العلاقات الجزائرية الصومالية "متينة وأخوية"    وزارة التضامن الوطني تحيي اليوم العالمي لحقوق الطفل    فلاحة: التمور الجزائرية تصدر إلى أكثر من 90 دولة    وزير الصحة يبرز التقدم الذي أحرزته الجزائر في مجال مكافحة مقاومة مضادات الميكروبات    المجلس الأعلى للشباب ينظم الأحد المقبل يوما دراسيا إحياء للأسبوع العالمي للمقاولاتية    غزة: ارتفاع حصيلة الضحايا إلى 44056 شهيدا و 104268 جريحا    أيام إعلامية حول الإثراء غير المشروع لدى الموظف العمومي والتصريح بالممتلكات وتقييم مخاطر الفساد    رفع دعوى قضائية ضد الكاتب كمال داود    الأسبوع العالمي للمقاولاتية بورقلة:عرض نماذج ناجحة لمؤسسات ناشئة في مجال المقاولاتية    صناعة غذائية: التكنولوجيا في خدمة الأمن الغذائي وصحة الإنسان    منظمة التعاون الإسلامي: "الفيتو" الأمريكي يشكل تحديا لإرادة المجتمع الدولي وإمعانا في حماية الاحتلال    كرة القدم/ سيدات: نسعى للحفاظ على نفس الديناميكية من اجل التحضير جيدا لكان 2025    منظمة "اليونسكو" تحذر من المساس بالمواقع المشمولة بالحماية المعززة في لبنان    عميد جامع الجزائر يستقبل رئيس جامعة شمال القوقاز الروسية    فلسطين: غزة أصبحت "مقبرة" للأطفال    حملات مُكثّفة للحد من انتشار السكّري    يد بيد لبناء مستقبل أفضل لإفريقيا    الرئيس تبون يمنح حصة اضافية من دفاتر الحج للمسجلين في قرعة 2025    الجزائر متمسّكة بالدفاع عن القضايا العادلة والحقوق المشروعة للشعوب    بحث المسائل المرتبطة بالعلاقات بين البلدين    حج 2025 : رئيس الجمهورية يقرر تخصيص حصة إضافية ب2000 دفتر حج للأشخاص المسنين    قمة مثيرة في قسنطينة و"الوفاق" يتحدى "أقبو"    بين تعويض شايل وتأكيد حجار    الجزائرية للطرق السيّارة تعلن عن أشغال صيانة    ارتفاع عروض العمل ب40% في 2024    90 رخصة جديدة لحفر الآبار    خارطة طريق لتحسين الحضري بالخروب    المجلس الوطني لحقوق الإنسان يثمن الالتزام العميق للجزائر بالمواثيق الدولية التي تكفل حقوق الطفل    40 مليارا لتجسيد 30 مشروعا بابن باديس    3233 مؤسسة وفرت 30 ألف منصب شغل جديد    طبعة ثالثة للأيام السينمائية للفيلم القصير الأحد المقبل    الجزائر تشارك في اجتماع دعم الشعب الصحراوي بالبرتغال    مجلس الأمن يخفق في التصويت على مشروع قرار وقف إطلاق النار ..الجزائر ستواصل في المطالبة بوقف فوري للحرب على غزة    تكوين المحامين المتربصين في الدفع بعدم الدستورية    الشريعة تحتضن سباق الأبطال    الوكالة الوطنية للأمن الصحي ومنظمة الصحة العالمية : التوقيع على مخطط عمل مشترك    دعوة إلى تجديد دور النشر لسبل ترويج كُتّابها    مصادرة 3750 قرص مهلوس    فنانون يستذكرون الراحلة وردة هذا الأحد    رياضة (منشطات/ ملتقى دولي): الجزائر تطابق تشريعاتها مع اللوائح والقوانين الدولية    خلال المهرجان الثقافي الدولي للفن المعاصر : لقاء "فن المقاومة الفلسطينية" بمشاركة فنانين فلسطينيين مرموقين    الملتقى الوطني" أدب المقاومة في الجزائر " : إبراز أهمية أدب المقاومة في مواجهة الاستعمار وأثره في إثراء الثقافة الوطنية    رئيس الجمهورية يشرف على مراسم أداء المديرة التنفيذية الجديدة للأمانة القارية للآلية الإفريقية اليمين    سعيدة..