التشريعيات تعيد تشكيل الساحة السياسية تتجه الساحة السياسية الوطنية قبل ثلاثة أشهر فقط عن الانتخابات التشريعية، نحو إعادة التشكيل على أساس أقطاب ثلاثة كبرى، وطنية، إسلامية وديمقراطية إن صح التعبير، في مؤشر مهم على أن المنافسة ستكون على أشدها خلال الاستحقاقات القادمة. تتسارع منذ أسبوعين الأحداث داخل بيت التيار الإسلامي، الذي بعد مرحلة شتات صعبة وغير مفيدة، يريد العودة اليوم إلى الاندماج والتحالف والانصهار من جديد لمواجهة تحديات المستقبل. فبعد الإنجاز المحقق داخل حركة النهضة التاريخية الذي أطلق عليه «التحالف الاستراتيجي الاندماجي» باندماج جبهة العدالة والتنمية للشيخ عبد الله جاب الله، وحركة النهضة الحالية، ثم التحاق حركة البناء بهما قبل أيام، قررت جبهة التغيير التي يقودها الوزير السابق عبد المجيد مناصرة العودة إلى أحضان الحركة الأم « حركة مجتمع السلم» في خطوة فاجأت الكثيرين الذين عاشوا الصراع الذي فجر «حمس» قبل سنوات بسبب الأنانية وحرب المصالح التي طفت على السطح في ذلك الوقت. وبعودة جماعة عبد المجيد مناصرة إلى بيتهم القديم تكون «حمس» قد استعادت جميع أطرافها تقريبا واسترجعت وزنها السياسي التقليدي داخل الساحة السياسية، عدا جماعة بلمهدي والدان وغيرهما، الذين فضلوا هذه المرة الالتحام مع جماعة النهضة لحسابات خاصة بهم. لكن مهما يكن فإن ما وقع هذا الأسبوع يؤدي في النهاية إلى إعادة التيار الإسلامي التقليدي إلى طبيعته السابقة، أي حمس والنهضة كجناحين له، وكمركزي ثقل، وهما اللذان شكلا جسم هذا التيار منذ عشرين سنة، وكانتا القوتين الأبرز داخل المجالس المنتخبة منذ انتخابات الخامس جوان من عام 1997.ويبدو أن الإسلاميين أدركوا اليوم أن التجزئة والتشتت ستقضي عليهم واحدا تلو الآخر، خاصة بعدما خاضوا تجربة على انفراد لم تؤد إلى أي نتيجة سوى إلى المزيد من الضعف والاندثار، ولا يمكن اعتبار تجربة تكتل الجزائر الخضراء التي طبقت خلال انتخابات 2012 ناجحة، لأن حمس كانت الخاسر الأول والوحيد منها، حيث خسرت مقاعد كانت محسوبة لها تقليديا في العديد من الولايات، لأن مرشحي التكتل من حركتي النهضة والإصلاح لم يتمكنوا من الفوز بها، وهكذا فقد عملت حمس على تغطية العجز الذي أبانته كلا من الإصلاح والنهضة في الكثير من الولايات، لكن ذلك كلفها الكثير حتى قال بعض قياداتها أنهم لن يكرروا التجربة ابدا في المستقبل. بعيدا عن التيار الإسلامي يبدو التيار الوطني، أو ما يعرف تقليديا بهذا الاسم في مكانه، فحزب جبهة التحرير الوطني صاحب الأغلبية في كل المجالس المنتخبة حتى الآن يرفض التحالف مع أي كان في الاستحقاقات الانتخابية المقبلة، وقد قالها صراحة الأمين العام جمال ولد عباس قبل أسابيع. و الأفلان بآلته المعروفة يضع بهذا كل ثقته في نفسه وفي مناضليه وإطاراته، ويقرر خوض كل الاستحقاقات بمفرده كما فعل من قبل، لكن الحزب العتيد هذه المرة ليس على ما يرام حسب الكثير من العارفين