مشروع الأبراهيمي التنويري لا زال قائما في عدد اليوم من «كراس الثقافة»، يستعيد بعض الدكاترة والباحثين والمشتغلين في الحقل النقدي والتاريخي والفلسفي، سيرة العلامة البشير الإبراهيمي، التربوية والإصلاحية والتنويرية. ويقاربون ويحللون بأدوات نقدية تفكيكية، الفكر التنويري للإبراهيمي. كما يتطرقون إلى مشروعه الإصلاحي والتنويري، بأفكار جريئة تحاول أن تقترب من تراثه الفكري والأدبي، ومن نقاط أخرى تضيء حولها وعليها، بكثير من المجادلة والمساءلة. فكيف يرونه وكيف تجلت أفكاره في مقارباتهم، وماذا عن سؤال التنوير، وهل يمكن أن يكون التنوير فعلا وجوديا يهدف إلي تغيير نظرتنا إلى ذاتنا وإلى العالم؟ وبأية رؤية يمكن استثمار قيم التنوير في واقع مأزوم يعاني الكثير من الأعطاب والأعطال؟ وهل كان التنوير عند الإبراهيمي مُستنبتا من داخل الإنسان؟، وكيف يمكن أن تُسعف رؤية الإبراهيمي التنويرية في أن تدشن أو تضيء الراهن ومشروع التقدم، وما معنى أن يكون الإبراهيمي تنويريا؟. هذه الأسئلة والإشكالات والمحاور، سيتحدث عنها وبشأنها، في ملف اليوم، عدد من الأكاديميين والدكاترة والباحثين. استطلاع/ نوّارة لحرش عبد القادر بوعرفة مؤرخ و أستاذ جامعي - جامعة وهران 2 سؤال التنوير عنده ينطلق من أرضية تحديد مفهوم العقل كنت نشرت منذ سنتين دراسةً نقديةً حول العقل الإصلاحي الجزائري، حيث اعتمدنا على تحليل وتفكيك نصوص علماء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في مجال العقل والثّورة، ثم إعادة بنائها وفق نسق تراكمي تاريخي، والغرض من ذلك معرفة بنية الخطاب الإصلاحي من خلال القضايا «الثّيمات» الأكثر التصاقا بالواقع والمصير، واكتشاف السؤال الأكثر حضورا وتحريكا وتحفيزا لهواجس الذّات المُغتربة في أرضها بفعل الاستحمار والتبعية. توصلنا في تلك الدّراسة إلى حقيقة مفادها أن الخطاب الإصلاحي كبنية وكمشروع لم يكن فاشلا ولا ذو نكوص حضاري، بل هو خطاب لم يجد الأرضية الشعبية التي تحتضنه مثلما احتضن الشعب الأوروبي خطاب التنوير، فالنقد لا يجب أن يمس بنية الخطاب فحسب بل كذلك يجب أن ينقد الحاضنة الاجتماعية. يجب الاعتراف أن أي خطاب فلسفي أو اجتماعي إذا لم يجد الحاضنة الاجتماعية فلا يكتب له النجاح الميداني، بل سيبقى مجرد خطاب حالم. واعتقد أن الخطاب الإصلاحي كان جد متقدم من حيث الحمولة المعرفية وحتى اللغوية عن مستوى الحاضنة الاجتماعية، فالحاضنة الاجتماعية كانت تستقبل مقولات الدروشة والطرقية لكونها تنسجم مع المستوى المعرفي واللغوي لفئات المجتمع الجزائري، بيد أن الخطاب الإصلاحي كانت تنفر منه لعدم قدرتها على استيعابه معرفيا ولغويا. لم يتم الاقتراب –التآنس- من الخطاب الإصلاحي إلا بعد الحرب العالمية الثانية، ولم تقترب منه إلا بعض الفئات المثقفة، ونقصد بها الفئات التي خرجت من رحم بيوتات العلم والمعرفة، أو تلك الفئة التي صقلتها المشاركة في الحربين العالميتين. ينطلق سؤال التنوير عند البشير الإبراهيمي من أرضية تحديد مفهوم العقل والتنوير أولا، ولكن قبل أن يُحدد المفهومين السابقين ينطلق من مسألة في غاية الأهمية تتمثل في تحليل ظاهرة الكمال والنقص في الملكة الإنسانية، وهذا ما تبينه بعض كتاباته، مثل: «إن الكمال والنقص وصفان يتعاقبان على الفرد