عفا عمّن حاول اغتياله و أحبّ الموسيقى و الرياضة حرّر العقول و أنار الضمائر، فسلّح بالعلم و الدين أجيالا من الشباب و الشابات الذين حاربوا المستعمر الفرنسي و أخرجوه من الجزائر بثورة اندلعت بعد 14 سنة من وفاته، هو رائد النهضة الإسلامية العلاّمة عبد الحميد بن باديس، الذي لا يزال كل شبر من مدينة قسنطينة شاهدا على مروره. و بمناسبة ذكرى يوم العلم المصادفة لتاريخ وفاة العلامة، تعد النصر بورتريه عن الرجل تنقل من خلاله جوانب أخرى عن ابن باديس المعلم و الإنسان و الابن، و ذلك على لسان شقيقه الأصغر عبد الحق. بعيدا عمّا نقله المؤرخون عن الحياة العلمية للعلاّمة عبد الحميد بن باديس، قرّرت النصر الغوص أكثر في الجانب الإنساني للرجل من خلال التحدث إلى أفراد عائلته، فكان لنا موعد مع شقيقه الأصغر السيد عبد الحق، الذي وافق على استقبالنا في منزل العائلة الواقع في حي الطابية بالمدينة القديمة، و تحديدا في الممر الذي أطلق عليه اسم جده «المكي بن باديس»، و ذلك رغم أنه كان في أوجّ التحضيرات الخاصة بإحياء يوم العلم المصادف لذكرى وفاة العلامة. في بيت العلاّمة بهذا المنزل الذي دخلناه عبر البوابة رقم 3 ذات اللونين الأخضر و الذهبي، قضى عبد الحميد بن باديس فترة مهمة من حياته و اتخّذ من إحدى غرفه معتكفا للنهل من العلم، و أحيانا للخلود إلى النوم لساعات قليلة جدا كان يخصصها لجسمه النحيل، و هو الذي قال في بيان أصدره سنة 1936 معتذرا عن قبول منصب المؤتمر الإسلامي الجزائري «أعلن لهؤلاء الإخوة و للأمة الجزائرية كلها أنني لست لنفسي و إنما أنا للأمة أعلّم أبناءها و أجاهد في سبيل دينها و لغتها». المنزل لا يختلف عن السكنات التي تُعرف بها المدينة القديمة بقسنطينة و المتوارثة من العهد العثماني، فهو عبارة عن «دار عرب» بها «وسط الدار» الذي يتمثل في ساحة تتوسط المكان في شكل مربع، تُحاط به غرف موزعة بطريقة متناغمة على الطابقين الأرضي و الأول، و تصل إلى شرفاتها أعمدة لولبية و جدران لا تزال عليها تلك الزخارف ذات الألوان الناعمة و المتّسقة، فيما حافظ سكان المنزل على البلاط القديم الذي يميل لونه إلى القرمزي. عبد الحق بن باديس رحّب بنا و رافقنا بخطى متثاقلة إلى غرفته المتواضعة، التي تستقبلك مع دخولها بصورة العلامة عبد الحميد بن باديس المُعلقة على الجدار و أسفلها بيانو قديم مُحاط بأغراض للزينة تأخذك معها إلى زمن الأصالة و العراقة، حتى الأفرشة و الأغراض لم تُستبدل بأثاث عصري و كانت منسجمة مع الديكور، و كأن الزمن لم يمضِ في ذلك المكان الذي تشتم فيه عبق كل ما هو عتيق داخل ما يشبه متحفا مُصغّرا.. قادنا الفضول لمحاولة الإطلاع على ما تبقى من الأغراض الشخصية لعبد الحميد بن باديس، لكن شقيقه الأصغر أخبرنا أن مفاتيح الغرفة التي توجد فيها تلك الأغراض، مع ابنته فوزية التي كانت مسافرة في بنغلاديش.. شعرنا بالخيبة و طرحنا على أنفسنا سؤالا لم نجد من يمكنه أن يجيبنا عنه: «ألا يستحق رائد النهضة بالجزائر أن يُبنى له متحف ينقل ذاكرته للأجيال؟». نبغ في الزيتونة فدرس عاما عوض أربعة السيد عبد الحق فضّل أن يبدأ حديثه بسرد حياة عبد الحميد بن باديس المُعلّم أو «سيدي حامد» مثلما ناداه تلاميذه، ففي الوقت الذي كانت فيه العربية ممنوعة، و كان مصير حافظي القرآن و المتعلمين منحصرا بين الزوايا أو الهجرة أو التوظيف، قرّر والده محمد بن مصطفى، توجيهه منذ الصغر إلى اللغة العربية بالدراسة عند الشيخ المداسي و هو من أشهر معلمي القرآن آنذاك، حيث حفظ كتاب الله عندما أتمّ 13 سنة، و أمّ التراويح في الجامع الكبير لثلاث سنوات متتالية و عمره لم يتجاوز 16 سنة، بعدها قدمه الوالد للشيخ حمدان لونيسي لتعلم اللغة العربية. و قد شاءت الأقدار أن يوافق الأب على اقتراح تقدّم به الشيخ حمدان لونيسي بسفر عبد الحميد لتونس لإتمام دراسته، و هو ما حدث بالفعل، حيث سافر إلى جامع الزيتونة الذي كان يُسمى وقتها «الجامع الأعظم»، و تحصل هناك على «شهادة الأهلية»، و الحقيقة، يضيف عبد الحق بن باديس، هي أن العلامة و بعد خضوعه إلى امتحان، سُجّل مباشرة في منتصف السنة الثالثة في جانفي من سنة 1910، لما لاحظه عليه علماء الزيتونة من نبوغ أهلّه إلى تجاوز عامين و نصف و الحصول على «شهادة التطويع» بعد سنة و نصف فقط من الدراسة عوض 4 سنوات، حيث أطلعنا السيد عبد الحق على مجلد صغير يحتوي على الشهادات التي كتبها علماء الزيتونة عن ابن باديس، و التي تضمنت إشادة بنبوغه و تمكنه. بعد ذلك، ظلّ ابن باديس في تونس لسنة أخرى من أجل التمرّن، فاستزاد من العلم و اطلع على التقدم الفكري الذي كان حاصلا هناك مقارنة بالجزائر، ثم عاد لقسنطينة و سافر مجددا، لكن إلى المدينةالمنورة، أين التقى بعدد من العلماء و المشايخ و من بينهم معلمه حمدان لونيسي، الذي عرض عليه البقاء في المدينةالمنورة، غير أن ابن باديس فضّل العودة من أجل خدمة بلاده و انتشالها من الجهل، لكن ليس قبل السفر إلى عدد من دول المشرق للنهل أكثر من العلوم. عند العودة و هو لا يزال في سن الخامسة و العشرين، كان ابن باديس قد قرّر أن يبدأ رحلة أخرى، ستكون هذه المرة رحلة لتنوير العقول و محاربة الجهل و نشر العلم، حيث شرع في أكتوبر 1914، في التدريس بالجامع الأخضر بقسنطينة، بمساعدة والده الذي حصل على تسريح على أساس إنشاء مدرسة للفرنسية و العربية و الحرف حتى لا يثير الانتباه، فأسس مدرسة التربية و التعليم التي تمنح شهادة الأهلية بعد 4 سنوات، و قد كان التعليم موزعا أيضا على مسجدي سيدي قموش و سيدي بومعزة الواقعين بالمدينة القديمة. قصة التلميذ الكسلان و لحاف تونس! و ُعرف عن الشاب عبد الحميد أنه كان ينبض بالنشاط و لا يكاد يتوقف عن العمل طيلة النهار، إذ و باستثناء الخميس و الجمعة، كان يتنقل يوميا من إحدى العمارات التي يقطنها أسفل ثانوية حيحي المكي، إلى الجامع الأخضر، ليبدأ تقديم الدرس الأول مباشرة بعد صلاة الصبح و يستمر في التعليم إلى غاية العشاء، يقول للنصر شقيقه عبد الحق، الذي تتلمذ على يد العلامة لثلاث سنوات متتالية منذ أن كان عمره 17 سنة، و هي مدة كان يُعامل فيها مثل باقي الطلبة و لم يلق خلالها أي تمييز لأنه أخ المُدّرس، حتى أنه و في إحدى المرات، يستذكر السيد عبد الحق، فضّل عبد الحميد بن باديس نصح أخيه، عن طريق الشيخ أحمد بوشمال، بمطالعة كتاب «كليلة و دمنة»، ثم كتاب من جزئين اسمه «حياة محمد» و مؤلّف يحمل عنوان «كمال أتاتورك»، فانتقل به، بذكاء، من قصص الحيوان إلى السيرة النبوية ثم السياسة. و خلال السنوات الخمس و العشرين