هل تشبه الكاتبة كتاباتها؟، هل تقولها هذه الكتابات وترسمها وتزرعها وتنثرها في النصوص والمتون، وهل عادة الكاتبة تكتب ذاتها الأعمق، وانشغالاتها وأسئلتها الإنسانية والكونية والحياتية، وما هي أسئلة الكاتبة راهنا والتي تؤرقها أكثر وتحتل الحيز الأكبر من مساحة إبداعاتها، وهل تتشابه/تتماس أسئلة البدايات الأولى بأسئلة الآن والراهن التي تدرجت ربما على النضوج أكثر، هل هي أسئلتها الذاتية بكل تفرعات همومها وأحلامها أم أسئلة الإنسان بكل مشاغله واشكالاته. هذه أسئلة طرحها كراس الثقافة في عدده اليوم على بعض الكاتبات فكانت اجاباتهن مختلفة حينا ومتآلفة أحيانا وطبعا إنطلاقا من تجربة كل كاتبة ومن سياقاتها الخاصة لكن في الأعمق تشاركت الكاتبات في بعض التفاصيل والرؤى. إستطلاع/ نوّارة لحرش ربيعة جلطي الكتابة عن الذات نسف لقيم القبيلة الكتابة الناجحة هي كالمرآة التي تُرى فيها جميع الوجوه على اختلاف تقاطيعها وملامحها وكل وجه يستطيع أن يتعرف على ذاته وخصوصيته، على إبتسامته وحزنه، الكتابة الناجحة الصادقة هي القادرة على صناعة وهم الأنا القارئة كشريك في الكتابة. في ظل مجتمع عربي ومغاربي لا يزال يثمن ويعيش على حزمة من قيم الذكورية الفروسية التي تنتمي إلى الأزمنة المنقرضة حضاريا، تجد الروائية كثيرا من الصعوبة في كتابة ذاتها بكل شفافية. فإذا كانت حرية الفرد الذكر ملغاة أو مغيبة في ثقافة الكومونيتاريزم (الجمعانية الهيمنية) التي نبدع في ظلها فما بالك بالمرأة المبدعة. ولكن الروائية التي تدرك مسئولية الكتابة تاريخيا وجماليا وسياسيا عليها ألا ترضخ لمثل هذه القيم التي تنتمي إلى سلم ثقافة العبودية. فإذا كانت المرأة العربية الكاتبة قد حققت صوتها الأدبي في منتصف القرن الماضي في شكله السياسي والإجتماعي الخارجي بكثير من الجرأة الملفوفة في الخوف والتردد فكاتبة اليوم عليها أن تسعى لتحقيق ذاتها بكل ما في هذه الذات من جروح وطموح. فلا إبداع بدون ذات شفافة من خلالها تتم عملية صناعة صورة للعالم. لقد ظلت مسألة كتابة الرواية السيروية قضية تحد وحرية، فقبل نصف قرن كان الأدباء الرجال العرب، وفي مجتمع منحاز للذكورة ثقافة وأيديولوجية، يتحرجون من كتابة ذواتهم لأنهم كانوا يعتبرون ذلك مسّا إجتماعيا وأخلاقيا بقبيلتهم التي تعيش وتعشش في رؤوسهم. إن الكاتب العربي امرأة كانت أو رجلا يكتب في مجتمع يشبه المخفر الأخلاقي والسياسي، وربما تكون قيم القبيلة الإجتماعية والرمزية هي أكثر وأقوى المؤسسات الأيديولوجية الحاضرة والمهيمنة والتي لا تزال حتى الآن تؤثر وبقوة على مخيال المبدع العربي. كتابة الذات هي أكبر ممارسة للحرية وهي في الوقت نفسه أكبر رسالة عن الحرية تكتبها الروائية إلى قرائها. وهي في الوقت نفسه تمرين لذات القارئ العربي على طقوس الحرية ودخول المعاصرة بكل تعقيداتها. لا أستطيع أن أتعالى كريشة في الجو أترنح، أنا مشدودة إلى الكتابة عن الإنسان الذي أقاسمه هذا العصر، عصر المكائد، وإلا