انطلاق تهيئة وإعادة تأهيل العيادة المتعددة الخدمات بسيدي أحمد    ارتفاع عدد الضايا إلى 43.972 شهيدا    فايد يرافع من أجل معطيات دقيقة وشفافة    القضية الفلسطينية هي القضية الأم في العالم العربي والإسلامي    حقائب وزارية إضافية.. وكفاءات جديدة    تفكيك شبكة إجرامية تنشط عبر عدد من الولايات    انطلاق فعاليات الأسبوع العالمي للمقاولاتية بولايات الوسط    ماندي الأكثر مشاركة    الجزائر ثانيةً في أولمبياد الرياضيات    هتافات باسم القذافي!    هكذا ناظر الشافعي أهل العلم في طفولته    الاسْتِخارة.. سُنَّة نبَوية    الأمل في الله.. إيمان وحياة    المخدرات وراء ضياع الدين والأعمار والجرائم    نوفمبر زلزال ضرب فرنسا..!؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جدل الديني والسياسي في الفلسفة المدرسية
نشر في النصر يوم 24 - 01 - 2011

ليس هناك شك فإن المقصود بالفلسفة المدرسية هي تلك الفلسفة التي كانت تدرس في المدارس الغربية في فترة العصور الوسطى في أوربا، إلا أن المثير للجدل أن هذه الفلسفة كانت ولا تزل مثار جدل حول طبيعتها وقيمتها،وإذا ما كانت فلسفة حقة أم مجرد دراسات لاهوتية.
يجد الدارس لما يعرف بالفلسفة المسيحية أن هناك مجموعة من المميزات التي تمتاز بها هذه الفلسفة، رغم الاختلاف الكبير بين خصومها وأنصارها حولها وحول الموقف من الفترة التي ظهرت فيها ، ومع هذا يمكننا أن نحدد هذه الميزات على النحو التالي:
أنها فلسفة تكونت وتطورت وازدهرت وشغلت فترة طويلة من الزمان تجاوزت في أسوء التقديرات الثمانية قرون.
أنها فلسفة توفيقية ، لكونها كانت تهتم دوما بالتوفيق بين الفلسفة اليونانية في قراءتها الإسلامية وبين الديانة المسيحية، التي كانت تتعرض لانتقادات وهجمات مختلفة.
هناك اختلاف بين المهتمين من الفلاسفة والباحثين بهذا النوع من الفلسفة في مسألة تصنيفها، فإذا كان البعض منهم يعتبرها لاهوتا فإن البعض الأخر يجعل منها فلسفة.
يطلق عليها أحيانا اسم الفلسفة المسيحية نسبت إلى الديانة التي كانت تخدمها، وفي هذا يري هيجل أنها كانت في خدمة الكنيسة ولم تتحرر من سلطتها، وهو ما أشرنا إليه في المبحث الرابع من الفصل الأول.كما يطلق عليها في أحيان أخرى اسم الفلسفة المدرسية لكونها كانت تدرس في المدارس التي تشرف عليها الكنيسة ، بكونها المشرف الوحيد على شؤون التعليم والمعارف بمختلف مجالاتها في ذلك الزمان.
وتبعا لما سبق فإن أغلب ممثليها كانوا من رجال الدين المسيحي، ولا نكاد نجد منهم من لم يكن مرتبطا بكنيسة من الكنائس، أو بمذهب من المذاهب الكنسية، بل أننا نجدهم يعتبرون أنفسهم من أبناء الكنيسة الذين لم يكن لهم من هدف إلا خدمة هذه الأخيرة ، والدفاع عن مواقفه، حتى وإن تعارضت هذه المواقف ليس مع قناعات غيرهم فحسب ، وإنما حتى وإن تعارضت مع قناعاتهم هم أنفسهم.
رغم الطابع المسيحي الذي حاولت به هذه الفلسفة أن تظهر به نفسها إلا أن الحقيقة غير ذلك ، فقد ظلت أسيرة أفلاطون فترة زمنية طويلة، كما هو الحال مع أوغسطين ومن تبعه، وعندما تحررت من أفلاطون ، وقعت تحت سطوة أفكار أرسطو كما هو الأمر مع توما الأكويني، كما تنقلت إليها أراء الفلاسفة المسلمين مثل الفارابي ، ابن سينا، الغزالي وبطبيعة الحال ابن رشد.
