عبد الحميد ابن باديس ..التنويرُ تأصيلاً.. بقلم/ عبد القادر رابحي - 1 - هل كان العلامة عبد الحميد ابن باديس يقبل بأن يُنحت له تمثالٌ أصلاً لو كان حيًّا يرزق بيننا، و هو الذي كرّس معظم حياته لمحاربة تماثيل التخلف و الجهل الأمية و الطُرُقية المصلحية و الخرافات و الفقر أثناء فترة الاستعمار في ذات مواطنيه من الشعب الذي كان يقترب منه قبل أن يحاربها كتصورات كولونيالية استشراقية في خطابات الساسة الفرنسيين و في كتابات النخبة الجزائرية التي كانت تريد الاستحواذ على التصوّرات التحرّرية بموجب ما تقدمه الأفكار النظرية من جنّاتٍ وهمية موعودة للشعب الطامح إلى الخروج من وضعيته الاستعمارية برجالاته المتنورين؟ و هل كان العلامة عبد الحميد بن باديس سيقبل بأن يُجَسّم لشخصه تمثالٌ بهذا الحجم و بهذه الصورة و بهذه الوضعية و هو الذي حاول أن يقدم عن نفسه قدر استطاعته و دون تكلّف صورةَ الرجل العالم العامل المثقف الفاعل المتنقل بين المدن الجزائرية و بين مساجدها و مؤسساتها الدينية و الثقافية طيلة ما قُدّر له من حياة ؟ و هل كان العلامة عبد الحميد بن باديس سيقبل بأن يوضع له هذا التمثال بهذه الصورة وبهذا الحجم و بهذا الشكل وسط مكانٍ عام بشارع من شوارع مدينته، لا هو بالحديقة المفتوحة المغلقة أو المؤسسة الثقافية الكبيرة اللتين تقبلان تماثيل لشخصيات بهذا الحجم و بهذا الشكل، و لا هو بالمتحف التاريخي الذي يرحب بهذا النوع من الأعمال الفنية نظرا لكونه محميّا داخل مؤسسة محروسة من أيّ تلف أو تلاعب أو طيش خارج عن نطاق ما يجب احترامه في الفن عموما و في فن النحت على الخصوص؟ - 2 - و لعل ما يوحي به تمثال العلامة عبد الحميد بن باديس و هو يأخذ المكان الذي اختير له في مدينة قسنطينة - في مناسبة يوم العلم و في يوم افتتاح نشاطات قسنطينة عاصمة الثقافة العربية-بهذا الشكل و بهذه الوضعية وخاصةً بهذا الحجم هو التصوّر البسيط و ربما الساذج الذي يحمله من حملوا فكرة تحقيق تمثال بن باديس و من جسدوا صورته الرمزية العظيمة في أذهان الجزائريين بهذه اللمسة النهائية الغريبة. و من دون محاولة الحكم مسبقا و لا لاحقا على النوايا، يخطرُ ببال كلّ من شاهد تماثيل العشرات بل المئات من الزعماء و المفكرين و المثقفين و الفنانين في الساحات العامة و في الحدائق و في المجمعات الثقافية الكبرى في العواصم العالمية و في متاحفها : أولا - أن ثمّة تناسيا كبيرا أو جهلا بثقافة إدراج التماثيل في الساحات العامة بوصفها رموزا لقيمة إنسانية واستحضارا دائما لحدث تاريخيّ و تأصيلا مستمرا للأيقونة و ما تستدعيه من ذكرى في خضم السيرورة التاريخية بما هي رمز حامٍ للقيمة الإنسانية و سلطة مُجَسِّمة لها وقعُها المؤثّر على المُشاهد، و كذلك بما هي حضورٌ ثقيلٌ بحجم الجسد المفارق للقيمة الحقيقية بالنظر إلى ما يمثله الجسد/ التمثال من أفكار ذات سلطة و قوّة و نفوذ. و لعل أيَّ تصغير لهذه الأبعاد المادية الثلاثة في تحقيق مجسّم لقائد تاريخيّ أو مفكر أو رجل دين هو تصغير لقيمة الشخص الذي يريد أصحاب