كما يتعاقبان على المجموع. وهذا الإنسان العاقل خلق مستعدا للكمال وقد هيّأ له خالقه الحكيم أسبابه ومكن له وسائله ونصب له في داخل نفسه وخارجها أمثالا يحتذيها لبلوغ الكمال». يجزم الإبراهيمي أن الكمال المطلق متعذر على الإنسان، وأن الإنسان قد يصل إلى الكمال النسبي لنسبية العقل ونظائره، ومنه يصبح العقل في بنيته أيضا نسبيا وغير كامل: «ومما علمناه من شؤون الاجتماع البشري أن الكمال فيه نسبي إضافي، فما من كمال إلا وفوقه كمال، وأن الكمال في المجموع متوقف على الكمال في الأفراد وأن النقص في المجموع مترتب على النقص في الأفراد، فمتى أخذ الأفراد بأسباب الكمال وسلكوا له وسائله كمل المجموع». ومما سبق وضع البشير الإبراهيمي العقل الإنساني ضمن ثلاث مستويات وظيفية: عقل تعميري، عقل إصلاحي، عقل أخلاقي. ويقابله العقل التدميري الذي يرفض الفكر الإصلاحي أن يتم تدمير الإنسان وقيمه به سواء كان تدميرا باسم الله والنّص أو كان تدميرا باسم الإنسان والحرية، فالعقل التّدميري ليس فقط ذلك العقل المندس ضمن حنايا الفتوى والتكفير بل هو كذلك ذلك المندس ضمن مقولات الحرية والإباحية. يتجه العقل الإصلاحي من خلال كتابات الشيخ الإبراهيمي وعبد الحميد ابن باديس نحو التعريف الوظيفي لا نحو التعريف الماهوي، لأن التعريف الماهوي يحاول أن يجعل العقل ملكة مقدسة معصومة، بيد أن التعريف الوظيفي يجعله مجرد أداة مشروطة بقيم الاستخلاف والتعارف. إن العقل الإصلاحي له من مسوغات الحضور في واقعنا ما للعقل اليوناني من الحظوظ في الفكر الغربي المعاصر لكن المشكلة ليست في ما تبقى اليوم من الفكر الإصلاحي بل المشكلة في طريقة التعامل معه، إذ لابد أن نحوله من مقام التمجيد إلى مقام المساءلة بغية التفكير من خلاله لكي نتقدم معرفيا. اليامين بن تومي ناقد و باحث أكاديمي الإبراهيمي كحدث لم ينقطع بل ما يزال يعيش تلاحقه في وعينا ليبني تنويرا خاصا ما معنى أن نستدعي الإبراهيمي اليوم؟. هنا داخل الراهن لينخرط معنا كحدث مهم يمكنه أن يساهم ليس في تعريف الأنوار، فتلك مزية كانت لغيرنا، لأن الحاجات لا تكون في أولها واضحة، إنما تندفعُ حين تتوفر النزعة نحو التغيير، قد تكون بين الحاجة وقدرتنا على جلب الحاجة، بل وإرادتنا على تنفيذ تلك الحاجة وخلقها. لذلك ينخرط الإبراهيمي ضمن إطار آخر هو حاجةُ حالتنا الراهنة، أي الحقل الحالي لتجاربنا الممكنة، أي ما يمكننا تسميته بأنطولوجيا الحاضر أو أنطولوجيا نحن؟. فما الدافع من وراء هذه العلاقة، الإبراهيمي والأنوار، ذلك أن الإبراهيمي يحمل داخله طيات عبارية يمكنها أن تتفاعل بين مشتركين: -الإبراهيمي كونه حدثا تاريخيا استطاع أن يساهم في تحرير الجغرافيا من الاعتقال الاستعماري. -نحن كوننا حاضرا نعمل على تخليص العقول من أشكال الدوغمائيات التي قدمت منظورا أحاديا للتاريخ، وبالتالي أن نتحول إلى فاعلين من خلال تحريك تكتُوني للطبقات الأنوارية التي تتدافع في شكل وعي جمعي لتتحقق الحاجة للأنوار في مقابل هذا التراكم المريع للظلمات. أي بإيجاز، طبقة الإبراهيمي تكتنز في عمقها قدرة تربوية وتعليمية لنا نحن لنتعلم كيف نخرج من حالة قصورنا، إنني أقصد ما ذهب إليه كانط في رسالته ما الأنوار حين قال «إنها خروج الإنسان عن حالة قصوره، ذلك القصور الذي