سأشعر بالخيانة، سأخون عصري، أنا أعيش في هذا العالم أحاول أن أظل جلية البصر والبصيرة لا يفوتني ما أحياه وما يحياه الناس حولي، أنا لا أحب الأبراج العالية، علمني أبي المثقف الرزين التواضع والإحساس بالآخر، أنا أحس بالناس بأفراحهم فأفرح لهم ومعهم، وجروحهم تؤلمني كثيرا وأعرف أوجاع البلد مثل جرح غائر في الكف أراه كل يوم مفتوحة العينين والعقل. ما أكتبه ليس مذكرات شخصية ولا يوميات، إنه تأمُّل في حياتي وحياة الذين اشتركت معهم والذين لا نزال نتشارك في قيم الإتفاق وقيم الإختلاف، ورواية "الذروة" نص في زيارة للطفولة والمراهقة والنضج، زيارة بصيغة الجمع، بكل ما في هذه المراحل من عذوبة ومرارة وتطلع، زيارة بدون نوسطالجيا ولا وقوف على الأطلال. فالذروة أردتها رواية المرأة المقاومة في وجه الضحالة التي تحاول أن تسحبها إلى الحضيض، حضيض سياسي وأخلاقي. ربما هذا ما حقق الإقتراب لها من القارئ واندغامه وتورطه في عوالمها. زكية علال لأسئلة التي تؤرقني تتعلق بانتمائي وبالإنسان العربي أنا أعيش كتاباتي بشكل رهيب، ومخيف أحيانا، أجد ملامحي في كل العناوين التي تتصدر أعمالي، قصصي ومقالاتي جعلتني مكشوفة للآخرين، و واضحة، عندما كنت أكتب "رسائل تتحدى النار والحصار" على لسان فاطمة من غزة، كنت أشعر أن شخصيتي تتقلص شيئا فشيئا لتترك شخصية فاطمة تزحف على كل حياتي، وتحضر معي أكلي وشربي ونومي وحديثي مع الناس، وتعاملي مع الآخرين، ثلاث سنوات لم أفرق بيني وبين فاطمة التي أصبحت تعبر عن أفكاري ومبادئي وخيباتي المتكررة داخل خرائط عربية متآكلة، الآن وبعد إنتهائي من هذه الرسائل، وطبعها منذ أكثر من عام لازلت لم أتخلص من ملامح فاطمة ولا من أفكارها، أما الأسئلة التي تؤرقني في الوقت الراهن، وتحتل الحيز الأكبر من كتاباتي ومقالاتي، فهي تتعلق بانتمائي، وبهذا الإنسان العربي الذي ظل عاجزا – لمدة قرون – على إنتاج الحضارة، ومازال يلتهم ما تنتجه حضارات الشعوب الأخرى، لماذا فقدنا الثقة بأنفسنا لدرجة أننا أصبحنا نعتقد أن قدرنا أن نكون تابعين لغيرنا، وأن الله تعالى خلق الغربيين خلقة الأسود، وخلقنا خلقة الأرانب، ولا تبديل لخلق الله – كما قال العلامة الجزائري البشير الإبراهيمي– قد تتفرع الأسئلة وتتشعب حسب الراهن الثقافي والسياسي والإجتماعي، ولكنها تظل تنبع من سؤال كبير وبارز يتعلق بهذه الخيبة الكبيرة التي يعيشها العربي وتندس بين لحمه وعظمه، وتختلط بطعامه وشرابه، بل ويورثها لأبنائه. زهرة ديك الكتابة الحقيقية هي التي تشبهنا أين الأنا في رواياتي.. وإلى أي مدى تشبهني كتاباتي..؟