مهنة الصائغ بين التقشف و حصار نقص المادة الأولية و الدخلاء كانت قسنطينة تعتبر، طيلة عقود من الزمن، عاصمة للفتلة و الحلي الذهبية و كان القسنطينيون يصنفون الصاغة في خانة المليونيرات الذين ولدوا و بأفواههم ملاعق ذهبية، و قد شهد شارعهم أو بالأحرى "زنقتهم" ،على امتداد حي الجزارين بقلب قسنطينة العتيقة، العصر الذهبي للحرفة، فكانت محلاتهم تكتظ بالعرائس و ذويهن و عاشقات الأناقة و الترف، و كذا الراغبات في ادخار أموالهن باقتناء أكبر عدد من الحلي، فالمثل القائل "لحدايد للشدايد"، كان يدرج ضمن ثقافة كانت متجذرة في أعماق المجتمع، لكن ما يمكن أن نلاحظه اليوم، في ظل ضعف القدرة الشرائية و سياسة التقشف، أن الحرفة فقدت بريقها و مكانتها و معظم الحرفيين و التجار يشتكون من حصار المشاكل، بدءا من نقص المادة الأولية، إلى الغش و الفوضى و تراجع الإقبال، إلى جانب منافسة "الدلالة" الشرسة. واقع حتم على العديد من الصاغة الذين التقت بهم النصر، اللجوء إلى البيع بالتقسيط، و تقليص هامش الربح، أو التخلي تماما عن المعدن الأصفر و التحول إلى بيع الساعات و الحلي الفضية أو ال "بلاكيور" ، في حين لجأ البعض إلى الجمع بين مختلف المعادن ، و اعترف آخرون بأنهم يفكرون جديا في تغيير النشاط الذي جعل منهم، على حد تعبيرهم، مجرد عمال بسطاء بعد أن كانوا كالملوك يرفلون في الرفاهية و البذخ. الدلالة "يخطفون" زبونات محلات الصاغة و أنت تسير عبر أزقة الرصيف و رحبة الصوف و مدخل حي الجزارين بوسط المدينة العتيقة، تلاحظ تواجد العديد من محلات الصياغة القديمة و الجديدة ، لكن معظمها فارغة من الزبائن، لكنك عندما تصل إلى نهج قديد صالح الذي يعرف بزنقة الصاغة، تجد بعض السيدات و الفتيات هنا و هناك يستفسرن عن أوزان و أسعار بعض الحلي. و الملفت أنه و طيلة تواجدنا بذات الزنقة لمدة ساعتين تقريبا، لم نشهد أية معاملة تجارية فعلية داخل تلك المحلات، في حين يقف أمام أبوابها العديد من الشبان "المدججين" بأصناف الحلي التي ترصع أذرعهم و أياديهم و أصابعهم و يعترضون طريق النساء على وجه الخصوص، و يعرضونها عليهن بإلحاح ، بأسعار يقولون أنها منخفضة، كما يعرضون عليهن اقتناء مجوهراتهن القديمة "لكاس" بأسعار مرتفعة، مشكلين بذلك حاجزا من السواعد و الأيادي وسط زنقة الصاغة و أمام أبواب محلاتهم، في محاولات تبدو وقحة أحيانا، ل"خطف" زبونات الصاغة "الشرعيين"، وعلق أحدهم عندما طلبت منه الابتعاد عن طريقي، لأنني لن أشتري و لن أبيع، بأن "الخبزة المرة، هي التي ألقت به في سوق الدلالة ليعيل أسرته المتكونة من 9 أفراد". حرفيون يتخلون عن الذهب خشية الإفلاس جذب انتباهنا بإحدى الواجهات البارزة في حي الصاغة، عرض مجموعة كبيرة من الحلي الفضية و أخرى مطعمة بالذهب بعد أن كانت قبل سنوات تعرض حليا فاخرة، دخلنا إلى المحل لنستفسر عن ذلك ، فقال لنا الحرفي/ ه. ق/، البالغ من العمر 39 عاما، بأن سجله التجاري يسمح له بذلك، باعتباره حرفي مختص في صناعة المجوهرات من المعادن الثمينة المختلفة. و أضاف بأنه تعلم تصميم و صنع الحلي الذهبية منذ صغره على يد والده الذي كان صائغا معروفا، و عندما كبر حافظ على هذه الحرفة قدر المستطاع، و أبدع في تصميماته الذهبية إرضاء لزبوناته، لكن في السنوات الأخيرة تغيرت معطيات كثيرة ، كما أكد محدثنا، على غرار غزو الدخلاء و "الدلالة" لسوق الذهب و كسرهم للأسعار، و تراجع الحرفة و تقلص الإقبال على اقتناء الحلي الذهبية عموما، فاضطر إلى تنويع الحلي و أصبح يشتريها جاهزة، أو يصممها من مختلف المعادن و ليس من الذهب فقط، خاصة و أن سعر الغرام الواحد من الذهب يتراوح، حسب نوعيته، بين 5500 و 8500 دج. محدثنا بين من جهة أخرى، بأنه يعاني من نقص المادة الأولية و قد تقدم بطلبات عديدة إلى الجهات المعنية من أجل اقتنائها، دون جدوى، و لا يستطيع شراءها من المواطنين لأن ذلك محظور، و خوفا من أن تكون مغشوشة أو مسروقة، و بالتالي، فهو يعيش بين مطرقة الحظر و سندان الخوف من الإفلاس، ما أرغمه على تقليص هامش الربح ليتراوح، كما أكد بين و 100 و 150 دج للحلية الواحدة، فالمهم بالنسبة إليه أن يوفر دخلا مقبولا نوعا ما . و اشتكى من جهته عبد الوهاب،32 عاما، الذي التقيناه بمحل آخر بذات الحي، من الركود المتواصل لتجارة الذهب في السوق الرسمي، ما دفعه إلى عرض حلي متنوعة من نوع "بلاكيور" في واجهة المحل الذي تملكه عائلته، إلى جانب قلادتين ذهبيتين و أضاف بأن "الدلالة" خطفوا زبائن السوق الرسمي، رغم أن حليهم مجهولة المصدر، و يمارسون نشاطهم بسهولة دون رقابة أو تكاليف في سوق سوداء مزدهرة، مشيرا إلى أن سعر الكيلوغرام الواحد من الذهب الممتاز يباع في الجزائر العاصمة ب 700 مليون سنتيم و الكيلوغرام الواحد من الفتلة 520 مليون سنتيم، ما جعله يفكر جديا في الابتعاد عن حرفة عائلته. قدماء النشاط الشابات تخلين عن شعار "لحدايد للشدايد" و الحرفة في خطر دخلنا إلى محل ثالث، واجهته تتربع فيها مختلف الحلي الذهبية العصرية و التقليدية ذات النوعية الرفيعة، صاحبه /ب.ك/ عمره 54 عاما، قضى 30 عاما منها كصائغ، فأخبرنا بأنه تعلم الحرفة على يد صهره، لكن أبناءه فضلوا متابعة تعليمهم على تعلم حرفته و هم جميعا إطارات اليوم. و أضاف بأن الحرفة شهدت خلال العشر سنوات الأخيرة تحولات كبيرة فتدهورت، بعد أن كانت مزدهرة بفضل انتشار ثقافة "لحدايد للشدايد" في المجتمع، حيث كانت النساء من كافة الفئات العمرية، يتهافتن على اقتناء الحلي الذهبية، ليدخرن من خلالها أموالهن و إذا تعرضن لضائقة مالية يبعنها لفك الأزمة. و تحسر محدثنا على ذاك العصر الذهبي للمعدن الأصفر الذي ولى و راح، و أصبحت بنات هذا العصر، حسبه، يكتفين بشراء خواتم الخطوبة و الزواج من ذهب، و يكرسن أموالهن لاقتناء