غالبا ما يخرج الشرطي من عمق الذات ليذكر الكاتبة بالحدود ما مدى مساحة الحرية التي تملكها الكاتبة الجزائرية، وهل هي كافية وغير مقيدة أو مشروطة، وهل تشعر أنها حقا تكتب بكل حرية، وبأنه لا وجود لأي رقيب أثناء الكتابة، أم أن مناخ الحرية لديها مجرد وهم، والمتاح منها فقط مجرد هامش صغير، فالشائع في المتناول النقدي أن معظم الكاتبات لا يكتبن بحرية، والكِتابة المتحررة قليلة ونادرة. فماذا يا ترى يمكن أن نقول عن مساحة الحرية التي تمارسها المرأة في كتاباتها باعتبارها (حتى وهي كاتبة) تبقى في الغالب محكومة بعدة سلط تمنعها من ممارسة حريتها في الكتابة كما يجب، أو تقلص جرعتها الضرورية من الحرية. وأحيانا ولشدة التفاف هذه السلط حولها وحول إبداعها يبزغ لديها «رقيب ذاتي/داخلي» يحل في معظم الأحوال محل الرقيب المتمثل في السلط المتعددة القامعة لكل شكل من أشكال الحرية. السؤال المحوري هنا: هل هناك مساحة حرية متاحة بما يكفي لدى الكاتبة المبدعة في كتاباتها وفي ممارسة عملها الإبداعي؟. كاتبات وشاعرات يتحدثن عن هذه الإشكالية في ندوة «كراس الثقافة» لهذا العدد. ويسردن تجاربهن مع الكِتابة والحرية. إستطلاع/ نوّارة لحرش نصيرة محمدي/ شاعرة في النص كما في الحياة أتجاوز الوصي و الرقيب والمقدس الكتابة كما الحب لا تكون إلا في الحرية، عادة ما يكون المظهر الخارجي للشاعر مسلكا خاطئا لدخول أعماقه، ومعرفة باطنه. قد تكون هناك بوابات أخرى لطرق داخله واستبطان ذاته. نصي هو إحدى البوابات التي يمكن العبور منها إلى ذاتي، وتلمس داخلي المتمرد القلق الثائر على كل ما يشوه إنسانيتنا، ويعوق حريتنا ورغبتنا في الكشف والإبداع. أنا كائن صامت مغلف بخجل الأنثى الهشة والشرسة في آن واحد، هشة أمام كل الأشياء الجميلة، والمشاعر المدهشة التي تعترينا في هذا الكون، وشرسة إزاء الألم والبشاعة والظلم والحروب والمآسي والشرور التي تحيط بنا من كل جانب. لماذا علي أن أفتعل مظاهر ليست هي أنا، لا تقارب حقيقتي، ولا تنفتح على جراحي وأسئلتي، وعالمي المبهم الرحب. أكره الإدعاء في كل شيء، أكره أن أستفيق يوما على صورة امرأة لا تشبهني، ولا تتواطأ معي، لا تستدرجها ناري، ولا تؤمن بأن الشعر جوهري وكينونتي الباهرة؟ حين أعجز عن إيجاد لغة مشتركة بيني وبين الآخرين أصمت. حين تتجرحني الحياة أصمت، حين يطوقني الحب أصمت، حين تنتصر البهجة لي أصمت. أصمت لأرحل إلى أعماقي ولأستجيب لنداء الكتابة الملتبس. أصمت وداخلي يصطخب بالحكي واللغات والثرثرة والهدير ووجع الكائن المنذور للموت. ليس تبجحا أن أكون هكذا في شعري إنسانة جريئة ومتجاوزة للطابوهات، لأنني أشعر بانتصاري على الزيف، والازدواجية، والنفاق المتوارث في مجتمعاتنا العربية لأن المسائل حُسمت بشكل تلقائي وواع أيضا في داخلي، ولم أعد تلك المرأة المُعلقة بين هاويتين، وجرحين. أنا مدينة لأصدقائي الروحيين، للكُتاب والفنانين والفلاسفة الذين أضاءوا عتمتي، ونذروا حروفهم وإبداعاتهم لذواتنا الباحثة عن