رغم الطوق الذي فرضته الكنيسة على أتباعها ، إلا أن العديد من أصحاب الفكر عملوا على مقارعة هذا التسلط، والتحرر منه، متخذين من الرشدية اللاتينية سلاحا، ومن تأويلات الهلينية منهجا، محاولين الخروج عن الوجهة التي كانت الكنيسة ترسمها، بطرق مباشرة في بعض الأحيان، وبطرق غير مباشرة في أحيان أخرى.
1 الإنسان والدين:
إن الدارس لتاريخ الأمم يلاحظ عدم خلوا أي منها في القديم والحديث من ديانة تؤمن بها، كما أن هذه الأمم سواء منها تلك التي أقامت دولا قوية أو لم تقم- لم تختلف كثيرا في نظرتها للدين وعلاقتها بالدنيا ، رغم اختلاف الديانات التي تؤمن بها والآلهة التي تعتقد بها.
1 1 الملك الكاهن:
فالملك أو الحاكم في مصر القديمة وبلاد فارس مثلا هو الإله والكاهن الأكبر على الجميع طاعته والخضوع له و عبادته،ومن هنا لم تخطر لرجال الدين كما يرى برهان غليون فكرة الثورة على الحاكم أو مجرد الاختلاف معه لان مهمتم تكمن في خدمة سيدهم وتبجيله و إضفاء القداسة على سلطته حتى انتهى الأمر إلى عبادته أو الخضوع الكامل له .
وكان الملوك هم الذين يغيرون طقوس العبادات و يشكلون مركزها ، كما يحددون الآلهة المعبودة و التي يعتبرون أنفسهم يمثلونها كما يقترحون آلهة جديدة أو يشجعون الإيمان بها لسبب أو لآخر.
لكن رغم هذا فان الدين في حد ذاته لم يتعد كونه بوجه عام - علاقة البشر بما يعتبرونه مقدسا و بالقوى فوق البشرية التي يعتقدون أنهم يخضعون لها ، ونشير هنا إلى أن الملوك كانوا يعتبرون من طينة غير طينة بشرية فهم إما أن يكونوا آلهة أو أنصاف آلهة اوابناء آلهة.
12 مكانة الانسان :
أما عن مكانة الإنسان ضمن هذا المفهوم فقد اختلفت وجهات نظر الوثنيين، إذ ذهب البعض منهم إلى اعتباره كائنا ضعيفا ، يتميز بالقذارة و الضعف أمام غيره من الكائنات ، وهذا ما جعله يعوض ذلك باللجوء إلى الوحشية التي سيطرت عليه فترة طويلة ، يصفهاالفيلسوف الانكليزي توماس هوبز بكونها حياة :" صراع وتدافع و عنف لا يؤمن فيها احد على نفسه ولا على ماله ولا هم له إلا أن يحافظ على ذاته ضد غارات الآخرين " بسب أنانية الإنسان ورغبته في السيطرة والتغلب و يؤكد المودودي انه نتيجة لسيطرة هذه الفكرة على الإنسان فان هذا الأخير لجاء إلى عبادة الأصنام و الأوثان والأنهار و الأشجار و النجوم وغيرها من مظاهر الطبيعة بدلا من أن يقوم بتسخيرها لخدمته.
وبهذا فان هذا المفهوم يحصر الدين في مجموعة من الطقوس تقدم لآلهة المتعددة الممثلة في الأصنام المصنوعة من الأحجار أو أخشاب وقد عرف هذا التصور أمم كثيرة كاليونان والفرس والعرب قبل الإسلام.
في حين ذهب فريق آخر من الوثنين إلى اعتبار وجود الإنسان في هذا العالم إنما هو لتلقي المصائب و الألم. وهذا ما دفع بالجانستية المنسوبة إلى معلمها مهافيرا ( 527-699ق،م) الى الدعوى إلى الزهد والتقشف والممارسة الرياضية الصعبة القاسية و المصاحبة للتأملات العميقة لان الحياة الدنيا لا تزيد عن كونها تعاسة مستمرة و شقاء متصل نعيمها زائد والعيش فيها باطل ، ومن الغريب أن هذه الديانة أو بالأحرى الفلسفة تدعو إلى عدم الاعتراف بالآلهة و هذا ما دفع إلى تسميتها بديانة الإلحاد والتعري لكونها تدعو إلى أن يعيش الإنسان متجردا من ثيابه أو مغادرة هذه الدنيا عن طريق الانتحار .