المشروع إبراز قيمته و استحضارها يوميا في واقع الناس المرتادين للمكان الذي يُوضع فيه بصورة نهائية و دائمة. ولعل هذه القيم هي التي تجعل لتماثيل الزعماء و المفكرين و الأبطال والفنانين و المبدعين قوّةَ حضورٍ مهيمنةً في واقع المكان و في أعين مرتاديه من الأفراد مع مرور الأزمنة و تغيّر المعطيات التاريخية، إذ يصبح التمثال رمزا لأمّة و ليس رمزا لحقبة عابرة أو تجسيدا لمرحلة معينة أو استحضارا قسْريا لفكرة مرفوضة. ذلك أن الرمز في هذه الحالة هو القاسم المشترك الذي يتحوقل حوله المرتادون من الأفراد المختلفين في الأطروحات و الجماعات المتناقضة في المواقف، و لا يمكن أن يكون مفرقا للأفراد و مستدعيًا لتناقضاتهم التاريخية و الثقافية و لخلافاتهم الإيديولوجية و السياسية. - ثانيا: أن ثمّة تناسيا كبيرا أو جهلا بثقافة المجسمات و علاقتها بالمكان ناهيك عمّا يمكن أن يحمله فنّ النحت من رموز ومفاتيح و أبجديات، كغيره من الفنون، يعرفها أهل الاختصاص معرفة دقيقة، و ليس هنا مجال الخوض فيها. فلا يمكن أن نتصور عدم وجود علاقة بين مكان هو ساحة عمومية اختير قصدا لوضع مجسم ما و بين علّو المجسم وحجمه و شكله و وضعيته التي يقابل بها مرتادي المكان و مادته التي صنع منها و رموزه التي يجب أن تتحقق في شكل المجسم حتى يؤدي دوره بأكمل وجه. و أوّل أدواره هو هالَتُه المهيمنة بالفن و عن طريق الفن و التي تجبر المشاهد الحاضر على الاحترام و تؤدي به إلى استرجاع قيمة ما يمثله المجسّم من رموز دينية أو تاريخية أو ثقافية أو جمالية. - ثالثا: أن ثمّة تناسيا كبيرا أو جهلا بواقع المجتمع الجزائري و ما يعتري علاقة الفنانين به من سوء فهم كبير، و بمستوى تلقي أفراده للعمل الفني المجسّد في المكان المفتوح خاصة و في الفضاءات العامة التي عادة ما تكون مطيّة لاعتراض غير متحضر من خلال تشويهها عمدا أو غيرة أو جهلا، و أو تحطيم أجزاء منها خاصة إذا كانت في مستوى أيدي من يمكنه أن يعبث بها من دون جهد لأنها في متناول كلّ شخص مرتاد للمكان الذي وضع فيه خاصة إذا كان على مقربة من الأيدي و على مسافة سافلة من أيّ نيّة مبيّتة في المساس به. - 3 - لقد قام العلامة عبد الحميد ابن باديس أكثر من كل التنويريين غيره طيلة حياته بعمل تنويري متصل اتصالا حميميا بالواقع المعاش للشعب الجزائري أثناء فترة حساسة من تاريخ الجزائر و هي ترزح تحت نير الاستعمار الغاشم من خلال محاربته لكلّ الظلاميات التي كانت تعشّش بسوء فهم رهيب لمنطلقاتها و لمقاصدها في بنية الذهنية الجزائرية في فترة عصيبة من تاريخ الجزائر الكولونيالية، و ذلك من خلال وقوفه في وجه خزعبلات الفكر التي تحوّلت إلى يقينيّات معرفية و رؤى متسلطة تُدثّر بليلها المظلم كلّ محاولة للتفكير المتنور من خارج الأسيجة التي أسس لها المستعمر من خلال التصوّر التراتبي للمواطنة بناء على المقابلة العمودية بين (المواطن) الفرنسي و ( الأنديجان) الجزائري. و هو بذلك قد واجه بكلّ شجاعة- و كان بإمكانه ألا يفعل تماما مثل الكثير من المثقفين التنويريين و من