التي قضاها بين تفسير كتاب الله و التدريس بهمّة عالية، كان ابن باديس كثيرا ما يستغل يومي الخميس و الجمعة اللذين يُفترض أنهما مخصصان للراحة، للسفر إلى الولايات الأخرى و القرى من أجل الوعظ و فتح المدارس، أو للتنقل إلى مقر جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بالجزائر العاصمة، و يقول شقيقه عبد الحق إن ابن باديس كان يذهب مساء الخميس و مباشرة بعد أداء صلاة العشاء بالجامع الأخضر، إلى محطة القطار بحي باب القنطرة مترجّلا، و يسافر من هناك إلى العاصمة التي يصلها صباحا، حيث يلتقي بالشيخ البشير الإبراهيمي و غيره من العلماء و يتابع شؤون الجمعية، ليستقل في مساء الجمعة القطار مجددا و يصل صباحا إلى ولاية قسنطينة لكي يستأنف الدروس. و من الذكريات التي ظلّت عالقة في ذهن عبد الحق خلال فترة التتلمذ على يدي شقيقه، أنه و في إحدى المرات، انتبه العلامة عندما بدأ إلقاء الدرس الصباحي الأول، إلى تغيب أحد الطلبة ثم حضوره في الدرس الموالي، و بعد انتهاء الدرس استفسر منه عن سبب تخلّفه، ليجيب التلميذ بأنه لم يستيقظ باكرا، فقال له ابن باديس إنه عندما درس في تونس، كان يستعمل لحافا إذا غطى كتفه تتعرّى رجلاه، و إذا غطا رجليه تتعرى كتفه، فقط لكي لا يستغرق في النوم و ينهض باكرا، ثم خاطبه بلهجة الأب المُحبّ «إذا استمررت على هذا الحال أنصحك بمساعدة والدك في الفلاحة»، و منذ ذلك اليوم استوعب التلميذ الدرس جيدا و زادت همتّه، بل صار أول الحاضرين. تدريس الفتيات في سوريا.. حُلُم دفنته الحرب! وفي مجتمع محافظ أراده المستعمر الفرنسي أن يظّل غارقا في الجهل و البدع، تحدى عبد الحميد بن باديس الذهنيات السائدة وقتها و قرّر أن يُقحم المرأة الجزائرية في الحياة العامة من خلال التعليم، فشرع في تدريس الفتيات مجانا بمدرسة التربية و التعليم، حيث قال شقيقه عبد الحق إنه كان يحرص على ترك الباب مفتوحا أثناء تدريسهن و بحضور عمر بن شعلال الذي كان مراقبا بالمدرسة، و قد بدأ إقبال العائلات على تسجيل بناتهم بشكل تدريجي، إلى أن أصبح عددهن كبيرا يضاهي عدد الطلبة الذكور، حتى أن الدراسة في السنة الرابعة كانت مختلطة بين الذكور و الإناث، حيث كنّ يجلسن في المقدمة و الذكور في الخلف، و قد أكمل العديد منهن حياتهن بنجاح و أصبحن مديرات و تقلدن عدة مناصب، و من بينهن زهور ونيسي، أول وزيرة في تاريخ الجزائر المستقلة. ابن باديس أراد لمشروعه أن لا يتوقف عند حدود قسنطينة، فتطلّع إلى ابتعاث الفتيات الدارسات في السنة الرابعة إلى سوريا، حيث وضع الخطوة الأولى بتوجيه رسالة في هذا الشأن إلى عادلة بيهم الجزائري، حفيدة الأمير عبد القادر التي كانت حينها رئيسة جمعية «دوحة الأدب» بدمشق، و لُقبّت ب «أميرة الرائدات العربيات»، لما كان لها من دور مهم في إشراك المرأة في الحياة العامة و النضال ضد الاستعمار، ابن باديس بعث أيضا برسالة إلى شيخ الأزهر لتدريس الطلبة هناك، لكنها مشاريع لم يُكتب لها أن ترى النور بسبب اندلاع الحرب العالمية الثانية في سبتمبر 1939 ثم وفاته في 16 أفريل من سنة 1940، ليُتمّ الشيخ مبارك الميلي ما تبقى من أشهر خلال السنة الدراسية، ثم يتكفّل العربي التبسي بإكمال المشوار الذي بدأه العلامة في مدرسة التربية و التعليم. رفض منصب «شيخ الإسلام» و حرّم الزواج بالفرنسيات و لأن العلامة عبد الحميد بن باديس كان واعيا بضرورة انتشال الجزائريين من الضلالات و البدع التي كادت أن تنحرف بهم عن الإسلام الصحيح، قرّر دخول معترك الصحافة و بدأ من جريدة المنتقد التي أسّسها سنة 1925 و كان شعارها «الحق فوق كل أحد و الوطن قبل كل شيء»، و عنها قال لنا شقيقه عبد الحق أن 18 عددا فقط من هذه الجريدة صدر، حيث تم توقيفها عن الطبع عندما نشر فيها ابن باديس مقالا انتقد فيه الطُرُقية، مضيفا أن اختيار تسمية "المنتقِد" جاء لأن الزوايا كانت تعمل حينها بشعار "اعتقد و لا تنتقد"، فرد عليهم ابن باديس قائلا "انتقد قبل أن تعتقد"، لأنه كان يرفض كل ما يراه خاطئا و يُعبر عن ذلك دون خوف.ابن باديس أسّس مطبعة النجاح، ثم في 16 أفريل 1925 "المطبعة الجزائرية"، التي تقرّر تغيير اسمها إلى "المطبعة الجزائرية الإسلامية" لكي لا يتشابه مع مطبعة أخرى موجودة بالعاصمة، حيث طُبعت فيها الشهاب و البصائر و مجلات و جرائد أخرى، و في هذا الشأن أوضح السيد عبد الحق أن البلدية أخطأت بوضع لافتة تحمل عبارة "المطبعة الإسلامية الجزائرية" بهذا المعلم التاريخي، الذي لا يزال يشهد وضعا كارثيا سبق و أن تطرقت إليه النصر، و نجم عن توقف الترميمات منذ قرابة 3 سنوات. يضيف السيد عبد الحق أن العلامة الذي أسس فيما بعد جمعية العلماء المسلمين الجزائريين سنة 1931، حرّم التجنس بالجنسية الفرنسية آنذاك، فقد رأى في ذلك تخلّ عن الدين و الهوية، كما حرّم الزواج بالفرنسيات و عدّه خضوعا للقوانين الفرنسية يمسّ أيضا الأبناء و يُبعد صاحبه عن الإسلام، و قد أصرّ ابن باديس على مواقفه التي كانت تنبذ كل ما يأتي من المستعمر، حتى أنه رفض عروضا قدّمها له الفرنسيون بأن يصبح "شيخ الإسلام" و مدير مدرسة. و ما ساعد العلامة على الثبات عند مواقفه، يُردف محدثنا، هو أن والده كان قائما على جميع مصاريفه و لم يكن بذلك في حاجة إلى وظيفة، و في أحد أعداد جريدة الشهاب كتب ابن باديس كلمة عن أبيه محمد بن مصطفى قال فيها "أولا والدي الذي قاتني و حماني"، فهو الذي استطاع تدريس اللغة العربية بالجامع الأخضر رغم أنها كانت ممنوعة، و كل ذلك بفضل والده. من محاولة قتل فاشلة إلى مصالحة تغلّبت على الخلافات السيد عبد الحق بن باديس عاد بنا إلى محاولة الاغتيال التي تعرّض لها شقيقه العلامة سنة 1926 ردا على مقال انتقد فيه زاوية بن عليوة في مستغانم، ففي تلك الليلة المشؤومة و بينما كان ابن باديس عائدا من الجامع الأخضر إلى منزله، باغته شاب ترصّده متخفيا قرب أحد السلالم المتفرعة عن شارع العربي بن مهيدي، حيث ضربه على رأسه بسلاح يطلق عليه "سدر الدجاج" و يشبه السيف، ثم حاول إدخاله بالقوة إلى نفق قريب و ذبحه بسكين "البوسعادي"، لكن عبد الحميد بن باديس قاومه بشجاعة و بدأ يدفع الُمعتدي باتجاه الدرج و يصرخ، ليهرع السكان إلى نجدته و يمسكوا بالشاب، غير أن العلامة منعهم من إيذائه رغم أنه أراد قتله، و عن هذا الموقف الإنساني النبيل، ذكر السيد عبد الحق أن الطيب العقبي كتب قصيدة نشرت في جريدة الشهاب قال فيها: كادوا به يسطون لو مكنتهم *** من قتله لسطوا به لولاكا لله موقفك العجيب بنهيهم *** عن قتل من للقتل قد وافاكا علّمتهم كيف التحمل للأذى *** فتعلموا درسا على بلواكا يوم المحاكمة، قال ابن باديس إنه سامح الشاب، لكنه دعا إلى معرفة من سلّحه و دفعه إلى هذا الفعل الشنيع، قبل أن يُحكم عليه بالسجن لخمس سنوات و تُبيّن التحقيقات، حسب شقيقه عبد الحق، أن شيخه بزاوية بن عليوة هو من أعطاه "البوسعادي"، و طٌلب منه أن يذهب في اليوم الأول إلى الجامع الأخضر، ثم يقترب قدر المستطاع ليعرف من هو ابن باديس، و عند خروجه يتتبعه و يعرف مساره، لكي يذبحه في اليوم الموالي و يكون ذلك له بمثابة "التبرّك بذبح دجاجة"، فجاء ذلك الشاب متحمسا و اشترى تذكرة للذهاب، و أخرى للعودة إلى مستغانم عبر العاصمة وُجدت بحوزته. ويضيف السيد عبد الحق، أن العلاّمة و عندما تيّقن أن مدة سجن ذلك الشاب انقضت، سافر إلى زاوية ابن حلّوش في مستغانم أين استُقبل من طرف شيخها أحسن استقبال، كما ألقيت هناك دروس بمناسبة قدومه، كان من بين الذين حضروها "سيدي بن عليوة" شيخ الطريقة العليوية، الذي أمر ذات يوم بقتله، و قد استغل ابن باديس هذه المناسبة لإلقاء محاضرة دعا فيها أهل العلم إلى التعاون فيما بينهم، و قال إن "الخلاف عند العقلاء مقبول". و ذكر ابن باديس لاحقا في إحدى مقالاته، أنه لمس "أدبا" من الشيخ بن عليوة و لم يتطرق كلاهما إلى الخلافات السابقة، حتى أنه وّجه إليه دعوة لزيارة زاويته بحضور الطلبة الذين كان بينهم من حاول قتله، و هو موقف يُجسد معنى العفو و المصالحة، يقول السيد عبد الحق بن باديس. سيارة الوالد للتنزّه في جبل الوحش و المنصورة و معروف أن العديد ممّن قادوا الثورة التحريرية ضد المستعمر، كانوا يوما ما تلاميذ عبد الحميد بن باديس، و قد نُقل عنه، حسب شقيقه عبد الحق، أنه كان ينتظر إعلان إيطاليا الحرب على فرنسا من أجل الثورة ضدها، لكن شاء القدر أن يفارق الحياة قبل إعلان إيطاليا عن تحالفها مع دول المحور بقيادة ألمانيا. رغم ذلك، قال ابن باديس ذات يوم "الشعب الذي لا يمكنه أن يصنع إبرة، كيف له أن يثور"، لذلك فلم يكن ينظم الشعر كثيرا، و أول بيتين كتبهما كانا أثناء المرات القليلة التي كان يقوم فيها بالتنزه مع شقيقه عبد الحق في سيارة والدهما بمنطقتي جبل الوحش و المنصورة، حيث طلب بسرعة من أخيه أن يأخذ ورقة و يدوّن: كم عالم يسكن بيتا بالكراء *** و جاهل يملك دورا و قرى لما قرأت قوله سبحانه *** نحن قسمنا بينهم زال المِرا ويضيف السيد عبد الحق أن العلاّمة ابن باديس لم ينظم الشعر منذ ذلك الوقت لانهماكه في تفسير القرآن، لكن عندما بدأت دعوات الاندماج كتب قصيدته الشهيرة "شعب الجزائر مسلم و إلى العروبة ينتسب"، و بعدها قصيدة "اشهدي يا سماء و اكتبن يا وجود"، و قد كانت فيها دعوة صريحة إلى الثورة ضد المستعمر، قبل أن يترك للجزائريين وصية تظهر في إحدى صوره، قال فيها: سينحل جثماني إلى الترب أصله *** و تلتحق الورقا بعالمها الأسمى و ذي صورتي تبقى دليلا عليها *** فإن شئت فهم الكُنه فاستنطق الرسما و عن صدق إحساس تأمّل فإن *** في ملامح المرء ما يكسب العلما و سامح أخاك إن ظفرت بنقصه *** و سل رحمة تُرحم و لا تكتسب إثما لم يعترض على اقتناء شقيقه لبيانو و قد نبذ عبد الحميد بن باديس محاولات التفرقة بين الجزائريين، فقال في الأمازيغ "ما جمعته يد الله لا تفرقه يد الشيطان" و بأن "أبوهم الإسلام و أمّهم العربية"، كما ذكر شقيقه عبد الحق بأنه و زيادة على حبّه للكشافة، أيّد العلاّمة الفن و الرياضة، فكان يشجع طلبته على الذهاب في أيام الراحة للعب في المنصورة و السباحة في مسبح سيدي مسيد، كما شجّع الشباب الفني الذين كانوا يعزفون الموسيقى باستعمال العود و الكمان، حتى أن أحد أعضاء الفرقة هو من لحّن أنشودة "شعب الجزائر مسلم و إلى العروبة ينتسب". ويضيف محدثنا أنه لم يسمع شقيقه الأكبر عبد الحميد يتكّلم يوما باللغة الفرنسية، لكنه كان منفتحا غير متعصب، حتى أنه، أي عبد الحق، يملك بيانو من وقت العلامة، مثلما أكده للنصر، مضيفا أنه شجّع أيضا الرياضة و اقترح تسمية الفريق الرياضي "مولودية قسنطينة" بهذا الاسم، حيث اشتقه من ذكرى المولد النبوي الشريف. على فراش الموت.. السيد عبد الحق بن باديس نفى الإدعاءات التي تقول بأن العلامة توفي بسبب السرطان و كذلك الرواية التي روّجتها ألمانيا عبر الإذاعة، بأن فرنسا قتلته، و الحقيقة، مثلما يضيف، أن سبب وفاته هو التعب و الإرهاق، إذ لم يكن يتوقف عن العمل من الفجر إلى الليل، فقد لزم الفراش ليومين أو ثلاثة قبل أن يفارق الحياة يوم 16 أفريل 1940.. في تلك الليلة، يستذكر شقيقه و دموعه تنهمر بحرقة، كان بجنب العلامة الوالد و الأخ الأكبر المولود و الدكتور بن جلول و بروفيسور فرنسي استُدعي من العاصمة، و قبل ذلك كان عبد الحق ينام قربه لكي يجلب له ما يريد، لكن في اليوم الثالث و عند الساعة الثانية، خرج الأب و الطبيب و أعلما العائلة بالخبر الذي نزل عليهم كالصاعقة. جنازة عبد الحميد بن باديس كانت مهيبة، و لم ينتظر آلاف سكان قسنطينة الحصول على ترخيص بالتنقل من الفرنسيين، لحضورها، حيث تم تصويرها من إحدى نوافذ المجلس الإداري المُطل على "البولفار" عند خروج الجثمان من القصبة، ثم قرب البريد المركزي و حي "سان جان" و بعدها قرب المقبرة التي لم تكن حينها محاطة بسور، لذلك تظهر الصور حشدا كبيرا من الجزائريين امتد من "سان جان" إلى غاية المقبرة، أين ألقى تأبينيته الشيخان العربي التبسي و مبارك الميلي، اللذين كانا مُقرّبين من العلامة كثيرا، فيما تغيّب رفيقه البشير الإبراهيمي لتواجده في المنفى، و هو الذي وضع ابن باديس في منزلة الصحابة، يضيف شقيقه، عندما قال إن الأيام التي قضاها بالضبط في تفسير القرآن الكريم، تُعادل 23 سنة، و هي المدة التي نزل فيها القرآن على الرسول محمد عليه الصلاة و السلام. عبد الحق بن باديس قال إن "يوم العلم" الذي تحتفي به الجزائر كل عام منذ عهد الرئيس الراحل هواري بومدين و طالب الإبراهيمي، جاء في ذكرى وفاة العلامة و ليس ميلاده، لكي يُحتفل بالرجل و ما تركه من أثر و ليس بمولود جديد لم يكن قد قدّم شيئا للعالم، مُنتقدا الطريقة التي كانت تُحيى بها هذه الذكرى وسط ما أسماه "التطبال و الشطيح"، لكنه استدرك قائلا بأن الاحتفالات أصبحت حاليا "في المستوى"، و عن تظاهرة قسنطينة عاصمة الثقافة العربية التي كان انطلاقها و ختامها الرسميان في ذكرى يوم العلم، أكد محدثنا أن مؤسسة عبد الحميد بن باديس لم تُشرك أو تُستدعى فيها، و بأنها تحوّلت إلى مناسبة للغناء و "الطبطيب"، على حد قوله. بعد قرابة ساعة و نصف من الحديث، قرّرنا ترك السيد عبد الحق الذي يفوق عمره اليوم 90 سنة، لأخذ قسط من الراحة وسط كل تلك الذكريات، و ودّعناه على أمل لقاء ثانٍ قد يكشف فيه أسرارا أخرى عن رائد النهضة الجزائرية. ياسمين بوالجدري/تصوير: شريف قليب