المنازل و السيارات و الأزياء و السفر، مؤكدا بأن عدد الشابات اللائي قصدن محله لشراء حلي تقليدية كبيرة على غرار "المحازم" لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، في حين أن معظم زبوناته الوفيات من فئة العجائز اللائي يشترين و لو بالتقسيط، حليا لبناتهن . و أشار من جهة أخرى، بأن عشرات الأشخاص يدخلون إلى محله يوميا للاستفسار عن أسعار الحلي و تعليقهم المشترك هو "الأسعار غالية"، معترفا بأنه إذا باع حلية أو اثنتين في الشهر، يعتبر نفسه في وضع مقبول، رغم أن دخله لا يكفي لسد احتياجاته، مشددا بأن الصائغ الذي كان كالملك يتمتع بحياة الرفاهية و المكانة المرموقة بمجتمعنا، أصبح اليوم كأي عامل بسيط، بل أن "الحمامصي" و بائع البيتزا و الشاورما أفضل منه، على حد تعبيره، و اعترف بأنه لو وجد مهنة أخرى، لاعتزل الصياغة رغم حبه لها . أما عمي علي ، 67 عاما، الذي التقيناه في محل أنيق للحلي الذهبية، فقد أخبرنا بأنه بدأ يمارس الحرفة في نهاية الستينات من القرن الفارط، و قد أرغمته ظروف قاهرة على إغلاق المحل الذي كان يعمل به، و لم يستطع استئجار آخر، فقرر مواصلة ذات النشاط، لكن في السوق السوداء مع الدلالة. و أضاف بأنه يقصد عادة بعض زملائه القدامى من الصاغة، فيتفق معهم على بيع بعض المصوغات مقابل نسبة من الربح، في حين اكتفى حرفي آخر في السبعينات من عمره التقينا به في محل مجاور بالتعليق: "الحمد لله لدينا الكفاف و العفاف". عمي محمد، و هو في منتصف العقد السابع من عمره، و يعتبر من أقدم و أشهر صاغة المدينة القديمة أشار من جهته بأصابع الاتهام إلى أصحاب الطاولات الفوضوية و الدلالة الذين اعتبرهم في مقدمة أسباب تقهقر حرفة الصائغ، إلى جانب سياسة التقشف. أصغر صائغ أبيع بالتقسيط للأقارب و هامش الربح بين 2 و 5 بالمائة في زنقة الصاغة دائما، التقينا بإحدى المحلات بصائغ لا يتجاوز عمره 23عاما، فأخبرنا بأنه بدأ العمل في هذا المجال منذ 4 سنوات، و قد تأثر كثيرا بعمه الصائغ، و أحب الحرفة و أصبح "الذهب يسري في عروقه"، على حد تعبيره، لكن هذه الحرفة، كما أكد، تمر بأسوأ مراحلها اليوم معلقا: "الله وحده يعلم بحالنا"، فالمارة في أحيان كثيرة يعزفون حتى على الوقوف لمشاهدة الحلي الذهبية الجميلة المحلية و المستوردة التي تزخر بها واجهة محله الأنيق، و من يدخل يهرب بسرعة عندما يطلع على الأسعار. و بين بأن هذا الوضع جعله يقرر البيع بالتقسيط للمعارف و الأقارب و الزبونات الوفيات.