والى قريب من هذا ذهبت البوذية المنسوبة إلى الحكيم بوذا الهندي الكبير ( 563-483 ق،م) معتبرة أن :"حياة الإنسان في الدنيا شر و ألم و أن التخلص منها يتم بالإندماج في الوحدة الشاملة و هي النارفانا و سبيل ذلك الزهد و محاربة الرغبات و الشهوات" زيادة على قولها بتناسخ الأرواح و إنكار البعث و الحساب.
2 الانسان : المؤمن والمواطن
إذا نظرنا في تاريخ المسيحية فإننا نجد تميز الفترة التي شهدت ظهور هذه الديانة باضطهاد أنصار الدين الجديد ، بل أن المسيح عليه السلام شخصيا تعرض إلى اضطهاد كبير كمحاولة صلبه التي انتهت برفعه إلى السماء كما يذكر القرآن الكريم في قوله تعالى:"وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وان الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا إتباع الظن وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه".
وأما عن إتباعه فقد تعرضوا كما يقول محمود أبو زهرة: "إلى بلايا وكوارث جعلتهم يختفون بديانتهم ويفرون بها أحيانا ويصمدون للمضطهدين، مستشهدين أحيانا أخرى".غير أن هذه الوضعية لم تستمر طويلا وانقلبت الأوضاع بتولي قسطنطين عام 306م عرش الإمبراطورية الرومانية ، ثم اعتناقه المسيحية و اعترافه بها كديانة رسمية بعد أن ترك الوثنية ، بل انه أعلن فيما بعد أن المسيحية تمثل الديانة الرسمية الوحيدة للإمبراطورية الرومانية.
وبغض النظر عن الأسباب الحقيقية التي دفعت الإمبراطور إلى تبني الدين الجديد ، والتخلي عن ديانة الآباء فان هذا الموقف الجديد في حد ذاته أثار مشكلات سياسية وعقائدية مختلفة جديدة لم تكن مطروحة من قبل كقضية الفصل بين السلطة السياسية والسلطة الدينية.
فإذا كانت المواقف الوثنية التقليدية كما رأينا- تذهب إلى تأليه الحاكم أو على الأقل جعله ممثلا للإرادة الإلهية ، وبالتالي فهو يمارس علاوة على السلطة السياسية ، السلطة الروحية،بصفته الرئيس الديني و الكاهن الأعلى في نفس الوقت، فان الدين الجديد يؤكد أن هناك إلا الها واحدا، وأن له ابنا وحيدا هو المسيح عيسى عليه السلام، وبالتالي فالحكام ليسوا أبناء آلهة فضلا على أن يكونوا آلهة ، و بهذا فهناك تعارض شكلي و جوهري في الظاهر بين المواقف الوثنية و المواقف المسيحية المختلفة.
و قبل أن يتمكن أباء الكنيسة من إزالة هذا التعارض و التناقض ، إذ بقبائل القوط الغربية تهاجم روما عاصمة الإمبراطورية الرومانية المقدسة وتسقطها عام 410م.
مما دفع بأنصار الوثنية إلى اتهام المسيحية بكونها مسؤولة عن هذا السقوط ، بل أن هذا الاتهام جاء حتى من قبل بعض المسيحيين أنفسهم، نتيجة لتهاون أتباع الدين الجديد في الدفاع عن روما، باعتبار هذه الاخيرة لاتمثل ملكوت الله الخالدة، وانما تمثل ملكوت الشيطان الزائلة والزائفة.
و نتيجة لكل ما سبق فقد حاول رجال الكنيسة الكاثوليكية إزالة هذا التعارض و التصدي للاتهامات الجديدة غير أن غياب مصادر مسيحية متفق عليها، من جهة وتناقض وتعارض ما هو موجود منها ، جعل علاقة الانسان باعتباره مواطنا في دولته وبين كونه مؤمنا منتميا الى كنيسته تمر بثلاث مراحل أساسية:
2 1 نظرية السيفان:
تميزت هذه المرحلة بظهور نظرية السيفان التي تدافع عن الفصل بين السلطتين الزمنية و الروحية ، و تدعو إلى سيطرة الكنيسة على المسائل الروحية مما يجعل جميع المسيحيين ملزمين بطاعتها بما فيهم الإمبراطور باعتباره مؤمنا مسيحيا، وفي مقابل ذلك تخضع الكنيسة لسلطة الدولة فيما يتعلق بشؤون الأمن و الحياة الدنيوية ،لان ذلك من شأنه أن يساعد في الحصول على السلم الإلهي، كما يرى القديس أوغسطين(354-430م).
