المناهج الدراسية لا تشجع على المطالعة الدائمة والقراءة المستمرة بل تجعلها مناسباتية مواقع الويب هي المرغوب فيها وهي أمل كلّ مطالعة يتحدث الكاتب والباحث والناقد الدكتور محمّد تحريشي، في هذا الحوار، عن مناهج الدراسة في الجزائر وأهميتها في تشجيع القراءة والمطالعة، وعن كيفية تعاطي الأساتذة معها. كما تطرق في ذات السياق عن مدى مساهمة المناهج في تفعيل المطالعة والقراءة في الوسط المدرسي والجامعي. الدكتور تحريشي، من سياق المنهج ذهب في حديثه إلى سياق اللّغة. إذ تناول على وجه التحديد ظاهرة تجدّد السِجال والصراع اللغوي في الجزائر، من فترة لأخرى. الدكتور تحريشي، الّذي يشتغل بالنقد، تحدث أيضا عن مهمة النقد الحقيقية، وعن العلاقة بين الناقد والمبدع، وبين النقد والإبداع، وهل يواكب النقد الإبداع خصوصا الجديد. كما خاض في بعض المسائل الأخرى ذات صلة بالمناهج واللّغة والنقد. للباحث عِدة مؤلفات من بينها: ‹›أدوات النصّ››، ‹›النقد والإعجاز في الرّواية، القصّة والمسرح››. كما له كتاب من تأليف جماعي حول «إبراهيم درغوثي». للإشارة تحريشي، هو دكتور في النقد الأدبي، ويشغل منصب عميد كلية الآداب واللغات بجامعة بشار. حاورته/ نوّارة لحرش برأيك هل المناهج الدراسية في الجزائر تشجع على المطالعة والقراءة، وما الأهمية التي يشكلها المنهج، وكيف يتعاطى الأساتذة معه ومع من وضعوه؟ ماذا عن القراءة في الوسط المدرسي والجامعي؟ محمّد تحريشي: أرى أنّ ما نحمل من طروحات نظرية قد لا تتماشى مع واقع الحال. ففي الوقت الّذي يوظف التلاميذ تكنولوجيات الإعلام والاتصال ما زال المكونون يتمسكون بالوسائل التقليدية للمطالعة، وما تطرحه كتب المطالعة في المدرسة والجامعة قد لا تستجيب لتطلعات التلاميذ والطلبة، ومن ثمّ فإنّ الشبكة العنكبوتية/الإنترنت هي البديل المفضل. ولكن هذه المطالعة قد تضر فهي تُبعد المُطالع عن الأهداف الإستراتيجية للأمة. إنّ ما تعرضه هذه المصنفات لا يحقق طموح المريدين. ومن ثمّ فهم في وادٍ والكتب في واد آخر، ومن ثم فالمطالعة أصبحت رقمية وصورية وافتراضية. إنّ مواقع الويب هي المرغوب فيها وهي أمل كلّ مطالعة. هل هناك مناهج تساهم في تفعيل المطالعة كما يجب، وفي تحريض الحس القرائي لدى الفرد؟ محمّد تحريشي: في رأيي إنّ المناهج الدراسية لا تشجع على المطالعة الدائمة والقراءة المستمرة بل تجعلها مناسباتية، فالطالب أو التلميذ يطالع اضطرارا لا رغبة من نفسه، إنّ للمنهج أهمية في فعل القراءة والمطالعة من حيث رسم إستراتيجية هذا الفعل وتوجيهه نحو غايات معرفية وأهداف تربوية، ويجب على المنهج أن يتطور باستمرار حتى يواكب التطورات الحاصلة في المجتمع، وخاصة توظيف تكنولوجيات الإعلام والاتصال. عادة تعامل الأستاذ مع المنهج يأتي في ثلاثة أنماط: فهناك من يتلقى المنهج ولا يتمكن من الاستفادة منه، لأنّه لم يدرك الأبعاد الفلسفية والمرتكزات الفكرية والتوجهات الجمالية والفنية للمنهج، ومن ثم يصبح هو والمنهج اثنين والنمط