النور. لم يكن بالإمكان أن أكون على ما أنا عليه الآن لولا هؤلاء، لولا تاريخ حياتي المؤلم، لولا عذابات الطريق، ولولا رغبتي الحارقة في الحياة والكتابة. ليس سهلا أن تمنح داخلك الحميم للآخرين، لستُ مجبرة على إعلان فوضاي وحماقاتي وعمقي ومباهجي السرية، وآلامي المستترة لمن لا يستوعب كل ذلك. صمتي الغامض أو غموضي الصامت مبطن بصخب الحياة، والتوق إلى امتصاص رحيق الأشياء، والبشر، والعالم من حولي. بجنون وظمأ أُقبل على الحياة والشِعر، بشهوة وقوة وحنان البحارة، والرحالة، والعُشاق أمارس هذا الترحال في ذاتي، وفي الآخر، وفي الحياة. إلى أي مدى أنا حرة؟، لست أعرف، فقط تظل رغبتي في الحرية لا حدود لها. في النص كما في الحياة أبحث عن حريتي، حرية أن تحيا وتكتب، وتعشق وتتألم، وتكبر بلا أقنعة أو زيف. كيف لي ألا أتحدث عن كاتبة ملأت روحي؟ «غادة السمان» التي كتبت لها أنني مدينة لها بالاتساع الذي بداخلي، بضوئها الذي يبدد عتمتي، بروحها وأنفاسها التي أنقذتني من الموت آلاف المرات. كنت أحتمي بها من الموت. كُتبها كانت ملاذي وسلوتي وأنسي وسعادتي وعذاباتي وأسئلتي في مراحل عمري، كانت صديقتي الروحية الأعمق والأجمل والأنبل. في حرب الجزائر الأهلية كنت أستعيدها، أستحضرها، أسائلها، أعيش ما عاشت في «كوابيس بيروت» ودمارها. كيف كان لي أن أخرج بقدمين من حياة لولا «غادة السمان» التي وهبتني القوة، وصيرتني كائنا بعشرات الحواس والقدرات والأحلام؟، كيف كان لي أن أطير وأعشق وأتخبط في الحياة لولا تحريضها السري والمُعلن على الحياة والحرية والضوء. الإرتماء في الحياة وتجاربها وعشق الكتابة والفن، أبجديات لفهم عالم «غادة»، تعلمتها صغيرة منها، وشربت من نبعها أنا الظمأى دائما. ليس سهلا أن تكوني امرأة كاتبة في الجزائر، أتكبد ضراوة كل ذلك بما تبقى في روحي من قدرة على التنفس والركض والعشق والكتابة. غجرية هكذا وعيت ذاتي التي لا تهدأ، روح قلقة لا تعترف بالحدود والموانع والأطر والسُلط والأمكنة. روح لا تهدأ، عشقها الترحال إلى اللانهائي. كيف لي أعرف الاستقرار والسكينة وروحي المشتعلة بالحرية تطلق حممها في الكون؟، أعتقد أني امرأة بلا مكان ولا زمان، أنا عابرة في هذا العالم، ولكن هذا العبور يجب أن يكون ذا أثر، شرخ أو ضوء أو ندبة أو وشم أو حرارة أو رائحة لا تزول. قدري كان دائما الترحال، في الترحال أعي الحرية والفقد، معنى الفقد الفادح. كان الموت دائما بالمرصاد لي، عرفته، تآلفت معه، صرت أنتظره عند كل عتبة، في كل مساء في سريري. أنا كبرت في ملحمة كاملة اسمها المقبرة، مقبرة الأطفال في بيرين، المقبرة التي أثثت طفولتي، وكبرت في مقبرة كبيرة صنعتها الحرب في وطني. وكبرت على وجع ليلي دائم أني سأظل امرأة تنام بعيون نصف مغمضة، نصف مفتوحة، وأنني في كل رحيل أنشد ليلة نوم أستغرق فيها شبه ميتة، ولكن عبثا أنا التي تريد أن تنام وتهدأ، أنا المنفلتة، التائهة، الموجوعة. أنا الذاهلة في سماوات الحرية، عبثا تتلقف الأرض ذاتي، عبثا