يكون الإنسان ذاته مسؤولا عنه، والسبب فيه لا يعود إلى عيب في الفهم، وإنما يرجع إلي غياب القدرة على اتخاذ الموقف والشجاعة في استخدام الفهم دون قيادة الآخرين»، إن شعار الأنوار يتلخص في عبارة أجرؤ على استخدام فهمك الخاص، وهنا كانت الحاجة للجرأة تلك ليس من خلال مبدأ التمثل الذي يعنى تمثل جرأة الإبراهيمي في زمننا، فهذا يوقعنا في مَطبٍّ ضد الأنوار. وإنما فهم الأنوار يمكننا من خوض التجربة بعيدا عن القوالب الجاهزة. إنه فتح لأفق التجربة لأن تجربة الإبراهيمي لم تكتمل بعد، وسؤال الأنوار لم يأخذ وضعه الأنطولوجي الأمثل. بل التجربة تحتاج منا توسعة للمجال، والمجال ينبني على تلك التفاعلية الأنوارية بين الفاعلين الاجتماعيين لتحقيق الوعي التاريخي المطلوب، فتجربة أفق الإبراهيمي بدأت فقط، ولم تكتمل، لذلك فهي ما تزال ناقصة من جهة التدافع، تحتاج إلى استمرارية هنا في فضائنا، ففعلها يتحقق فينا من خلال إشاعة الأنوار ذاتها وذلك باستمرار النقد كضرورة ضد الجاهز والكرنفالي والريعي لبناء الدولة. وعليه، فالإبراهيمي كحدث لم ينقطع بعد بل ما يزال يعيش تلاحقه في وعينا ليبني تنويرا خاصا هنا. وأن لا يظل سؤال التنوير مسألة أرشيف يحتاج أن ننفض عنه الغبار، بل يحتاج إلى توسعة للفضاء وإلى خلق الممكنات القصوى لإزاحة الطبقات الرُّسُوبية الأولى لخلق أنوار جديدة تخصنا وهي أنوار تحمل داخلها استمرارية وليست قطائعية. يفرض علينا مبدأ الأنوار أن نتفكر بدايةً وضعية الإبراهيمي، أي نُعلِّق كل حكم سابق ساهم في تعالي الشيخ وجعله فوق النقد، فالنقد يُمكِّننا من بناء تصور متفرد لفكر الرجل، ومن ثمة للعالم، ويُمكِّننا بالتالي من أن نقطع مع الفهوم السابقة لبناء فهمنا الخاص من خلال تجاوز التجربة السابقة لحصول تجربة الفهم هنا. وكذلك توسعة مجال التجربة الوطنية للخروج من كل الإكراهات التي في ممكنها تحجيم تصورنا للعالم والإنسان. إن أي حكم يكون داخل الجبة يصبح في ذاته اعتقالا تاريخيا للذات وتنميطا لصورتها، فعملي مزدوج تخليصُ صورة الإبراهيمي من كل الصور النمطية لتوسيع التجربة ومدها، وتخليصنا نحن من الإعجاب الذي قد يجعلنا مقلدين لا مبدعين. أي أن هذه الرؤية الأنوارية تهدف إلى تحرير الذات من كل أشكال الارتهان إلى الأيقنة، أو ضد أية دوغمائية تُحاصر تَفكُّر الشخص، فهذا الترتيب أنواريا معناه تحرير إرادة الكينونة في أن تقرأ في نمط واحد قاصر على إعادة عقلنة حدث الإبراهيمي. عبد الغني بارة/ ناقد و باحث أكاديمي -جامعة محمد لمين دباغين سطيف2 مشروعه تشكّل داخل مجتمع يعاني من غياب مشروع فكري إنّ التنوير بما هو همٌّ أنطولوجيٌ يعمد إلى تشييد عالم الذات انطلاقًا من معطى أنا أتحرّر/أنعتق من إسار أوهام الذات، وأن يكون لاستعمال العقل في ذلك نصيبٌ، ومن ثمّ تدرك الذات أنّ الوعي بذاتها، أوّل الأمر، هو وعي بالعالم والأشياء لاحقًا، حينها يغدو التنوير جهازًا معرفيًا تتجاوز به الذات كل ما هو دوغمائي ووثوقي و واحدي. فتنوّر تصبح، والأمر كذلك، أصلحْ ذاتك وتغيّر عمّا أنت عليه، بحثًا عن آخرك الذي يسكن مناطق الغياب فيك. فمقاربة المشروع الإصلاحي للإبراهيمي ضمن هذا الأفق المعرفي، أي التنوير، لا يعدو أن يكون ترهينا لنصوصه وتأويلها، بما هي نصوص لمّا تكتمل. هذا، واللافت