الدكتور عبد الله حمادي للنصر ابن باديس تبنى خطابا ذكيا استعدى فيه فرنسا الحضارية على الاستعمارية يكشف الدكتور عبد الله حمادي، في هذا الحوار مع النصر، عن فصول جديدة حول حياة العلامة الراحل الإمام عبد الحميد بن باديس، وعن ما تلقاه من أذى من الأوساط الثقافية العربية و أعيان مدينة قسنطينة، كما يتحدث الباحث وهو الذي نشر كتابا مؤخرا عن مسيرة وسيرة العلامة، عن خطابه الذكي الذي كان يستعدي فيه فرنسا الحضارة على فرنسا الاستعمارية، لكنه أبرز بأن لغة المهادنة لم تدم طويلا وسرعان ما تحوّلت إلى خطاب عدائي صدامي مباشر، أدى بالسلطات الإستعمارية إلى التخطيط لاغتياله. النصر : هل ما يزال ابن باديس مجهولا وموضوعا للكتابة؟ عبد الله حمادي: نعم بالتأكيد بن باديس مازال موضوعا ثريا للكتابة والبحث، كما توجد العديد من الفصول المجهولة لعائلته، توجد العديد من الإشكاليات والمراحل التي تستحق إعداد كتبا كاملة حولها، فمثلا رحلات ابن باديس إلى المدن الجزائرية تحتاج إلى كتابة، فقد كان يدون انطباعته عن كل مدينة ويتحدث عن مشاكلها ويصف حالها،...أنا أحاول في كل مناسبة أن أكتب شيئا جديدا عن ابن باديس، و أثير إشكالية من إشكاليات العلامة، طبعا ليس بما هو متعارف عليه وماهو تقليدي، فمثلا لقد أثرت في كتابي الأخير حياة ابن باديس لما عاد إلى قسنطينة بشهادة من جامع الزيتونة بتونس ، حيث لم يحظ باستقبال جيد من طرف أعيان ومثقفي المدينة وشيوخ الزوايا و كذا من حفظة ومعلمي القرآن، إذ تم ترويج إشاعات من طرف الأوساط الثقافية السائدة آنذاك بدافع الغيرة والحسد، بأن والده هو من اشترى له هذه الشهادة، خاصة وأنه هو أول طالب جزائري نال شرف الحصول على هذه الإجازة بتفوق، كما أنه كان الأول في دفعته. لو عاش إلى الثورة لدعمها بكل ما أوتي من قوة من هي الأوساط الثقافية التي شككت في الإجازة التي تحصل عليها ابن باديس؟ الإشاعة بدأت من الأوساط الثقافية، التي هي في الأصل من أبناء عائلات قسنطينة والنخبة المعربة، فضلا عن مفتي قسنطينة المولود بن موهوب، لأن التيار المفرنس، لم يكن موجودا وظهر ما بعد الحرب العالمية الأولى، حيث اتهم ابن باديس بعدم الكفاءة وقالوا كيف لهذا الشاب أن يصبح عالما، وطالبوا منه أن يأتي بتزكيات من المشرق، و توجد أدلة بأن سفره إلى الحجاز لم يكن لأداء فريضة الحج، بقدر الإلتحاق بأستاذه بلونيسي حمدان للحصول على تزكية من أجل التدريس، وهو الذي نصحه من قبل بعدم التوظيف في الرسمي في حال أراد أن يبقى حرا ونقيا في فكره، وظل ابن باديس متمسكا بالنصيحة، لكن بلونيسي رفض أن يمنحه التزكية، بل أعطاه رسالة فيها توصية إلى الشيخ بخيت في القاهرة. لماذا رفض أستاذه منحه التزكية؟ رفض لأنه كان يظن أن ابن باديس يريد أن يفتك منصبا للتدريس في هذا الوسط المحتكر من طرف شيوخ الزوايا والمفتشين المنصبين من طرف فرنسا، وتؤكد الروايات والمعلومات، بأنه لما عاد بالتزكية من مصر، فقد وصل الصراع إلى أشده ولم يفتك منصب المدرس، إلا بعد أن فرضت عليه هذه المجموعة أن يمتحن من طرف لجنة يترأسها مفتي قسنطينة، وهو ما حدث حيث اخضع الشيخ إلى إمتحان طويل شمل جميع المجالات، واستمر من صلاة الظهر إلى غاية المغرب، وأظهر بعدها تفوقا كبيرا في هذا اللقاء، ولم يترك أي مجال للخطأ أمام ممتحنيه، وانطلق بعدها في التدريس. أثير مؤخرا جدل حول شخصية ابن باديس وكيفية تبنيه لخطاب مهادنة مع فرنسا ؟ ماهي مقاربتك حول الأمر؟ ابن باديس رفض من بداية مساره كل ما يأتي من فرنسا، حتى أنه كثيرا ما قال لو أن فرنسا قالت له قل لا إله إلا الله لما قالها، كما رفض طلب السلطات الإستعمارية المتعلقة بإدراج مادة اللغة الفرنسية في مقررات مدرسة التربية والتعليم، ومن هنا نقول أنه ابتداء من هنا خرج على خط العائلة،.. ابن باديس، وصل إلى نتيجة وكان له الكثير من الذكاء والفطنة، بأنه كان تقريبا يتجنب المواجهة الصدامية المباشرة مع فرنسا، وإنما اتخذ أسلوبا لم يستمر وتغير وتدرج في عملية الرفض والابتعاد عن الاستعمار والتلميح بالمواجهة، في البداية كان مهادنا كان يستعمل طريقة يشتكي فيها لفرنسا الحضارة من فرنسا الإستعمارية، يقول مثلا في أحد مقالاته، أن أهل فرنسا في باريس الذين ينتمون إلى الحضارة، والذين يدافعون عن الحقوق والحريات ما كانوا ليقدموا على غلق مدرسة تفتحها لتثقيف الناس، لكن هؤلاء الذين هنا في الجزائر هم أقل حضارة وأقل ثقافة وتفهما من الفرنسيين المتحضرين، إذا فهو خطاب يستعدي فيه فرنسا الحضارة على فرنسا الكولونيالية كمن يستجير من الرمضاء بالنار، وهو لجأ إلى هذا الأسلوب وكأنه يقول تعالوا وانظروا ماذا يفعلون هل يا ترى لو كنتم هنا سترضون بهذه الأحكام. ...ابن باديس، كانت له مواقف معادية لكن ليست صدامية لا يكتب كلمة تسيء مباشرة إلى فرنسا وكان يسيء إليها بالتلميح فقط، فرنسا كانت تتابع كل كلمة عن ابن باديس عن طريق مترجميها وابن باديس، تحدث أيضا عن مضار المترجمين، و كثيرا ما اشتكى في مقالاته عن تحريف مقاصده، كما خاطب الشيخ فرنسا بالمنطق واستعمل كثيرا من المنطق الديكارتي، لأنه يعرف بأن الفرنسيين عقلانيين، لكنه مع الوقت عرف بأن فرنسا لن تقدم شيئا باستعمال اللين مع الجزائريين. طالب بتعريب الوثائق ورفض الإقامة في قصر مقابل التخلي عن الجمعية كيف تطوّر خطاب ابن باديس العدائي نحو فرنسا؟ في حادثة اليهود مثلا، و التي خصتها جمعية العلماء بمساحة كبيرة من التغطية، تدخل ابن جلول وهو ابن خالة الشيخ لتهدئة الأوضاع بين اليهود والمسلمين، وطلب من ابن باديس أن يلعب دور في تهدئة الوضع، يقول ابن باديس، بأنه نبه الوالي إلى أن اليهود يحملون السلاح في حين أن المسلمين عزل ، وقال له إذا أردت أن يستتب الأمن، لابد أن يكون الجميع بدون سلاح، فكان رد الحاكم بأنه لا يستطيع أن يفعل ذلك، فاليهود مواطنون وأنتم أهالي، وبالتالي جرحت هذه الكلمة الإمام ، في سيدي عقبة أيضا منع من الدخول إلى المسجد، واصطدم مع أحد الجنود، وقال له لما منعه من الدخول ، من أنت ومن تكون وماذا تفعل هنا في بلدي، أنا جزائري ابن هذا البلد وعربي مسلم،.. هناك العديد من المواقف التي تحسب له. أيضا، وتأتي حادثة المؤتمر الإسلامي، التي توحد فيه رأي الجزائريين من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، لإحراج فرنسا وأجمعوا على ضرورة أن يطالبوا بأن تمنحهم نفس الحقوق