بخباياه. فقد عرف الحزب هزة جديدة قبل شهرين فقط عندما قرر أمينه العام السابق عمار سعداني رمي المنشفة والاستقالة بشكل مفاجئ من الأمانة العامة قبل أشهر قليلة عن الانتخابات التشريعية، وهو الشيء الذي خلق نوعا من الارتباك داخل هياكل الحزب لا تزال ارتداداته مستمرة إلى اليوم. ورغم تكليف جمال ولد عباس بقيادة الآفلان ولم تكن عليه اعتراضات ظاهرة من أي جهة أو كتلة داخل الحزب إلا أن هذا الأخير الذي باشر عملية مصالحة داخلية لم يتمكن حتى الآن من جلب كل الغاضبين وإرضائهم، ولم يتمكن من أطلاق آلة الحزب في الميدان لخوض غمار التشريعيات القادمة. ويعلق الكثيرون على الوضع الحالي لجبهة التحرير الوطني بأنه غير واضح، وبأن الحزب على هذا المنوال قد يخسر بعض المقاعد في انتخابات الربيع القادم بالنظر للوضعية التي توجد عليها هياكله اليوم على جميع المستويات، في انتظار ربما تحرك قوي في المستقبل ليعيد له حيويته. لكن الجزء الثاني في التيار الوطني، أي التجمع الوطني الديمقراطي يبدو أحسن حالا من الآفلان، فهو وعلى الرغم من المعارضة المستمرة لأمينه العام أحمد أويحيى من بعض الإطارات إلا أنه يبقى حزبا أكثر تماسكا وتنظيما وانضباطا مقارنة بالحزب العتيد، وقد يحافظ على مقاعده بكل سهولة نظرا لكل هذه الميزات المذكورة، بل هناك من يتوقع أن يكسب مقاعد أخرى في التشريعيات المقبلة. أما القطب الثالث التقليدي فهو ما يسمى بالتيار الديمقراطي، وعلى الرغم من أن أبناء هذا التيار يقولون أنه في أسوء حال، إلا أن هذا الأخير يبقى رقما معتبرا في حسابات كل انتخابات وكل مرحلة، خاصة و أن أطرافه التقليدية المعروفة جبهة القوى الاشتراكية، والتجمع من أجل الثقافة والديمقراطية قررا المشاركة في الانتخابات التشريعية. ويبقى هذا التيار إذا ما اضفنا إليه الحركة الشعبية الجزائرية يمثل كتلة واحدة في البرلمان بغض النظر عن عدد المقاعد التي سيحصدها، فهو على الأقل يمثل قوة سياسية معينة واضحة ومعروفة تقليديا، ويعتبر محرك المعارضة في المجلس الشعبي الوطني رفقة التيار الإسلامي، لذلك فإن وجوده كقطب داخل البرلمان مفروغ منه ومحسوم. عدا هذه الأقطاب الثلاثة التي تشكل الكتل الرئيسية في البرلمان عادة، فإن الأحزاب الأخرى الصغيرة التي قد تفوز ببعض المقاعد لا يوضع لها حساب كبير، ولا تؤثر في اتجاه سير المجلس الشعبي الوطني وغيره، وبالتالي فإن ما يهم اليوم هو أن التيار الإسلامي عاد إلى توحيد صفوفه، لأنه لابد أن يكون كذلك أن أراد أن يلعب دورا ما في المستقبل، لأن تجربة التشتت لم تكن مفيدة، أما التيار الوطني فهو كالعادة يضمن كتلة موحدة بإمكانها تمرير كل القوانين والمشاريع التي تريدها الحكومة، ويبقى أن تمثل المعارضة الأخرى دورها كما يجب. وقد تظهر في المستقبل تحالفات أخرى، لكن ما يجب التركيز عليه هو أن الأقطاب السياسية التي عرفتها البلاد منذ عشرين عاما عادت كما كانت تقريبا، ما سيفتح المنافسة على أشدها هذا العام.