في مشروع الإبراهيمي، خلافًا للرؤية السكونية أو القراءة الخطية التي صادرته، أنّه تشكّل داخل مجتمع يعاني من غياب مشروع فكري يواجه به مختلف أشكال الاستلاب التي كان يمارسها المستدمر الفرنسي (طمس الهوية، نشر الفكر الطرقي، قتل الإحساس بالوجود)، لذا فهمّ الرجل انخرط ضمن مشروع كلّي، ألا وهو تنوير/تحرير العقول وإصلاح الذات ليتحقق بعدئذٍ تحرير الأرض. وقد أدرك الإبراهيمي، بوعيه التنويري/الإصلاحي، أنّه لا يمكن لهذه الأمة أن تنتمي إلى نادي الإنسانية ما لم تلتفت إلى ذاتها، بحثًا عن تجسيد كينونتها في هذا العالم، وتحقيق حريتها. فالحرية، كما يقول كانط، هي فرصة الإنسان الأخيرة للانخراط في العصر والإقامة في هذا العالم على نحو إطيقي. فهل نملك، والحال هذه، أن نستعيد الإبراهيمي، تحيينا لنصوصه، فهمًا وتأويلاً وإتاحة الفرصة له للدخول إلى كل هذا. محمد بوعبدالله/ باحث أكاديمي مقيم في لندن التنوير عند الإبراهيمي يأتي من داخل منظومة القيم الإصلاحية أنا مهتم بالنزعة النقدية عند الإبراهيمي، وفي مقاربتي له، حاولت معالجة المنهج النقدي الذي تحلى به الإبراهيمي في مسيرته الإصلاحية وتَمثَّله في شتى مناحي هذه المسيرة، وقد كان نقده يتمحور في أربعة اتجاهات رئيسة: نقد الإنسان ونقد الواقع الديني، أو كما سماه هو «التصحيح الديني» ونقد الواقع الاجتماعي وأخيرا النقد اللغوي. وهذه المحاور تتداخل فيما بينها في كثير من الأحيان، وهذا ما جعل الإبراهيمي يمارس نقده في جانب من هذه الجوانب ليعبر إلى جوانب أخرى. ففي نقده للإنسان نجده يخص ثلاث فئات: الإنسان العادي، والذي عاب عليه الإبراهيمي جهله وجموده، وتقصيره في الإنفاق على المشاريع الحضارية العظيمة. كما انتقد أيضاً المثقفين، ودعا إلى مراجعة مفهوم المثقف ودوره المنوط به في إحداث التغيير المنشود. كما عالج الغرض من عملية المثاقفة، مبرزا أهمية الأخلاق وجعلها ميزة تميز المثقف في الغرب عن المثقف في المجتمعات الإسلامية. ومما يلاحظ على هذا النقد أن الإبراهيمي دعا إلى «حلف فضول ثقافي» يتلاقى فيه المثقفون من مشارب مختلفة، لينهضوا بالأمة ويأخذوا بأسباب تقدمها. أما الفئة الثالثة والتي نالت النصيب الأكبر من هذا النقد، فهي فئة العلماء. ولأنها المعنية الأكبر بهموم الإصلاح فقد أولاها الإبراهيمي نقدا لاذعا محاولا تقويمها في سبيل الإجابة عن هموم الإصلاح. وقد جاء نقد الإبراهيمي للعلماء، ليعبر من خلاله إلى نقد الواقع الديني والمتمثل في طرائق التعليم والدراسة، والتي يجب في رأيه أن تبتعد عن منهج التلقين والتلقي، وتفعّل منهج النقد والمدارسة وطرح الأسئلة، وإلاّ فإنها ستبقى حبيسة النظر التقليدي الذي لا يستطيع الإجابة عن الإشكالات التي تطرحها مناهج العلوم الحديثة. وكما نلاحظ فإن هذا التصحيح الديني، لا ينفك عن نقد الواقع الاجتماعي والذي هو نتيجة لما تقدم، أي لنقد الإنسان ونقد الواقع الديني. هذا الواقع الاجتماعي الذي أفنى الإبراهيمي عمره في تقويمه وإصلاحه، متمثلا فيه مسيرة رواد الإصلاح. وفي نظر الإبراهيمي فإن كل ما سبق، لا يؤتي أكله ما لم يصاحبه تصحيح لغوي، يعتني بأهم ما تملك المجتمعات وما يشكل هويتها وتميزها، وهي اللغة. ولا شك أن الإبراهيمي هو فارس هذا الميدان وإمام العربية بلا