يصير لجسدي سكن غير قصيدتي. ليس ما يعذبني العابر والسطحي في حياة المرأة الكاتبة، وقشور الحياة الاجتماعية العربية، وصخب اليومي، ووجاهة الأنثى، بقدر ما تعذبني أسئلة شائكة أخرى وأفكار مضنية، كسؤال الحرية الكبير. أدرك أنني سأنتهي إلى حفرة صغيرة في هذه الأرض، وسيتحلل جسدي إلى قصائد أخرى يجب أن أكتبها قبل ذلك بكل طاقتي على الحرية والحب والجمال. كسرت الكثير من الأصنام، وتصادمت مع ذاتي في مواجهات قاسية ومريرة مع مجتمعي الغارق في التقاليد والأوهام والمفاهيم المتخلفة عن المرأة والرجل، وكيف تكون الكتابة عملية تحرير مضنية. راهنت على قوتي الداخلية ووعيي بالأشياء والعالم. رفضت الجاهز والبليد والسطحي، ونذرت روحي للبحث عن حريتي وحقيقتي. مساحة الحرية تتضاءل في جزائر يستبد بها العته والدروشة والجهل، ويتحكم في زمامها مداهنون وسماسرة ومزيفون، ويتقلص فيها دور الأقلية المتنورة التي تصنع التاريخ وتؤسس لقيم الحرية والعدالة والمواطنة والديمقراطية. درب الحرية مازال بعيدا، تظل فيه الكتابة أقصى أشكال التحرير والنور. سأكون أنا دائما ذاتي النازفة المتحرقة دوما للحرية. كنت فوق الوصي والرقيب والمقدس والمبتذل لحياة لن تكتمل إلا بالحرية وكتابة هي شفاء الروح اللاهثة خلف معنى لا يمكن النهوض به. خيرة بلقصير/ كاتبة جزائرية مقيمة بالأردن أعرف حدود حريتي لكن حين أكتب أتجاوز بعض الخطوط الحمراء هل تتمتع المرأة المبدعة بالمقدار نفسه من الحرية كتلك التي يتمتع بها الرجل؟، هل هناك حرية بالفعل يمكن أن نقول عنها حقا مشروعا بالتساوي في كل الأمور الحياتية وأهمها الإبداع، أم الهيمنة الرجولية والمجتمع والمحيط هي السلطة السائدة، وما هي حدود الحرية التي تقف عندها الكاتبة؟، أسئلة متداولة وعميقة والإجابة عنها تحتاج إلى نوع من الجرأة التي نفتقدها. بداية أعتقد أن «الحرية لا تحتاج إلى جسد عاري»، ككاتبة أو مبدعة فأنا منوطة كباقي الكاتبات في هذه المساحة المقدرة لي من مناخ معزول عن كم الثقافة التي أرجو والجغرافيا التي تحفها أسلاك العادات والتقاليد والمجتمع والدين أيضا،، فأنا حين أكتب أعلن بشكل ما التمرد بمنظور الآخر، علي بتجاوز بعض الخطوط الحمراء، فهل هذا يعني «إذا لم تستحي فافعل ما شئت؟». علي ككاتبة أن أتمتع بمساحة شعورية واسعة لا تُصنف إبداعي بالطابع الأنثوي فقط، إن تداعيات الإبداع وجماليته هو في حد ذاته السمو فوق كل ذلك الدور التقليدي التراجيدي الذي يصور المرأة العربية في أغلب أدوارها بالمنتقمة أو بالسريالية التي تتخفى وراءها مأساة الكاتبة في نصوصها الحرام، أحاول في كتاباتي التعري ليس بالمعنى الفاضح الملموس، ولكني أعتقد أني أنا واللغة شيئان لا ينفصلان لا أخفيها شيء وهي بدورها تمنحني الجرأة الكافية وأدوات الجماليات الفنية التي أكسر بها حاجز المعتقد والمتعارف عليه وكل ما هو تقليدي أو مسعى من مساعي التفريق بين إبداع الرجل والمرأة أو محاولة ما لكتم الصوت النابع من أعماقي. كل ما يتعلق بالكتابة