وبهذا أصبحت مجريات الأمور الدنيوية من اختصاص السلطة المدنية التي تقوم بالمحافظة على السلام و العدالة و النظام بواسطة ممثليها في حين تقوم الكنيسة برعاية شؤون الروح عن طريق رجالها، و التبشير بتعاليم المسيحية .
وبهذا فالعلاقة بين السلطتين تقوم على أساس أخلاقي قائم على روح التعاون و المساندة ، وإذا كان لابد من تدخل إحدى السلطتين في مجال الأخرى فيجب أن لا يكون بغرض القضاء على سيادة كل طرف و استقلاله بشؤونه و احترام حقوق الطرف الآخر التي أمر بها الله ، إذ أن المسيح آخر من جمع بين السلطتين ليأمر بعد ذلك بعدم الجمع بينهما وأن كل جمع عبارة عن تقليد وثني لا بد من القضاء عليه، انطلاقا من المقولة التي تنسب إلى السيد المسيح أحيانا و إلى القديس بولس أحيانا أخرى و القائلة :"أعطي ما لقيصر لقيصر وما لله لله".
وبهذا أصبح الأباطرة يحتاجون إلى الأساقفة من اجل الحياة الخالدة و الأساقفة يحتاجون إلى الانتفاع باللوائح الإمبراطورية لممارسة الأمور الدينية". وما يمكن استخلاصه أن هذه الفترة تفصل فصلا تاما شؤون الدنيا و شؤون الدين.
2- 2 سيادة الكنيسة و رفعتها:
غير أن ضعف الأباطرة من جهة ونمو الكنيسة من جانب آخر ونتيجة لانتشار المسيحية جعل التوازن الذي وضعه القديس اوغسطين من قبل يختل لصالح الكنيسة، مما دفع بالبابا غريغوري السابع ( 1073-1085) الى رفض سلطة الامبراطور عندما اعلن أن: "البابا هو صاحب السلطات الاكبر في الكنيسة كلها وهو وحده الذي يعين ويخلع الاساقفة ولا يملك أحد سلطة الغاء القرارات البابوية". لكون البابا يحكم بعون الارادة الالهية وقوة القانون السماوي.
وجاء الفيلسوف الانكليزي الكاثوليكي الوحيد يوحنا السالسبوري (1120-1180م) ليؤكد في كتابه" كتاب رجل الدولة" على رفعة سلطة الكنيسة وسيادتها باعتبارها صاحبة السيفين الروحي و المادي، واذا كانت الكنيسة تحتفظ بالسيف الروحي ، فانها تسلم السيف المادي الذي يمثل السلطة الزمنية- الى أمير ،أو ملك وهي نفس الوقت قادرة على سحب و استعادة هذا السيف اذا خرج الحاكم الذي عينته عن القانون الالهي، طبقا للقاعدة القائلة :"بأن من له الحق في المنح له الحق في النزع " وبالتالي فان للكنيسة الحق الكامل في السيطرة على الامبراطور الذي لا مفر له من الخضوع للكنيسة و رجالها.
واذا رفض ذلك يعرض نفسه للحرمان الكنيسي و العزل من السلطة ، ويصبح اتباعه في حل من بيعته بل وعليهم واجب قتاله لان من يستبد بالسيف لابد وأن يقتل به.
و هكذا فان هذه النظرية تجعل الحاكم تحت رعاية القوة الروحية المتمثلة في الكنيسة ، وهذا ما عرف بنظرية رفعة الكنيسة او بالاحرى وجهة نظر البابوية.
وقد حاول الامبراطور هنري الرابع (1056-1105م) الوقوف في وجه سلطة الكنيسة هذه، غير أن البابا غريغوري السابع اسرع الى اصدار قرار حرمان الامبراطور بوصفه مسيحيا وعزله بوصفه ملكا، مما جعل رعاياه غير ملزمين بطاعته و الاخلاص له ، الشيئ الذي جعل هنري الرابع عاجزا عن الوقوف في وجه سلطة الكنيسة مما دفعه الى طلب عطف البابا ،حيث جاء حافيا وقاطعا الاف الكليومترات ودخل على هذا الاخير ذليلا و في ثوب الرهبان المصنوعة من الصوف وهو يصيح: " اغفر لي ايها الاب المقدس ، فغفر له البابا بعد ان فرض عليه شروطا قاسية وزوده بالنصح والارشاد". وهكذا فشلت كل محاولة للتحرر من سلطة الكنيسة في تلك الفترة.