، لا أنا ولا غيري بإمكانه أن يجد جوابا حاسما لهكذا سؤال، لأن ذلك يحيل مباشرة إلى تعريف الرواية، هذا التعريف الهارب على الدوام. الكتابة الروائية عملية في غاية التعقيد ما جعل الروائي كفعل فني وجنس أدبي عصي على التحديد بشهادة كبار المبدعين. الكتابة والرواية على الخصوص نتاج إنسان بكل ما تضج به دواخله وما تختزنه نفسيته، وإذا اختار هذا الإنسان أن يحاور ويتفاعل مع ذاته ومع الوجود بالكتابة فلا يمكن إلا أن يكون هذا من ذاك والعكس، الكتابة كما الإنسان، كما الحياة، يسعى من خلالها المبدع إكتشاف شيء ما، القبض على شيء ليس بالضرورة أن يعرف ما هو، التعامل مع الأنا في الكتابة عملية في غاية التعقيد والغموض، متوقفة على آليات نفسية وثقافية واجتماعية، قد تكلف شخوص الكاتب بما يناقض قناعاته أو ما لا يجرؤ على فعله في الواقع، وقد يتوارى خلفها ليقول ما يحب ويفعل ما يريد وليمارس حريته على أوسع نطاق، دانتي يقول ما معناه: "كل ما نفعله القصد منه تعرية صورتنا الخاصة" ولكن هل كل ما يكتبه المبدع لا بد أن يشبهه في كليته أو جزئيته؟، الجواب على هذا السؤال اللغز نعم ولا في نفس الآن، لأنه كما سبق الذكر قد يجعل الكاتب شخوصه تقوم بأشياء لا يقبلها على نفسه ولا يستطيع تنفيذها على أرض الواقع، لكن وفي كل الأحوال ومادامت الكتابة عصارة أسئلتنا وتجاربنا وأوجاعنا وكوابيسنا فلا يمكن إلا أن تشبهنا بروحها ومزاجيتها وجنونها، وباختصار الكتابة الحقيقية هي التي تشبهنا وإن كانت لا تشبهنا. ياسمينة صالح أشبهني في الكتابة واتواجد في مكان ما من النص الذي أكتبه سأنطلق مني ومن علاقتي بالكتابة نفسها، وأعترف لكِ أنني أشبه كتاباتي نعم، ولعلك ستجدينني في مكان ما من النص الروائي الذي أكتبه، حتى وإن كانت أغلب رواياتي أبطالها رجال، عدا رواية واحدة بطلتها امرأة!، لعل السؤال الذي يعنيني في الأول والأخير هو لماذا أكتب، وانطلاقا من تحديد ماهية الكتابة يمكنني أن أقول أنني أكتب أيضا لأجلي، ربما حالة من التعويض إزاء شيء كبير نعي جيدا أننا نخسره أو خسرناه في حياتنا، في راهننا وفي شعورنا وهو الوطن الذي يعني بالنسبة لي مرجعية تاريخية وفكرية وذاتية أيضا، بكل ما يعنيه من انتماء طفولي إلى ذات الحضن الأول والأخير، وبما يعنيه من خسائر خاصة أو عامة، إلى أن بدأت تعيد هذه الثورات ذلك الأمل الذي كاد يموت فينا.. الكتابة عندي حالة إنسانية أيضا، ولهذا من خلالها أطرح الكثير من الأسئلة التي تعنيني وتعني أيضا مصطلح المواطَنة (بفتح الطاء)، فأن أكون إنسان حر علي أن أكون مواطن كامل الحقوق، وهذا في النهاية ما يؤسس همومي الأولى كإنسانة، وكروائية أيضا. لعل اختلافي مع الكثير في مصطلح الحرية ينبع أيضا من هذه النقطة التي أؤمن بها، بأن الحرية عمرها ما كانت "عهرا" سواء داخل النص أو خارجه، الحرية هي الحقوق، بداية بالحق في الكرامة والحق في الوطن بكل ما يعنيه من خيرات، والحق في أن يكون القانون معي وليس ضدي، في أن أكون كائنا حقيقيا غير مسلوب الحلم ولا الشعور ولا الإرادة، لهذا أعترف أن كتاباتي تشبهني إلى حد ما، وأشبهها إلى حد ما أيضا، بالخصوص في كل الأسئلة العميقة التي سوف نحملها في النهاية جميعا إلى قبرنا، وأعترف أنني في روايتي الأخيرة "لخضر" استطعت أن أجيب على بعض الأسئلة التي كانت تؤرقني كإنسانة وكمثقفة، وكامرأة جزائرية!.