التي يتمتع بها اليهود على الأقل، لكن فرنسا رفضت كل شيء، وخلقت فتنة بين الجمعية وبن جلول الذي كان زعيم نواب المدينة من جهة والزوايا من جهة أخرى، لتتوسع الفجوة ودخل النواب الذين كان يستعملهم ابن باديس لإيصال مطالب الشعب، في عداوة مع ابن باديس وهو الأمر الذي سعت إليه فرنسا حتى لا تكون له أي علاقة مع النواب الذين كان ينقلون مطالب الأنديجان، ، لكن ابن باديس كان في كل مرة يجدد محاولات ربط العلاقات مع مختلف التيارات لكن فرنسا طالما أفسدت العلاقة، إلى درجة أن شيوخ الزوايا والمثقفين حرروا وثيقة أرسلت إلى السلطات الفرنسية، يقولون فيها بأن ابن باديس لا يمثل الإسلام في الجزائر، وليس من حقه أن يتكلم باسم المسلمين. .... من مواقفه التي سجلها التاريخ، أن حاكم الجزائر قال له فرنسا لديها مدافع فرد ابن باديس وقال نحن أيضا فقال الآخر عن أي مدافع تتحدث، فقال الشيخ نحن لدينا مدافع الله، وفي سنة 1937 استدعاه الحاكم العام، وخاطبه قائلا يا ابن أخي وعرض عليه الإقامة في فور دولو بقصر وتقدم له كل الخدمات، كما طلب منه قائمة بأسماء أعضاء الجمعية لمنحهم مناصب وإغلاقها، فرفض رفضا صريحا. مفتي قسنطينة أخضعه إلى امتحان ولم يقتنع بشهادة جامع الزيتونة هو أيضا من طالب مباشرة بتعريب الوثائق، وبرر ذلك بأن الشعب الجزائري ليس مطالبا أن يفهم اللغة الفرنسية، و ترسل له دعوات إلى المحاكم مثلا دون أن يفهم مضمونها، حيث كتب في مقالات له مخاطبا فرنسا بأنه من حق هذا الشعب أن يخاطب باللغة التي يفهمها، كما كتب مقالا في البصائر أما لنا أن نغسل أيدينا من فرنسا ، كما هاجم دعاة الإندماج بن جلول و فرحات عباس. إذا ابن باديس كان ضد التيار الإندماجي؟ هو لم يكن يتفق مع الإندماجيين على الإطلاق، وقال بأن الجزائر لا يجب أن تكون فرنسا وأعلن صراحة القطيعة مع فرنسا، وهاجم فرحات عباس هجوما شديدا، لما قال بأن هذا البلد ليس له تاريخ، ما اضطره إلى كتابة مقال اعتذر فيه عن ما صرح وذهب الأمر بفرحات عباس إلى أن زار مقر البصائر وغير رأيه تماما فيما تعلمه من المدارس الفرنسية، فابن باديس استعمل تدرجا في خطابه فكلما علق الشعب آماله على فرنسا، ويكون موقف فرنسا معاكسا لخاطبه، كلما صعد ابن باديس من لهجة خطابه وكأنه ينبه الجزائريين بأن لا أمل لهم في فرنسا، وتحدث بذلك صراحة منذ سنة 1936 إلى غاية وفاته. كيف كانت وفاة ابن باديس وما هو المرض الذي أودى بحياته؟ لقد اختلفت الروايات حول مرضه، حيث قيل بأنه أصيب بالأنيميا لقلة غذائه ونومه، وابن جلول تحدث في نص التأبينة عن صحة ابن باديس، وقال بأنه في آواخر أيامه أصبح مرهقا جدا ولا يستطيع السير من دار التربية والتعليم إلى غاية المسجد الأخضر إلا بسيارة، كما ذكر ابن جلول وهو الطبيب، بأنه رفض أن يكشف عليه لعدم الثقة فيه، لأنه تحالف مع الطرقية والزوايا ضده، كما نزل وزنه إلى 40 كيلوغراما، ويقال أيضا بأن حمل رغم أنفه إلى بيت العائلة بعد أن أوصى بأن يحمله طلبته بعد موته إلى المقبرة مباشرة، حيث تثبت الشهادات بأنه وهب ملابسه وجل مستلزامته إلى طلبته والشهادات الموثوقة تثبت ذلك، كما أن المصادر تقول بأن أزيد من 100 ألف شخص حضروا جنازته وكان آنذاك عدد سكان قسنطينة لا يتجاوز 50 ألفا، ولو تريث والده بدفنه لتحول الأمر إلى مشكل أمني، إذ أن السلطات أمرت والده بالإسراع بدفنه، كما طلب من أهله أن يوقفوه في الدقائق الأخيرة من حياته و مات واقفا كما أراد. أي أثر لابن باديس على مدينة قسنطينة التي ارتبط اسمها باسمه؟ يكفي أن الروايات التاريخية، لم تذكر قسنطينة كمدينة للعلم إلا في عصر ابن باديس، حيث جلب إليها مريدين ومثقفين وكون فيها المئات من الطلبة المتفوقين، لكن المدينة كانت معادية وظلت تكن له العداء حتى بعد وفاته، ومات غير راض عنها، لأن 90 بالمائة من سكانها كانوا معادين لأفكاره، ..... هو رمز فرض نفسه على المدينة بآثره الطيب ورسالته الجليلة التي مات من أجلها، ومحى كل مساوئ أهله وسكانها،... هو عبرة في السلوك والمواقف في الثبات على المبدأ في حب الوطن والتفاني في الوصول إلى الغايات، كان قدوة يحتذى بها وشخصية محترمة جدا حتى أنه لما أراد أن يشتري بناية التربية والتعليم في مزاد علني كانت امرأة غنية تنافسه فيها و تزايد عليه في الثمن كل مرة، ثم غادرت بعد أن سألت عن الرجل صاحب اللحية السوداء، وعلمت بأنه ابن باديس يريد أن يشتريها ليدرس فيها أولاد المسلمين. كيف يمكن الحديث عن جمعية العلماء المسلمين بين الأمس واليوم؟ وكيف تقيّم موقفها حول الثورة خلال أيامها الأولى؟ أنا أقول بأن ابن باديس لو امتد به العمر إلى سنة 1954 لكان قد دعم الثورة بكل ما أوتي من قوة، مواقفه وعدائيته لفرنسا الإستعمارية تؤكد ذلك، ... نعم الكل يعرف ذلك البيان الذي أصدرته الجمعية في أوائل نوفمبر، لكن لا أستطيع أن أتحدث عن الأمر لأن دراستي التاريخية، توقفت عند وفاة مؤسسها ورئيسها الأول. حاوره: لقمان قوادري المؤرخ عبد العزيز فيلالي في حوار للنصر مؤسسة ابن باديس تترفّع عن الجدل الدائر حول عائلة الشيخ الذي لم يكن قديسا قال الدكتور عبد العزيز فيلالي، رئيس مؤسسة عبد الحميد بن باديس للنصر، بأن مؤسسته تترفّع عن الجدل المثار مؤخرا حول عائلة العلامة، الذي يوضح بأنه لم يكن قديسا أو صنما مثلما جعله الجاهلون بخبايا سيرته، على حد تعبيره، كما يتحدث في هذا الحوار، الذي أجريناه معه، عن دور جمعية العلماء المسلمين في الارتفاع بالمستوى التعليمي والثقافي للأمة الجزائرية وانتشالها من براثن الجهل والتخلف اللذين سببهما الاحتلال الفرنسي. واعتبر الدكتور بأن الجزائريين كانوا ليفقدوا لغتهم ودينهم وهويتهم لولا الحركة الإصلاحية التي قادها الشيخ عبد الحميد بن باديس وجيل العلماء الذين تكونوا على يديه. وقد أكد فيلالي بأن ابن باديس رجل سياسة قبل كل شيء وعرف كيف يتعامل مع فرنسا، كما كان يقوم بتهيئة الأرضية الملائمة للنهوض علنا ضد فرنسا المستعمرة والمطالبة بخروجها من الجزائر بشكل نهائي لولا أن وافته المنية قبل أن يحقق حلمه. _النصر: لاحظنا في الأيام الأخيرة جدلا في بعض الصحف حول عائلة الشيخ ابن باديس وعلاقتها بفرنسا، لماذا ظلت المؤسسة صامتة ؟ _الدكتور عبد العزيز فيلالي: نحن على اتصال مع بعض الذين كتبوا أشياء حول الشيخ ابن باديس في هذا السياق، ونجيبهم على أسئلتهم، ولكنني في الحقيقة أعتبر هذه الأمور مجرد مهاترات، فهم لا يتكلمون عن شخص الإمام ابن باديس وإنما عن عائلته. وأظن بأن هذا النقاش أثارته جمعية من الغرب الجزائري، سبق لها وأن جاءت بتصريحات «خطيرة جدا»، بعد أن وضعت شمعون بيريز في خانة رجل السلام، بينما اعتبر القائمون عليها بأن ابن باديس لم يكن رجل سلم. ابن باديس كان يمزح ويُنكت مع زملائه هؤلاء جميعا يجهلون حقيقة الشيخ، فهو عند الجزائريين صورة قارة، لكنهم في الواقع لم يقرأوا أفكاره، فلو أنهم درسوا مقالاته وآراءه من خلال ما كتبه في البصائر والشهاب وغيرهما من الجرائد، وما دونه في كتب أخرى، على غرار تفسيره للقرآن، الذي تحدث فيه عن الكثير من الأمور المتعلقة بالقضايا السياسية والاجتماعية للبلاد آنذاك، لعرفوا الكثير من الأشياء. لكن هؤلاء لا يعرفون فكر عبد الحميد بن باديس على حقيقته، كما أن لهم مشارب واتجاهات أخرى، ومن يسلك اتجاه المخالف دائما ما يأتي بأقوال لا أساس لها من الصحة، من أجل البروز ربما. ومثلما يقال «خالف تُعرف». _هل كلامكم يعني بأنكم تترفّعون عن هذا النقاش؟ _طبعا، فهذه الأمور ليست قضايا فكرية ترقى لأن تُطرح للنقاش، وأحد أطراف الجدل يتهم عائلة ابن باديس بالتعامل مع فرنسا الاستعمارية، وحتى ولو كان ما يقوله صحيحا، فإن الكثير من العائلات تعاملت مع السلطات الاستعمارية، التي احتلت الجزائر لمدة 132 سنة، حيث كانت هي الكيان المسيطر هنا والجميع كان مضطرا للتعامل معها في مجالات عديدة، باستثناء بعض الذين ثاروا عليها بشكل كلي. تواضعه منعه من كتابة سيرته الذاتية فهو إذن ليس بالنقاش الجاد حول أفكار الشيخ عبد الحميد بن باديس، بل هو مجرد نقاش سطحي بسيط وفيه شيء من التنابز. وحتى وإن كانت عائلته قد ساندت فرنسا، فإن عبد الحميد ابن باديس لا يتحمل وزر ذلك، فضلا عن أنه لا يمكن أن نبخس عائلته فضل إنجاب هذا الرجل العظيم. أما الحديث عن طريقة وفاة ابنه فلا معنى له في رأيي، رغم أنني أؤكد أن ما قيل مؤخرا عن طريقة وفاته لا أساس له من الصحة. ابنه كان يبلغ حوالي 16 عاما عندما توفي، حيث كان في آخر يوم من حياته يلهو ببندقية الصيد وهي مشحونة، فقام بالضغط على الزناد خطأ ما أدى إلى وفاته. وأثار انتباهي أيضا في الجدل الأخير، البحث عن العائلة وغيرها. لماذا كل هذا النبش؟ خصوصا إذا جاء من شخص لا يعرف عن حياة ابن باديس شيئا. وأضيف أيضا بأن ابن باديس طلق زوجته لأنه أرادها أن تبقى مع عائلته في بيتهم لكنها رفضت، فالرجل كان متزوجا بالجزائر أيضا ودائم الانشغال، بحيث يظل خارج منزله من الفجر إلى غاية منتصف الليل. لذلك أنا أرى بأن هذه الأمور تبقى مجرد تأويلات، وهو ما جعلنا نقرر الصمت وعدم دخول هذا النقاش، لأنه يمس أشخاصا وليس فكرا. أكاديمية التعليم منحته شهادة شرفية _كيف اكتسبت عائلة ابن باديس مكانتها و تحوّل أفرادها إلى أعيان المدينة؟ _يعتبر أفراد عائلة ابن باديس من أعيان قسنطينة منذ القرن الثالث عشر ميلادي، أي منذ العصر الوسيط، وقد كان منهم العلماء والخطباء والقضاة، وكانوا أصحاب مال ودين وجاه وإدارة، وتعاملوا مع الدولة الحفصية وغيرها من الدول المتعاقبة على المنطقة إلى غاية العثمانيين ثم فرنسا المستعمرة، بحكم موقعهم في المجتمع القسنطيني كأسرة لها تأثيرها. فمكانتهم تعود إلى ما قبل الاحتلال الفرنسي، وقد شكلوا واسطة ما بين الدول التي تعاقبت على المنطقة والسكان، كما مثلوا نخبة مثقفة. _ألا ترون أيضا بأن الذين يحاولون الدفاع عن ابن باديس، يفتقرون للأدوات العملية المناسبة ويقومون بذلك بطريقة ارتجالية تضر طرحهم أكثر مما تخدمه؟ _نعم أوافقك الرأي في ذلك، وسبب ضعف حجتهم يعود إلى جهلهم وعدم إطلاعهم. أنا شخصيا مختص في التاريخ الوسيط، ولكني منذ أن عُينت على رأس مؤسسة ابن باديس كرست وقتي للبحث في سيرته وفي ما كان يقوم به. واليوم أملك في رصيدي 12 كتابا حول التاريخ الوسيط و13 كتابا عن التاريخ المعاصر والحديث، لأنني بدأت أبحث عن هذا الرجل وكلما أغوص في حياته يزداد في نظري عظمة وعبقرية. ابن باديس لا يتحمل مسؤولية مواقف عائلته وآثار الشيخ عبد الحميد وأدوات البحث فيها متوفرة في المكتبات، ونحن نبقي أبوابنا مفتوحة للراغبين في الاطلاع أو الساعين إلى البحث أكثر في حياة الشيخ. وسنقوم بإنشاء مكتبة خاصة بالشيخ عبد الحميد بن باديس، وتاريخ الجزائر المعاصر ليصبح مكانا للمطالعة للمهتمين بهذا الأمر، وربما يمكننا بهذه الطريقة أن نساهم في تنوير المواطنين بالمزيد من المعلومات حول سيرته. (يصمت قليلا ثم يضيف) ما يزال فكر عبد الحميد ابن باديس بكرا وبحاجة إلى دراسة نقدية وعلمية، ومقارنته بأفكار العلماء الآخرين، لكن إلى اليوم لم تُنجز دراسات مماثلة بشأنه، على غرار فكر الكثير من العلماء الآخرين، كما أن رفوف الجامعات اليوم مليئة بأطروحات أنجزها الطلبة حول الشيخ، ولكنها غير منشورة وظلت غير متوفرة للقراء. وينبغي على وزارتي الثقافة والتعليم العالي طبع هذه الرسائل ووضعها في متناول الراغبين في الاطلاع عليها. _كم من الكتب تصدر مؤسستكم حول ابن باديس في السنة؟ _نحن نصدر ما بين خمسة إلى ستة كتب في السنة، ولدينا على مستوى المؤسسة فرقة بحث خاصة بنا، وحتى الجامعة لا تصدر ما نقوم نحن بنشره. وقبل مجيئي إليها كانت تصدر مجلة تحت اسم الشهاب، ولكن مضمونها كان باهتا، ولذلك تخلينا عنها وتحولنا إلى المؤلفات، التي نتطرق فيها إلى مواضيع تخص حياة الشيخ ابن باديس ونشاطه. واليوم حصدنا ثلاثين إصدارا حول الشيخ وبوادر الإصلاح التي ظهرت قبله، كما أن القانون الأساسي للمؤسسة يقول بأننا نهتم بفكر الشيخ ابن باديس والتراث الوطني الجزائري، لذلك فالمواضيع التي نتطرق لها تشمل أيضا الحركة الإصلاحية بمناطق أخرى من الوطن، وليس بالشرق الجزائري فقط. _لماذا تُكرس اليوم صورة ابن باديس على أنه مقدس وثابت، فيما يُغيّب الجانب الإنساني في سيرته؟ _أنت تتحدث عن مشكلة كبيرة تواجهنا، فنحن قبل كل شيء كمؤرخين نهتم بالوثيقة، ولا نأخذ كثيرا عن الرواية الشفوية، فالأشخاص يتحدثون من وجهة نظرهم الخاصة، ولذلك تجدنا لا نخوض كثيرا في أمور شخصية تخص الشيخ، لكن يمكنني أن أقول بأن الحياة الإنسانية لابن باديس، لم تكن تنفصل كثيرا عن نشاطه الإصلاحي، فقد كان يعمل لمدة 15 ساعة في اليوم الواحد ولا يعرف شيئا اسمه العطلة الأسبوعية. من يمكنه أن يفعل هذا؟ لهذا كان الشيخ يقول دائما «أنا أعيش للإسلام وللجزائر»، لكن لديه بعض الجوانب الإنسانية، حيث رغم جديته في العمل، كان ينزل إلى مرتبة زملائه عندما يلتقي بهم، يمزح معهم ويُنكت ويتسلى، حتى يصبح كأي فرد آخر من المجموعة عندما يبتعد عن جو العمل. وهذه أمور موجودة في حياته، لكن البعض حولوه إلى «قديس» وهذا خطأ. ويحتفظ شقيقه الأصغر عبد الحق إلى اليوم بالكثير من الذكريات حوله في هذا الجانب، وقد كان الشيخ يحب زيارة المناطق الخضراء ويصطحبه معه، كما أنه قام بجولات عبر الوطن وزار مختلف ربوع الجزائر. الشيخ سياسي ذكي وناهض الاستعمار وتكمن المشكلة الأساسية اليوم في غياب مذكرات الشيخ عبد الحميد بن باديس، فهو لم يكتب عن نفسه وزملاؤه لم يكتبوا عنه. _في رأيكم أستاذ فيلالي، ما سبب عزوف الشيخ ابن باديس عن كتابة سيرته الذاتية؟ لم يكتب الشيخ ابن باديس عن نفسه، على غرار الكثير من العلماء الذين يشبهونه، بسبب تواضعه، لكن غياب القارئ في تلك الفترة من تاريخ الجزائر كان عاملا مثبطا للعزيمة أيضا، وقد كان يردد في العشر سنوات الأولى من حياته عبارة «لمن أكتب؟» لذلك فقد كان يرى بأنه يجب أولا تكوين جيل من القراء، وهو لم ينشئ مجلته الأولى إلا بعد 12 سنة من بداية نشاطه الإصلاحي. ويمكن القول بأن المجلات التي أنشأها ابن باديس عادت بالعربية إلى مكانتها الحقيقية، بعد أن أصبحت الجرائد السابقة له تصدر بعربية تكاد تكون دارجة، وسبب ذلك يعود إلى عودة تلاميذ درسوا في الأزهر والزيتونة وصقلهم على يديه، كما أنني قرأت مقالا لأحد من كتبوا في المنتقد تكلم فيه عن قسنطينة ووصفها بأنها «أحسن من صحيباتها»، فقد كانوا يرون بأن شعاع النهضة سينبثق منها، وقد كان الوضع الثقافي والتعليمي العام للجزائريين مترديا جدا في بدايات الشيخ. _إذن فمهمة الشيخ لم تكن سهلة أبدا؟ لا أبدا، لكنه استطاع خلال فترة حياته إصلاح ما أفسدته الآلة الاستعمارية خلال 110 سنوات، فهذا الرجل عبقري ومتعدد المواهب، وكان يملك مهارة في الصحافة والتدريس وقد أخذ تشجيعا من الأكاديمية الفرنسية للتعليم بقسنطينة، وهي تعادل مديرية التربية اليوم، حيث هنأه رئيس الأكاديمية على عمله ونشاطه في التدريس ونُشرت تلك التهنئة في جريدة «لاديباش» آنذاك، فأقام المعمرون الدنيا ولم يقعدوها عليهم، حيث استشاطوا غضبا على رئيس الأكاديمية بسبب ما قام به، بحجة أنه لا يجوز تشجيع رجل يعمل في حقل تدريس غير لائكي، وقد نشروا كتابات مستنكرة في الصحف فرد عليهم عبد الحميد ابن باديس. وأعود هنا إلى هؤلاء الساعين إلى إثارة الجدل العقيم، فهم لا يتطرقون إلى هذه المواضيع ولا يذكرون ما قدمه، وإنما يكتفون بالخوض في مسائل لا جدوى منها. _كيف تفسرون الافتتاحية التي كتبها الشيخ في أول عدد من جريدة البصائر والتي يمتدح فيها حضارة فرنسا، خصوصا وأن هناك اليوم من يستغلها لقول أشياء عن ابن باديس تصل أحيانا إلى حد الاتهام بقبول الاستعمار الفرنسي؟ _(صمت قليلا ثم طرح السؤال) لماذا يسكت هؤلاء عن القضايا الخطيرة المضادة للاستعمار التي طرحها ابن باديس؟ لقد كان الشيخ سياسيا ذكيا ومحنكا، وهو لم يكن يتحدث عن نواياه الخفية ومواقفه المضادة لفرنسا إلا أمام أقرب المقربين فقط. حتى لا تغلق له مدارسه ولا توقفه في منتصف الطريق، وقد حاولت السلطات الاستعمارية كثيرا أن توقف مساره من خلال والده ولم تفلح في ذلك. و كان ابن باديس معجبا بالأدب والصحافة والحضارة الفرنسية، لأن المسلمين كانوا في تأخر آنذاك بينما الغرب كان متقدما. وكان يقول دائما «إذا أردتم أن تتمدنوا وأن تتحضروا ففتشوا عن العوامل المادية لذلك». ولم يكن ابن باديس ضد اللغة الفرنسية، لكنه كان مع العربية، وكان يحث الجزائريين على أن يتعلموا الفرنسية، لاكتساب الحضارة المادية، لكن أن يتم التعلم بالقيم الإسلامية العربية، فهو كان يذكر الناس دائما بأنها لغة أجنبية. وقد أصدر فتوى بأن الاندماج والحصول على الجنسية الفرنسية حرام وحرم حتى الزواج بفرنسية، وابن باديس هو من أدخل ابن البشير الإبراهيمي الأكبر إلى المدرسة الفرنسية من أجل أن يكتسب المعارف، بعد أن رفض والده ذلك خوفا من أن يذوب ابنه في الثقافة الغربية. وقد كان يقول دائما «اكتسبوا الحضارة الغربية وحولوها إلى قيمكم»، والسلطات الفرنسية نفسها كانت تراقبه بشكل مكثف وتقول عنه في تقاريرها بأنه يتعامل مع كل من هم ضد الاستعمار. ومن الحوادث المحسوبة له أنه رفض مساومته من طرف حاكم الجزائر آنذاك، حيث طلب منه التخلي عن جمعية العلماء مقابل منحه منصب مفتي الديار الجزائرية ومنح والده قرضا من البنك. _ألم يكن لليساريين الذين تعامل معهم ابن باديس مشكلة مع فكره؟ _ تعامل الشيخ ابن باديس مع الشيوعيين واليساريين لأنهم ضد الفكر الاستعماري ومن الممكن طبعا أنه كان لليساريين خلافات فكرية مع أفكار الشيخ ابن باديس، لكن القضية سياسية وقضية تعاون ضد الاستعمار، وقد كانوا جميعا يرون بأن الاستعمار مهيمن وأن هنالك شعب جزائري يعيش في وضع سيء جدا، لذلك وجب الوقوف ضده. وقد كانت لابن باديس علاقة وطيدة بكتاب فرنسيين كبار، فضلا عن أنه انتسب إلى جمعية معروفة آنذاك جميع أعضائها يساريون ونالوا جائزة نوبل للآداب، وكانوا يستهلون رسائلهم إليه بعبارة «صديقي العزيز» وهو يرد عليهم بنفس عبارات المودة والصداقة. لكن، يجب التنبيه، إلى أن اليساريين لم يكونوا جميعا ضد الاستعمار، على غرار ألبير كامي الذي اتخذ موقفا مخيبا للآمال من الثورة الجزائرية. _هل تشدد ابن باديس في موقفه الذي قال فيه بالحرف الواحد إن كل من يقبل بالجنسية الفرنسية فهو مرتد؟ _ذلك موقف سياسي محض، وابن باديس كان يسعى من خلاله إلى المحافظة على الهوية الجزائرية، فقد رأى في الجزائريين نزوعا إلى الآخر في حالات الزواج المختلط، الذي تكون فيه الزوجة فرنسية، على عكس بعض الثقافات الأخرى التي تجلب الآخر إليها في هذه الحالة. وحتى بعد الاستقلال يمكن ملاحظة أن الكثير من الجزائريين يغوصون في الثقافة الأوروبية عندما يتزوجون بنساء أوروبيات. وربما يعزى هذا الأمر إلى كون فكر المُستعمر ما يزال مسيطرا على عقلية بعض الأشخاص. _إذن يمكن القول بأن ابن باديس كان رجل سياسة أكثر منه عالم دين. _اجتمعت صفات كثيرة في شخصية الشيخ، وقد كان رجل سياسة وفكر ودين وأدب أيضا. فهو متعدد المواهب وخاض في الكثير من التخصصات من أجل تطوير المجتمع. ولا يمكن أبدا إنكار الجهد الكبير الذي قامت به الحركة الوطنية الجزائرية في السير بالبلاد نحو الاستقلال، لكن لولا ما قام به ابن باديس لضاعت ثقافتنا الجزائرية ولخرجنا غير مختلفين عن الفرنسيين، على غرار بعض الدول الإفريقية الواقعة جنوب الصحراء التي استقلت لكن سكانها ظلوا يتحدثون بالفرنسية ويعتنقون المسيحية. حاوره : سامي حباطي الدكتور عبد العزيز فيلالي يكشف في كتاب جديد ابن باديس لم يكن وهابيا و رفض تصنيف الشيعة كمنشقين عن الإسلام يكشف الدكتور عبد العزيز فيلالي في كتاب جديد تحت مسمى «التفسير عند الإمام عبد