النسوية ووسط الهيمنة الذكورية للمجتمع ب: فصاميته الثقافية بين الحرية والقيد هي مجرد أصابع اتهام لأن الهدف هو إسقاط الحرية عنها، إما يكون ذلك بتجريم إبداعها لأنه يتعلق بالجسد أو يتعلق بقضايا التحرر والمساواة أو باتهامها بموقفها التعصبي ضد الرجل، لا تزال المرأة إذن محض اتهام وقذف وأنا أحاول جاهدة أن أمنح نفسي صفة التوازن أو المشي على الحبل الرفيع، لا يهمني ما يقوله الآخر، لأني أعرف حدود حريتي. وبهذه أنا أكرس أسلوبية إبداعية خاصة بي. المرأة هي بالفعل ذاكرة جسد وذاكرة مكان وذاكرة حرمان، في بعض الأحيان هي العنصر المحرك للظلام الذي يلف سريالية المجتمع المُعلّق بين بعض المسلمات وثقافة الكبت. علي ككاتبة أيضا أن أحقق بعض الفحولة كتلك التي يرجوها الرجل في كتاباتي. يبقى علي القول أن الحرية التي أطمع إليها ليست بالمراهقة الفكرية، بل هي سماء ما أطمع في لمس شغافها بأدواتي الخاصة، لا يرجو الكاتب من وراء حريته المشرعة سوى الخلود في ذاكرة ما، الحرية من أجل هدف جاد يستحق عناء ما يقوله وشاة المرأة والأدب والجمال والإبداع الحقيقي. في الأخير لا أريد التشبه بالفكرة الديكارتية لأثبت وجودي إبداعيا ولكن أرى أني امرأة خُلقت لتكتب وكفى. نسيمة بولوفة/ قاصة وكاتبة ظاهريًا الكاتبة حرة لكن في الباطن هناك رقيب يشير إلى الحدود مبدئيا، الكاتبة حرة، بمقدورها أن تكتب في المواضيع التي تستهويها، هذا ظاهريا، لكن من الباطن هناك رقيب ذاتي كمنبه ينبهها أنه لا يجوز أن تتخطى حدود العادات والتقاليد، غالبا ما يخرج الشرطي من عمق الذات ليذكر الكاتبة بالحدود التي لا يجوز لها أن تتعداها، ماذا سيقول عنكِ المجتمع؟ كيف سينظر لكِ والدك، زوجك، أو ابنك؟، ستجلبين له العار، إن خرجتِ عن القطيع وفكرتِ بصورة مغايرة. طبعا مساحة حرية الرجل أكبر لأنه الذكر المقدس، مثلا لو كتب الرجل في موضوع «الجنس» بما أنه جزء من الحياة سيقال عنه رجل فحل ويدرك أغوار الإنسان، أما إن كتبت المرأة في نفس الموضوع سيقال عنها إنها مجرد عاهرة، عديمة الحياء والأخلاق، تريد إفساد المجتمع، ثم غالبا لا يفرق المجتمع بين الحقيقة والخيال، لا نكتب دائما حقيقتنا، لا نحكي دائما عن تجاربنا الشخصية، كثيرا ما نلجأ للخيال، نسرد حكايا الغير. يجب الإقرار والاعتراف أن الكاتبة تضع نفسها قبل ما يضعها غيرها تحت المجهر، تسعى لأن تحافظ على صورتها «الكاتبة الوقور المحترمة» التي تسرد النقاء والنظافة، وهنا يقع التناقض وتحل الازدواجية، نحن لا نعيش في الجنة بل على كوكب الأرض، والإنسان بطبعه خطّاء يغرق في أوحاله. تقتضي الموضوعية الكِتابة عن الوساخة والوحل ومخلفات كل السلبيات وهي من مكونات المجتمع، يحصل الصراع بين ما يريده الخيال الخام المجنح، وبين الشرطي الذي يضبط ويُقوِّم ويَمنع. وفي النهاية لابد للحرية أن تنتصر وإلا ستتعب الكاتبة وستعاني من عدم صدقها بينها وبين نفسها، تحرر خيالها لأنه أصلا خُلق «حر» كالريح، إما أن تكون أو لا تكون، إما أن تكتب