المتدينين أمثاله ممّن آثروا السكوت الحكيم المشفوع بالسلامة- أقْذعَ مرحلة وأخطرها ممّا شهدته الجزائر من تزييف للتاريخ و للوعي و للنضال، كما واجه أشرس مرحلة حاولت فيها النخب المتصارعة أن تتمسّك بخيار التفنج المعرفي داخل المقولات الكبرى من أجل تسجيل مواقفها في ما ستستعمله دليلا ماديا على نضالاتها النظرية المخلصة نظرا لقربها، بحكم الثقافة و اللغة، من وسائل اتصال عصرية في ذلك الوقت كانت أقرب إلى استعمالها في إيصال أفكارها المتلونة ومواقفها المتبدلة إلى عموم الناس ممّا كان لدى لجمعية محروسة سياسيا و محدّدة نشاطا، و مما كان لابن باديس كرجل علم فَرْدٍ من وسائل تبيّن أنها على قلّتها كانت أكثر خطورةً على المستعمر من عديد الكتابات التي استعملت هذه الوسائل العصرية الكبرى و تمادت في استعمال فائض الفكر التنويري في أطروحاتها النضالية من أجل الوصول إلى واقع كان ابن باديس قد أدركه بحكم اتصاله الحقيقيّ به قَبْلاً، ومن أجل الحصول على نتيجة كان ابن باديس قد نبّه إلى خطورة التخلي عنها قَبْلاً، و من أجل السير في طريق أثبت الزمن أنه كاد أن يودي بالبلاد والعباد إلى الهاوية كان العلامة ابن باديس قد حذّر منه قَبْلاً. و لعله لم يكن ممّن يفرحه اعترافٌ بعد إنكار أو يُؤنسُه تقبُّلٌ بعد جحود. - 4 - و على الرغم ممّا يمكن أن يؤخذ على الشيخ عبد الحميد بن باديس و جمعيته طيلة فترات عملها الدءوب أثناء الاستعمار من مواقف تاريخية تبيّن فيما بعد أنها لم تكن متناسقة مع اللحظة التاريخية في تسارعها الرهيب نحو الانفجار قبيل الثورة الجزائرية، أو من مواقف متماهية مع التصورات الاستعمارية قبلها، و هي مواقف كثيرا ما استعملت في غير محلها و في غير أهدافها من طرف مناوئيه الفكريّين الذي كانوا يسيرون في توجهه نفسه كما هو الحال بالنسبة لموقف مالك بن نبي من منهج جمعية العلماء و من توجهاتها على سبيل المثال لا الحصر، أو من طرف مناوئيه الإيديولوجيين و السياسيين ممّن انزعجوا من تحقيق الرؤية التنويرية داخل المنظور الإسلامي المحافظ من أجل ضرب القيمة الفكرية التي أسّس لها عبد الحميد بن باديس، فإنه من الواجب بل من الضروري الاعتراف، إن عاجلا أو آجلا، بالفعل التنويري السابق للعديد من الأطروحات التنويرية ذات التوجهات الحداثية التي أسس لها ابن باديس و جمعية العلماء في بنية الخطاب الثقافي و الفكري الذي كانت تتبناه على الرغم من قلّة الإمكانيات وخذلان الاستعمار و بعض بني الجلدة . و هو الفعل الذي يراد له اليوم أن يُغمط حقّه في الذّكر، و أن يمحى بعضه أو كلّه من مدونة التاريخ الثقافي للجزائر المعاصرة، و أن يتهّم بحقّ أو بغير حقّ بطرق لا تترك أي فرصة للفكر المتأصل في أن يتنفس و يعدّ أخطاءه المنهجية إن وجدت ، أو أن ينقد مواقفه التاريخية إن تحققت، أو أن يبتعد عن اعوجاجاته الفكرية و الموقفية إن أثبت التاريخ أنها كانت فعلا كذلك. كثيرا ما كان فكر العلامة عبد الحميد بن باديس مطية للأحكام الظالمة و للمسلمات الخاطئة و للمواقف المُزايدة. و كثيرا ما تناسى المثقف