منازع، له فيها جولات، دلّت على مقدار حنكة الرجل في إدارة الصراع اللغوي، واستطاع بصبر وجلد أن يجعل من نقده هذا مدخلا لتصحيح الوضع اللغوي على مستوى المجتمعات وعلى مستوى المؤسسات. أما عن السؤال حول أهمية الإبراهيمي وفكره التنويري، فإني أرى أن التنوير عند الإبراهيمي يأتي من داخل منظومة القيم الإصلاحية التي نذر نفسه للدفاع عنها، وهو في هذا حلقة كبرى من حلقات رجال الإصلاح في العالم الإسلامي بدءا من جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وليس انتهاء برجال جمعية العلماء. وإذا كان لنا أن نحدد معالم نزعته النقدية، حتى نتلمسها وتسعفنا في تشكيل منهج نقدي متكامل، لنَعْبُرَ من خلاله قنطرة الرقي والتقدم، فإنه يمكن أن نجمل هذه المعالم في ثلاث: الواقعية في النقد: إذ لم يكن مثاليا في نقده، ولم يكن من أولئك الذين يعلّقون آمال الأمة بالأوهام والخيال. وكان يشفع نقده بحلول عملية يستطيعها كل أفراد الأمة. تعامله مع التراث كمكوّن واحد، لا يفرق فيه بين علم وآخر، وقد ساعدته موسوعته المعرفية -كما أسلفنا- في القدرة على مسج التراث، وتوظيف كل علومه في خدمة منهجه النقدي الذي سطّره لنفسه. تجرّده في النقد وموضوعيته الشديدة: فنجده يعمل منهجه النقدي في الأفكار والآراء دون الأشخاص والأفراد، وهو إنصاف قلّ نظيره. نحن ندّعي أنّ استقلالية الإبراهيمي الفكرية وعقليته النقدية الجريئة غير المتهيبة -وغير المتسيبة أيضاً- والتي تطرح الإشكالات والإستشكالات، وتحاول الإجابة عنها بنظر منهجي متزن، يراعي فيه المناهج العلمية النابعة من تراثه، هي أشد ما نحتاجه اليوم في سبيل تدشين مشروع التقدم. بشير فايد/ رئيس اللجنة العلمية لقسم التاريخ و الآثار -جامعة سطيف تصوراته التنويرية و إن لم تتجسد في زمنه فإنها لا تزال عملية و فعالة في الحاضر و المستقبل بالرغم، من أن الشيخ البشير الإبراهيمي، قد اعترف في أكثر من مناسبة، بأن الوضع الذي أصبح عليه العرب والمسلمون في عصره، يدعو إلى اليأس والقنوط وحتى إلى الكفر على حد تعبيره، بسبب التخلف التام والانحطاط الشامل، اللذان خيما على الحياة العربية والإسلامية، التي تجمد فيها كل شيء، ولم تعد قابلة للحركة، وكأن العرب والمسلمين كانوا يعيشون في زمان غير زمانهم، أبدانهم حاضرة وأرواحهم غائبة. بالرغم، من كل ذلك، أبقى الإبراهيمي على الأمل، في إمكانية تحقيق النهضة، وانتشال العرب والمسلمين من هامش التاريخ، وجعلهم يستعيدون المكانة الحضارية الريادية، التي فقدوها منذ زمن طويل، لأنهم في تقديره: يتوفرون على كل مقومات الازدهار والتقدم المعنوية والمادية، التي قد يتفوقون فيها حتى على الأمم التي قطعت أشواطا كبيرة في الرقي والتقدم، مثل أوروبا واليابان. فليس مستحيلا في نظره على الأمة، التي استطاعت أثناء القرون الأولى للإسلام، أن تنجز مدنية عدت نموذجية في جمعها بين القيم الروحية والإنسانية من جهة، وبين الانجازات العلمية والتقنية والمادية من جهة ثانية، أن تعيد الكرة مرة أخرى، وتتبوأ الدرجة ذاتها. خاصة، أن المدنية الغربية المعاصرة، قد كشفت أنها لا تول أهمية تذكر، للقيم والمثل العليا، بقدر اهتمامها باستغلال الشعوب الضعيفة، ونهب مقدراتها الاقتصادية ومواردها البشرية، وهو سبب كاف سيؤدي في نظر الإبراهيمي