي المعايير الأساسية .