الجزائري في راهن بحثه عن مسبّبات الحرن الوجودي الذي يعيش فيه مجتمعنا الجزائري هذا الدور الكبير و النافذ لعالمٍ علاّمةٍ قدوةٍ لعب دورا محوريا في تثبيت العديد من القيم الفكرية و اللغوية والمعرفية في عمق الذات الجزائرية و التي لم يستطع أحدٌ من الكثير من المثقفين الذين أنجبتهم الجزائر في الفترة نفسها أو من جاء بعدهم أن يكون واعيا بخطورة اختفائها من بينة المجتمع الجزائري، أو أن يكون حريصا مثل ابن باديس على استعادتها وإعادة إحيائها في ذاكرة الأجيال الجديدة التي عاصرها. و لعله بهذا الفعل كان سبّاقا إلى طرح كل الإشكالات الكبرى التي كانت تعترض سبيل تحقيق رؤية متنوّرة تأصيلاً و متأصلة تنويراً لمجتمع عانى من الاستعمار طويلا والتي كان يتباهى بها تنويريّو الصالونات و مثقفو اللحظات الحاسمة من تاريخ الجزائر المجاهدة و هي تريد الخلاص النهائي من الأسر الكولونيالي، و يحتكرون أفكارها و يدعون احتكار حلول نهائية و دائمة لما كانت تطرحه هذه الأفكار على الذات الجمعية من أحقية هذا للشعب الجزائري بالوقوف في وجه الانسياق و الاجتثاث و التغريب. - 5 - و لعله بهذا الفعل كذلك لم يكن العلامة عبد الحميد بن باديس ليترك مجالا أمام خصومه هو من أكثر المجالات حساسيةً و أخطرها على الإطلاق على بنية المجتمع الجزائري المتأهب لخوض معركة مع من أدى به إلى الوصول إلى هذه الحالة من الترهّل و الضعف و الافتقاد النهائي للإرادة. إنه المجال الذي لا زالت الجزائر المعاصرة تعاني من تبعاته و الذي لا يمكن إلاّ أن يكون مجال معركة المفاهيم الكبرى التي كان واعيا بخطورتها على المجتمع الجزائري و بخطورة اندراجها بشكل ما من الأشكال في بنيته الذهنية و المعرفية. إن ما لا يمكن أن ينكره عقلُ أيّ عاقل و هو يلاحظ ما يتعرض له ابن باديس من هجوم كاسح طيلة السنوات الأخيرة لا يمكن إلاّ أن يدرك أن هذا الهجوم ليس بسبب مواقف تاريخية أو توجهات سياسية أخطأت، كغيرها كثير، تناسقها الجوهري و الوجودي مع الحركة التاريخية ولم تخْلُ منها رؤيةٌ فكرية أو أيديولوجيّة عاصرت المرحلة الكولونيالية، كما لم يخْلُ منها أيُّ تمركزٍ سياسيّ حمل القضية الوطنية همّا دائما في نضالاته ضد الاستعمار الفرنسي، و إنما هو بسبب مشروعه التنويري المتأصل الذي تتعمّد العديد من القراءات إدراجه في طي النسيان، لا في ما يمكن أن يحمله من تصورات قد لا تتناسب مع اللحظة التاريخية بما تزخر به من اكتناز رافض للذات بما هي وجود مُنقِذٌ، و لكن فيما يدعو إليه من أفكار و بما يصبو إليه من طموحات لتحقيق هذه الذات الباحثة عن خلاص نهائيّ ممّا يعتريها من وهن و من ضعف و من شكّ. أمّا عن حجم الرمز الذي يمكن أن يحمله تمثال العلامة ابن باديس و مكانه و صورته فأكيدٌ أنها في ذهن كلّ مرتاد لساحة فكرية لا تتخذ من التنوير مطية إيديولوجية و سياسية من أجل العودة بالمجتمع الجزائري إلى الدرجة الصفر من التفكير في تناسي كيفية خلاص الذات من أسر الآخر. و لله درّ الشاعر حين قال: و إذا كانت النفوس عظامًا°°° تعبت في مرادها الأجسامُ.