إلى سقوطها وزوالها، لأنها تسير على قدم واحدة أو تطير بجناح واحد، فالحضارة التي تعمر طويلا وفق تصوره، هي التي تتمكن من استيعاب أهمية التوازن بين المادة والروح، ذلك التوازن الذي يمثل جوهر الدين الإسلامي، الذي تدين به شعوب كثيرة في المعمورة. ومنه، فإن الإبراهيمي، لم يكتف بسرد وكشف الأسباب، التي جعلت الشعوب العربية والإسلامية، متخلفة في كل المجالات، بل اجتهد في وصف العلاج الذي ينبغي القيام به، حتى تتحقق النهضة الشاملة، التي ظلت هدفا لكل قادة ومفكري القرنيين التاسع عشر والعشرين من العرب والمسلمين، وهي تصورات تنويرية وإن لم تتجسد في زمنه، فإنها برأينا لا تزال عملية وفعالة في الحاضر والمستقبل، لأنها جاءت عامة لا ترتبط بزمان أو مكان محددين، ونعني بعدم ارتباطها بمكان معين، أنها قد تكون مفيدة حتى لغير العرب والمسلمين في بعض جوانبها. إن أسباب تخلف الشعوب العربية والإسلامية، في تحليل الشيخ البشير الإبراهيمي، عديدة ومتشعبة، صنفها إلى خمسة أسباب أساسية هي: فساد علماء الدين وانحرافهم، تعطيل العمل بالدين الإسلامي، الحجر على الاجتهاد والنزوع إلى النقل والتقليد، فساد الأخلاق ووهن العزائم، وأخيرا الاستعمار الروحي أو العقلي الذي يعني الغزو الثقافي والفكري، تنضوي تحتها أسباب أخرى ثانوية أو فرعية. إمكانية الإصلاح لتحقيق النهوض الحضاري، ممكنة جدا في نظر الشيخ الإبراهيمي، ليس لأنه ممن يتفاءلون لمجرد التفاؤل، وإن لكونه كان يرى أن الأمة بالرغم من كل شيء، ما زالت تحتفظ ببعض عناصر القوة، التي لم يقض عليها ذلك الواقع المزري الذي كانت تعيشه، ويجب تثمينها وتفعيلها بوعي وتدبر، تماما مثلما فعل العرب الأوائل، الذين استطاعوا بفضل اندماجهم السريع في الدين الجديد، أن يتحولوا من قبائل تعيش على هامش التاريخ في مجاهل الصحراء العربية الكبرى، إلى أمة تبدع وتنتج وتساهم بفعالية في الفعل الحضاري والعلاقات الدولية، أو إقتداء بالنماذج الحديثة، وعلى رأسها النموذجان الأوروبي والياباني. ومنه فقد حصر الإبراهيمي، تحقيق النهضة والإقلاع الحضاري لدى العرب والمسلمين، في أربعة شروط رئيسة هي: إصلاح علماء الدين باعتبارهم القادة الروحيين للأمة والورثة الطبيعيين لمقام النبوة، إحياء الدين الإسلامي الذي كان سببا في نقل العرب الأوائل من طور البداوة إلى طور التمدن والتقدم، تفعيل دور المثقفين الذين لا يمكن للأمة أن تستغني عنهم لكونهم القادة والحراس المؤتمنون على كل شيء في حياتها، وأخيرا التصدي للتبشير المسيحي الغربي الذي استفحل وتعاظم أمره في غفلة أو تخاذل من الجميع. والحق أن الإبراهيمي، قد خاض صراعا شرسا ومريرا مع أعلام وشيوخ الصوفية المنحرفين في الجزائر، الذين لما ضاقوا ذرعا بما كان يقوم به من نشاطات تنويرية وإصلاحية وتربوية معادية لهم، حاولوا النيل منه بشتى الوسائل والطرق، ومنها القول فيه أنه من شر الناس الذين ابتلي بهم الإسلام والمسلمين في الجزائر، وأنه داعية ظلال، وفيلسوف ماسوني مروج الإلحاد والكفر، فضلا عن كتابة التقارير والشكاوى إلى السلطات الاستعمارية العليا في البلاد، التي كانت تتابعه وتراقبه عن قرب. والكثير من المضايقات غيرها، لا يتسع المقام لذكرها في هذا الملف المخصص للعلامة الإبراهيمي وتراثه الفكري التنويري.