و يخفض هامش الربح ليتراوح بين 2 و 5 بالمائة. و أضاف بأنه يواجه من حين لآخر صعوبات في دفع الفواتير و تسديد التكاليف و الضرائب، فالذهب فقد سحره و جاذبيته القديمة، حتى المقبلات على الزواج ، حسبه، أصبحن يكتفين باقتناء أطقم و خواتم و سلاسل و أقراط صغيرة الحجم و بسيطة، و قاطعن الحلي الثقيلة و الباهظة الأسعار. و قد أجمع الذين تحدثنا إليهم من أصحاب محلات "زنقة الصياغة"، بأنهم لم يتعرضوا قط للسرقة، لأن الجميع يعرفون بعضهم البعض هناك و يتخذون عادة الاحتياطات و التدابير اللازمة لتفادي المشاكل و الاعتداءات، حسبهم. رئيس المكتب الولائي لحرفيي الذهب و المعادن الثمينة تصاميم جزائرية تسرق ومهنة الدلال يجب أن تقنن علي برنو، رئيس المكتب الولائي لحرفيي الذهب و المعادن الثمينة، التابع للاتحاد العام للتجار و الحرفيين الجزائريين، تأسف من جهته، لأن حرفة الصائغ التي ورثها عن والده و جده و يمارسها منذ 1978 ، مباشرة بعد إتمام دراساته العليا بفرنسا، فقدت اليوم مكانتها و قيمتها بقسنطينة التي كانت تعتبر عاصمة للفتلة و الذهب و تتخبط في الكثير من المشاكل و العراقيل، و في مقدمتها، كما أكد، أن مؤسسة "أجينور" وسعت من نشاطاتها و فتحت ورشات لصناعة الحلي الذهبية و لم تعد توزع على الحرفيين في الحصص التي كانت تقدر ب 250 أو 300غرام من الذهب الصافي لكل حرفي، ما جعل العديد من الورشات و المحلات تعتمد على الحلي القديمة و المستعملة التي يبيعها المواطنون، حتى و إن كانت لا تحمل أي وسم و مصدرها مجهول، لصنع حلي جديدة، مضيفا بأن العائلات القسنطينية التي كانت تتجند قبل زواج البنات و الكنات، لاقتناء الحلي الذهبية التقليدية كاملة لتضاف إلى جهازهن، تخلت عن هذه التقاليد، نظرا للتحولات الاجتماعية و غلاء المعيشة و سياسة التقشف و تغير الأذواق و الاحتياجات، فأصبحت الشابات تكتفين في الغالب بقطع صغيرة تواكب الموضة و لا تستنزف ميزانيتهن، ما جعل تجارة و صناعة الحلي الذهبية تتقهقر تدريجيا. بخصوص مهنة الدلال ، قال محدثنا بأنها معروفة منذ القدم بقسنطينة، لكن بشكل مختلف تماما، فقد كان الدلال قبل عقود من الزمن رجلا معروفا و محترما يثق به أصحاب محلات و ورشات الصياغة فيكلفونه ببيع الحلي الذهبية التي انتهت موضتها، أو بها عيب أو عطب صغير، و كذا الحلي العادية في البيوت، و كان الأزواج و الآباء يثقون به و يسمحون له بدخول بيوتهم لعرض المصوغات على زوجاتهم و بناتهم المقبلات على الزواج، لأنهن لم يكن يسمح لهن بالخروج و نافست المرأة الدلالة الرجل طويلا في هذا المجال. السيد برنو، 67عاما، تحسر لأن دلال هذا العصر "حاكم الشارع" ، على حد تعبيره، و لا تخضع سلعته للمراقبة،مقترحا تخصيص سجل تجاري خاص له ليخضع للمراقبة و لا يؤثر نشاطه سلبا على سوق الذهب. و اعتبر من جهة أخرى، بأن عدم وجود تخصص تصميم و صنع الحلي بمراكز التكوين المهني من بين أسباب تقهقر الحرفة ، إلى جانب عدم الترخيص للحرفيين باستيراد آلات و قوالب تواكب خطوط الموضة، و تضمن التصميم الدقيق للحلي، وتمنى محدثنا الذي يستعد لإنشاء فيدرالية لحماية الحرفة قريبا، أن يوضع إطار قانوني لتسجيل إبداعات حرفيي المعادن الثمينة، لوضع حد لسرقة الإبداعات الجزائرية من قبل الأجانب و نسبها لأنفسهم.