بصدق، بعدم الخوف من البوح، وإما التوقف عن الكتابة. وسيلة بوسيس/ شاعرة وناقدة وباحثة أكاديمية لا يمكن للكاتبة التي تحيط بها القيود الاجتماعية من كل جانب أن تأتي لتمارس جرأة نصية موهومة الحرية في عرفي «سعي» ومشي مستمر إلى نقطة الانسجام مع ما نريد، في الحياة كما في الكتابة هناك عملية صهر لمجموعة معقدة من الأشياء التي نختبرها، تكون حصيلتها النظر بصفاء إلى العنصر الذي نريده، «نحن» الذي لا يمكن أن يكون شفافا ومتوازنا ومتمازجا مع شروط الحياة والحضارة دون أن يكون حرا. يستلزم الحديث عن الحرية التساؤل أولا عن مواقعنا من العالم، وعن حدود معرفتنا بذواتنا، من أي شرفة نطل؟ وإلى أي مدى؟ وبأي عين؟ وما نوع العُقد التي نريد أن نتحرر منها؟ وأنواع الأقنعة، من أين يبدأ القهر وأين ينتهي؟ ومن نكون فعلا في مرايا النوافذ الداخلية، تبدو هذه الأسئلة صميمية بالنسبة للكاتبة التي لا تسارع في جعل أنوثتها مظلومة ومسلوبة الحرية ومن ثم موضع تساؤل أبدي في مقابل ذكورة منتصرة لأن العلوم والفلسفات الحديثة التي جعلت من مفهوم «الجنسانية» موضوعا لها قد تجاوزت فكرة «الند» أو «الخصم» وأقرت بأن لا يمكن الحديث عن ذواتنا إلا في إطار هذه اللحمة الإثنينية الأبدية ذكر/أنثى. لكن الواقع يضعنا في جوهر هذه المعادلة ولا يخرجنا منها إلا بخسارات على المستوى المعنوي لأن المشكل قائم في حزمة الأعراف التي تغلبت على القوانين ولننظر على سبيل المثال إلى التنشئة الاجتماعية في البلاد العربية لندرك الفرق البين بين حدود حريتين ذكرية/أنثوية لا تلتقيان إلا نادرا، وإذا التقتا فلا شيء ذا بال يحدث. كنتُ منذ مدة ألاحظ الكاتبات السعوديات اللواتي يُلقين شِعرهن من وراء براقع تغطي الوجوه وتحجب الملامح حجبا تاما فلا يبقى إلا الصوت، وكان سؤالي: ما جدوى الصوت حينما يصدر عن بقعة سوداء كبيرة ويحمل اسما مستعارا؟. قلت أعلاه أن الحرية «سعي» بمعنى آخر أن بعضها يدفع بالبعض إلى الأمام، فلا يمكن للكاتبة التي تحيط بها القيود الاجتماعية من كل جانب أن تأتي لتمارس جرأة نصية موهومة وهي تلبس حجابا اضطراريا وتصارع خوفا مبطنا ممن يراقب زلات قلمها، فحتى وإن تمكنت هي حقا من الكلام بهامش معين من الحرية فإن هناك في الجانب الآخر قراء سيقرأونها في إطار من القهر النصي التأويلي –إن جاز التعبير-. ومن هنا يكون الغياب شبه الكلي للحرية في المحيط الاجتماعي مؤطرا لوهم الحرية النصية، ولابد من أن هنالك سائلا سيسأل –وهو على حق-: هل الكاتبات هن من يرسين الحرية في مجتمع تعوّد على بروتوكولات الصمت، أم أن التربية المجتمعية هي التي تمهد طريق الكِتابة ومسار التلقي للنص المتحرر؟ الوقت كفيل بالإجابة وبمراكمة حزمات أخرى من النصوص التي على شاكلة تلك اللبِنات الجريئة لكل من نوال السعداوي وفاطمة المرنيسي ونينا بوراوي، وقبلهن كثيرات وبعدهن كثيرات جدا من الثائرات اللواتي تحدين كل الجدران المتخلفة واجترحن أصوات الحرية في سماء الإبداع. شهرزاد زاغز/ روائية أكتب بفعل انتصار الحرية داخلي وكل كاتبة تختار رقعة الحرية التي تناسب مدارها يكبر وينمو مع الكاتبة إحساس رهيب بالحرية فتمارسها بجنون، وبعنف أحيانا حينما تحس أن هناك خطر ما يتربص بحريتها، ومثلما تدافع عن حريتها من التحلل تدافع عن حرية الآخرين. لقد كبر معي هذا الهاجس ولهذا تجدينني اليوم أمارسه في المنزل مع أبنائي، وأمارسه بالجامعة مع طلبتي، وأفرح كطفلة حينما أنجح في إقناعهم بأن أثمن ما يمكن أن يمتلكه الإنسان هو حريته، وأن أتعس ما يمكن أن يفقده هو هذا الإحساس. أذكر وأنا طفلة صوت مُدرسة اللغة الفرنسية مدام حداد وهي تنشد نشيد الحرية الجبار لبول إيلوار Liberté/ Paul Eluard. وأذكر أن هذا النشيد سكنني كاللعنة فَرُحتُ أتغنى به ممتلئة بهواء الحرية. كنت سعيدة بما يكفي كي يكون هذا النشيد شعاري الذي أرفعه في الحياة سلوكا وممارسة، وحينما وجدتني أكتب فقد كان هذا بفعل انتصار صوت الحرية داخلي، أكتب كي لا أموت. يعني ما تركه هامش الواقع سيكون مركزا على الورق. هل كنت أمارس على الورق ما يستحيل ممارسته على الواقع؟ هل هذا البديل الشكلي كاف لنقول أننا نكتب بحرية؟ وماذا تعني الكتابة إن لم تكن أنشودة طويلة في تمجيد الحرية، حريتنا نحن الكاتبات رغم اختلاف زوايا الرؤيا بيننا، فكل كاتبة تسعى على طريقتها في اختيار الرقعة التي تناسب مدارها. إن سؤال جرعات الحرية المتاحة لا تتعلق بالكاتبة فحسب، بل هي أزمة مشتركة، فنصيب الكاتب مثل حظ الكاتبة، هل شاهدتِ يوما شجرا ينمو دون نسغه؟. لا يمكن فتح الموضوع من دون هامش ذكوري، المرأة في تاريخها تمنح الميلاد للذكر مرتين، الميلاد البيولوجي، وميلاد ما بعد العتمة، إنها النور الذي يعبد طريق الحرية. أقصد هنا «المرأة الكاملة والتي هي نمط لإنسانية عُليا على الرجل الكامل». مثلما قال نيتشه. يرتبط مصير الكاتبة بمصير الكاتب حينما يتعلق الأمر بهامش الحرية، فحيثما يكون هناك متسع من أوكسجين الحرية فسوف يستنشقاه معا، وحينما تكون هناك ردة أو تراجع، أو انتكاسة داخلية أو خارجية بفعل القمع، أو المصادرة، أو الخوف من الآخر، من المؤسسة، أو من الذات. فالمعاناة واحدة، والهم مشترك، ولست مع من تستحوذ عليه فكرة استبداد طرف بالطرف الآخر، فالكِتابات الاستبدادية لا تنتج إلا إرهابا فكريا، وما تكون الكتابة إن لم تكن كوة النور التي نطل بها على الحرية وبحرية؟ وماذا تساوي الكِتابة إن لم تكن بينها وبين الحرية عقد اتفاق أبدي. ومتى يكون هذا العقد ملزما تكون الكاتبة هي نفسها، تتصرف بصدق مع نفسها، ومع محيطها بأن تنافح بقوة عن مبادئها، تتبرم من اضطهاد الجوهر الثابت حتى لا يكون هناك حيز منتهك، إننا لا نتحدث عن الحيز النسائي المنتهك بل نتحدث عن الحيز الإنساني المنتهك باسم العِرق أو الدين أو اللغة. نرفض أن يضيق بنا المكان، والزمان في مجتمع يُظهر ما لا يُضمر، له قابلية فظيعة على المحق والسحق والمحو ووضع الأفخاخ حينما يدعونا إلى حرية مشوبة بالقوانين الجاهزة، والقيود اللامرئية.