2- 3 سيادة و استقلال السلطة الزمنية:
غير أن انتشار الروح القومية من جانب ، واتصال الغرب بالحضارة الإسلامية في صقلية و الاندلس وعن طريق الحروب الصليبية وفساد البابوات و التعسف في استخدام السلطات من جانب ثان،اظهر نزعة جديدة وتحررية لدى رجال السياسة في اوروبا ولدى مفكريها ،تحاول ابعاد الدين عن توجيه السياسة.
فعاد رجال الفكر الى القانون الروماني الذي يدعو إلى تركيز السلطة القانونية في الإمبراطور لكون القوانين صادرة من الإمبراطور الذي يمثل ارادة الشعب ولا ينبع من إرادة الكنيسة ، وقد حمل هذه الفكرة ودافع عنها ملك فرنسا فيليب الجميل (1314م) في صراعه مع البابا بونيفاس الثامن (1303م) كما دافع عن سلطة الدولة و استقلالها و سيادتها كثير من المفكرين اشهرهم مارسيلوا البادوي ( 1275-1343).ويليام الاوكامي ( 1295-1350).
فاذا أخذنا كتاب مارسيليو " المدافع عن السلام" الذي صدر عام 1324م فاننا نجده يتحدث عن وظيفة الدولة التي تتمثل في الاشراف على الدين و رجاله، كما تشرف على الزراعة و التجارة ،بل ان الدولة عليها معاملة الكنيسة معاملة لا تختلف عما تعامل به بقية الاديان الاخرى ، لانه لا يمكن اقامة: "الدليل العقلي على الحق الذي تدعو اليه المسيحية".
وجعل دور رجال الدين لا تخرج عن ثلاثة امور و هي :
1- ادارة شؤون الكنيسة وذلك بصرف اموال الكنيسة في اعمال الخير و باشراف الدولة.
2- تثقيف الناس ولكن هذا لا يتم الا باذن من السلطة السياسية وليس للكنيسة حق الارغام الديني او الزمني على رجال الدين او على العلمانيين بل:" ليس للكنيسة سلطان على الهراقطة لان الله وحده هوالذي له حق الحكم على الخطيئة و الخطائين ، لكن السلطة الزمنية حق محاسبتهم على ما جنته ايديهم ان اصابت المصالح العامة كما انها تختص دون غيرها بتنظيم الاديرة و الرهبان و القساوسة".
3- الإشراف على تأدية طقوس العبادة المختلفة.
اما عن سلطة البابا فتعود اما للتعيين او الانتخاب، ولا توجد اشارة للبابوية في الكتاب المقدس وبالتالي فلا فضل لهؤلاء على غيرهم الا بالتقوى و العمل الصالح ، ويبدو أن هذه من اثار الفكر الاسلامي الذي كان منتشرا في جامعة بادوقا الايطالية، التي اشتهرت بطابعها التحرري و انتشار النزعة الرشدية بين طلابها وأساتذتها . فقد جاء في الحديث الشريف:" لا فضل لعربي على أعجمي الا بالتقوى و العمل الصالح".
اما ويليام الاوكامي فقد أورد أفكاره في كتابه "سلطة الأباطرة و سلطة الباباوات" حيث يرى أن البابا لا يحق له حرمان احد من حقوقه الطبيعية ، كما أن الشؤون الدنيوية من اختصاص الناس ، وأن سلطة الإمبراطور ليست مستمدة من الله مباشرة ، كما ليست مستمدة من البابا وانما مستمدة بواسطة الشعب الذي يقوم باختيار إمبراطوره،كما يعتبر ان سلطة البابا المطلقة عبارة عن بدعة و الحاد، ولا يمكن ان يكون معصوما من الأخطاء علاوة على عدم احقيته في تنصيب الإمبراطور و المصادقة على الانتخابات.
وبهذا ظهرت بوادر التحرر من الدين وسلطة الكنيسة التي فقدت السيطرة على الدولة كما سنرى ذلك عند حديثنا عن اللائكية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.