الحميد بن باديس واحتفال الأمة بختمه»، بأن مؤسس جمعية العلماء المسلمين في الجزائر لم يكن وهابيا ولا متعصبا لأي مذهب، بل سلك منهجا وحدويا، سعى من خلاله إلى التقريب بينها وجمع أتباعها حول قضية واحدة لنفض غبار الجهل والتفكير البدائي الذي استقر في العقول بسبب ما قام به المستعمرون منذ دخولهم الجزائر والعالم العربي والإسلامي، كما يشير المؤرخ في مؤلفه الجديد إلى دفاع عبد الحميد بن باديس عن الشيعة، ورفضه اعتبارهم منشقين عن الإسلام، ردا على ما قاله الكاتب المصري سلامة موسى في أحد مؤلفاته. ويتألف الكتاب من 190 صفحة، حيث قسمه صاحبه إلى أربعة فصول، فضلا عن مقدمة يتحدث فيها عن علم القراءات ومرحلة القراءات الاختيارية وعلم التفسير، لينتقل بالقارئ إلى الفصل الأول الذي يتطرق فيه إلى تاريخ التفسير وأهم المفسرين في العهد الرستمي والفاطمي والحمادي والموحدي و الزياني والعثماني ليختم الجزء التاريخي بعهد الاحتلال الفرنسي، قبل أن يمر إلى الفصل الثاني المكون من سبعة أبواب، تحدث فيها عن مصدر الإصلاح ورأي الشيخ ابن باديس في المنظومة التربوية بالأزهر والزيتونة، ثم التفسير ومصادره ومنهجه عند الشيخ، لينهي بعينة من تفسيره وخلاصة تفسير المعوذتين. أما الفصل الأخير، فيتحدث فيه فيلالي عن الاحتفال الذي نظمه تلاميذ الشيخ وسكان المدينة فرحا بختم ابن باديس تفسير القرآن الكريم، بالإضافة إلى نماذج من خطب الشيخ ومجموعة من الصور وشيء من الشعر، حيث أوضح لنا صاحب الكتاب بأن مدينة قسنطينة شهدت حدثا هاما يومي 12 و13 جوان من سنة 1938 عندما ختم ابن باديس تفسير القرآن الكريم الذي كان يلقيه على تلاميذه في شكل دروس ونشره في مقالات متفرقة بمجلة الشهاب، مضيفا بأن الآلاف من المتعلمين جاؤوا إلى المدينة من مختلف مناطق الوطن وقاسمهم قاطنو قسنطينة منازلهم في تلك الأيام، بينما اغتنم والد ابن باديس الفرصة ونظم حفلا موازيا على الأسلوب الأوروبي بمزرعته الواقعة خارج المدينة، أين دعا إليه مختلف مسؤولي الإدارة الاستعمارية آنذاك من أجل إبعاد أنظارهم عما يحدث بالمدينة، لكي لا تتخذها فرنسا ذريعة للبطش بعبد الحميد بن باديس. ابن باديس كان مالكيا لكن بدون تعصب تحدثنا مع الدكتور عبد العزيز فيلالي عن كتابه الجديد، حيث أوضح لنا بأن الشيخ عبد الحميد بن باديس كان «مالكيا حتى النخاع» على حد تعبيره، لكن بدون تعصب، وذكر لنا بأنه مكث لمدة ثلاثة أشهر في مكة، ومثلها في المدينةالمنورة، ولكنه لم يطلب إلا إجازات ثلاثة من أساتذته، وهم الشيخ لونيسي الذي أجازه من قبل في قسنطينة، والثانية من الشيخ عبد العزيز التونسي، والثالثة طلبها من عالم هندي، لكنه لم يطلب من أي عالم سعودي أن يجيزه. وأوضح فيلالي بأن ابن باديس لم يكن متعصبا للمذهب المالكي وظل يقول لطلبته، وخصوصا الذين تخصصوا في القضاء والفتوى، بأنه لابد من دراسة جميع المذاهب، حتى يتمكنوا من النظر في جميع القضايا بمنظار إسلامي وليس بمنظار مذهبي ضيق، فهو لم يستعمل أبدا الخطاب المذهبي فضلا عن أنه كان يقول دائما إن في المذهب المالكي قضايا تحتاج إلى إعادة النقاش. فرنسا هي التي اتهمته بالوهابية ويسترسل فيلالي في الحديث، حيث يؤكد لنا بأن ابن باديس لم يكن وهابيا أبدا، وظل متحفظا على هذا المذهب بسبب تشدده، حيث بين صراحة موقفه منها عندما كتب في مجلة الشهاب في عددها الصادر في ماي من سنة 1935 «إذا كان النجديون ينتسبون للشيخ ابن عبد الوهاب لأنه أول مصلح قام في بلادهم، فتتلمذوا له وأخذوا عنه واتبعوه، فإنا لا ننتسب له لأننا لم نأخذ عنه ولا تتلمذنا له، ولا تعلمنا في كتبه. إن احترامنا للحق ولأنفسنا، يأبى علينا أن ننتفي من نسبتنا إلى شيء أو نقر نسبتنا إلى شيء باطلا»، وإحجامه عن الوهابية جعله يستغني عن طلب إجازات من علمائها، بحسب نفس المصدر. رفض اعتبار الشيعة منشقين عن الإسلام وفي عدد فيفري من مجلة الشهاب لسنة 1930، كتب الشيخ عبد الحميد ابن باديس مقالا رد فيه على الكاتب المصري سلامة موسى، الذي اعتبر بأن التشيع «نوع من الانشقاق عن الإسلام وخروج على جمهور المسلمين» في فصل الفنون الإسلامية من كتابه «تأريخ الفنون وأشهر الصور»، الذي تطرق فيه إلى موضوع ما يحرم من التصوير عند المسلمين، حيث رد ابن باديس على جزء من مضمون كتابه في المقال المذكور ودافع عن إسلام الشيعة واعتبرهم أمة من أبنائه. وقد قال في المقال: «... ولكن قوله (والتشيع نوع من الانشقاق عن الإسلام) هو الجدير بكل إنكار، فقد حسب نفسه لما عرف شيئا من تاريخ الفنون أنه عارف بمذاهب الإسلام فحكم على الشيعة بالانشقاق عنه. و هذا الكاتب لم يكفه أن ينفي –في أكثر ما يكتب» عن الإسلام كل ما يحسبه فضيلة حتى جاء يحاول أن ينفي عنه أمة كاملة من أبنائه ونعوذ بالله من سوء القصد وقبح الغرور». اطلع على تفسير ابن عربي وكتب الغزالي وفي الصفحة 76 من نفس الكتاب، يتناول فيلالي مصادر ابن باديس في تفسيره للقرآن، حيث اعتمد الشيخ على تفاسير الطبري والزمخشري وأبو حيان الأندلسي والرازي، بالإضافة إلى كتب تفسير أخرى، كما يذكر الكاتب أيضا بأن ابن باديس اطلع على كتب أبي حامد الغزالي واطلع على تفسير محي الدين بن عربي، فضلا عن مجموعة كبيرة من كتب العلماء الآخرين، الذين كانت لهم مشارب مختلفة ومتضاربة أحيانا. وقد شدد فيلالي على أن اطلاع ابن باديس على الكتب والتفاسير لم يجعله يلغي رأيه الخاص أبدا، وكان يتمسك بالصحيح ويقره، ويترك ما لم يطمئن إليه ويعرض عنه، أين يعزي الكاتب هذه الطريقة إلى ما تعلمه بالزيتونة على يد أستاذه محمد النخيلي المتوفى سنة 1924، ليقوم ابن باديس فيما بعد بتلقين طلبته نفس النهج حيث قال لهم: «... فعلى الطالب أن يفكر فيما يفهم من المسائل وفيما ينظر من الأدلة، تفكيرا صحيحا مستقلا عن تفكير غيره، وإنما يعرف تفكير غيره ليستعين به، ثم لا بد له من استعمال فكره هو. وبهذا التفكير الاستقلالي يصل الطالب إلى ما يطمئن به قلبه ويسمى حقيقة علما ويأمن فيما أخطأ فيه غيره». وتجلت، بحسب ما جاء في نفس الكتاب، هذه النزعة الاستقلالية حتى في تفسيره للقرآن، حيث كان متحررا ولا يقلد من سبقوه في البحث عن معاني الآيات ومن الأمثلة التي ساقها المؤلف تفسير الشيخ للآية 129 من سورة الشعراء «وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون»، حيث حاول إعطاء تفسير لكلمة «مصانع»، على أنها ما يعرف في وقته بالمعامل، أي أن المقصود هو أن العرب كانوا يصنعون الأدوات وأشياء كثيرة، مخالفا بذلك ما ذهب إليه المفسرون السابقون له من أنها تعني مجاري للمياه أو قصورا.