الثاني من يسلبه المنهج ويسيطر عليه ولا يستطيع الفكاك منه للوصول إلى مرحلة الإنتاج والإبداع انطلاقا من هذا المنهج أو ذاك. ومن ثم يصبح مسلوب الإرادة. والنمط الثالث من يستطيع استيعاب المنهج والسيطرة عليه، فيوظفه توظيفا مبدعا ليسمو به نحو غايات قرائية تستلهم التراث والمعاصر في آن واحد. طبعا، المنهج له روافد مهمة، هي المنهجية والمنهاج، وأرى أنّ بدونهما لا يمكن لفعل المطالعة والقراءة أن يحقق وجودا فاعلا. قريبا من سياق المنهج نذهب صوب اللّغة. كيف تقرأ تجدّد السِجال والصراع اللغوي في الجزائري، من فترة لأخرى. هل يعقل أن يظلّ هذا السجال مطروحا بهذا الشكل الّذي يصل إلى حد تبادل التهم والطعن في الهُوية اللغوية بين المنتصرين للغة العربية والمنتصرين للغة الفرنسية، خاصّة بين نخبة البلد من كُتاب ومثقفين وإعلاميين؟ إنّ التعدّد اللساني هو عنصر ثراء للممارسة اللغوية ولا يجب أن يعرقل العملية التواصلية محمّد تحريشي: إنّ الواقع اللغوي في الجزائر يطرح أكثر من سؤال والّذي يفضي إلى وضع قد يبدو غير طبيعي ويُنتج خطابا متناقضا قد ينهل من الإيديولوجي والسياسي والاجتماعي، ونوع من السجال المغلوط الّذي قد يُوظف لغايات مغلوطة. إنّ التعدّد اللساني هو عنصر ثراء للممارسة اللغوية ولا يجب أن يكون عنصرا مُعرقلا للعملية التواصلية بين أفراد المجتمع في الجزائر، ولا أن يؤدي إلى استعمال العامية سبيلا وسطا للتقريب بين اللغات المُستعملة في الجزائر بكلّ تنوعها بين لغة أمّ ولغة رسمية ولغة وطنية وأخرى عالمة وما تحمله من مضامين ومعارف. إنّ مسألة التداخل بين اللغات في الجزائر تُتناول من عدة جوانب، فهناك التداخل بين العربية والفرنسية من جهة، وبين العربية وغيرها من اللهجات والعاميات من جهة أخرى، وتداخل بين الأمازيغية والعربية والفرنسية من جهة ثالثة، ومن ثمّ تُطرح كلغة وسيطة وبديلة لذلك العنت والتعصب خوفا من أن تقضي لغة على لغة أخرى على الرغم من أنّ اللغات تعمل بمبدأ الاقتراض اللغوي فيما بينها. إنّ الجانب القانوني قد يكون الحل لهذا السِجال المُتعاكس إن نحن استطعنا أن نُشَّرِع لهذا الواقع اللغوي المتعدّد لسانيًا، ومدى قدرتنا على تفعيل ترسانة القوانين التي نُشرِع لها في الدستور وفي مُمارستنا اللغوية اليومية، فكيف لا نعترف باللّغة الفرنسية مع أنّها في الواقع لغة تواصل في المجتمع الجزائري وهي لغة عالمة إذ الكثير من المعارف والمكتسبات والخبرات تنقل بوساطتها، وكيف نُشرِع للغة العربية كلّ التشريع وتبقى هذه اللّغة حبيسة الكتاتيب ومؤسسات التعليم في المراحل الأولى؟ وهل يمكن الحديث عن فخامة لغوية وحقارة لغوية؟. إنّ تلمس الأسباب قد يفضي بنا إلى تِعداد الكثير منها فبعضها يتعلّق بالنظام التعليمي في الجزائر والّذي لم يستطع أن يواكب الواقع اللغوي في الجزائر فأنتج نِظاما تعليميًا مزدوّج اللّغة بحسب المراحل والتخصصات مِمَا قوى عمليات التسرّب المدرسيّ إن لم نقل التخلص من التلاميذ في كلّ مرحلة تعليمية قد تتجاوز 45% من إجمالي عدد التلاميذ، ويُضاف إلى ما تقدم التباين في استعمال الفرنسية بين الجزائريين في المُدن الكبرى والمُدن الداخلية وخاصّة مُدن الجنوب. هل يعقل أن تظل ظاهرة السجال/الصراع اللغوي تتكرر بمناسبة وبغير مناسبة؟ محمّد تحريشي: طرح هذا السِجال الفكري واللغوي من جهة والإيديولوجي والسياسي من جهة أخرى جهازا مفاهيميا يدل على ذلك البلبال والتخبط، فألفينا الحديث عن التهجين اللغوي، والتعدّد اللساني والصراع اللغوي، والهيمنة اللغوية، وتدرجنا بعد ذلك في رصد الممارسات اللغوية وتزكيتها بين الوطنية والمحلية والعامية والدارجة والفصحى، ولغة الأكثرية ولغة الأقلية وعلى أي أساس تحدّد، والحديث عن الحقوق اللغوية والمكاسب التواصلية، مِمَا يؤدي إلى نوع من التداخل قد يُوّلِد صراعًا ثقافيًا قد يرقى إلى جوانب اقتصادية لَمَا تصبح اللّغة سوقا. قد يبدو الصراع داخليًا ولكنّه في حقيقة الأمر حصل لتظافر عناصر خارجية في عِدة مستويات تاريخية من فتح أو استعمار أو تهجير وهجرة، ومِن ثمّ يسعى كلّ تجمع سكاني للمحافظة على مكاسبه وهويته وخصوصيته من الذوبان. ويمكن النظر إلى المسألة من زاوية أخرى من حيث استعمال خاصية الكُثرة أو القِلة في إثبات هيمنة لغة على أخرى، إلاّ أنّنا قد نعتمد خاصية أخرى وهي الفعّالية والاستعمال والقدرة على التواصل في إثبات مدى قدرة لغة ما في الوجود وفي الاستمرار، وينضاف إلى ما تقدم القوة السياسية والاقتصادية والاجتماعية للناطقين بها وللناطقين بغيرها. ذكرك للسجال اللغوي من جهة إيديولوجية وسياسية، يحيلنا إلى سؤال فيه إشكالية قديمة متجدّدة، عن علاقة المثقف بالسياسة، والتي ظلت ملتبسة ومتباينة على مر الأزمان والعصور، خاصة في الواقع العربيّ، حيث تأخذ جدلية المثقف والسياسة أبعادا متصاعدة ومتصادمة في أغلب وأكثر الأحوال. كما ظلت الأسئلة في هذا الشأن تتناسل في كلّ مرة وبلهجات ونبرات مختلفة في مستوياتها وخلفياتها. منها سؤال الحدود بين السياسة والإبداع، وهل على المثقف أن يكون معنيا بالسياسة أو منتميا لها؟ لا سياسة من دون ثقافة ولا ثقافة من دون سياسة محمّد تحريشي: منذ القدم عرفت هذه العلاقة بين الثقافة والسياسة، وهي علاقة متلازمة وجدلية وضرورية، وهي علاقة قائمة على تبادل المنفعة والمصالح، فلا سياسة من دون ثقافة، ولا ثقافة من دون سياسة، حتى لو آمنا بالفن للفن، ومن أبجديات القول في أي مجتمع الحديث عن السياسة الثقافية، والثقافة السياسية، ويقودنا هذا المنحى من التفكير إلى الإشارة إلى الاستثمار السياسي للثقافة لتمرير مجموعة من الخطابات السياسية، وفي المقابل هناك الاستثمار الثقافي للسياسة للحصول على مجموعة من المكاسب المادية والمعنوية، ومن ثم تتبادل السياسة والثقافة المنفعة، ويجتهد رجال السياسة كما رجال الثقافة في سبيل التوظيف الأمثل لقنوات البث الموصولة بينهما، على الرغم من أن في بعض الفترات قد تظهر بعض القطيعة المؤقتة بظهور بعض الانكسارات بسبب خيبة أمل طرف من طرف آخر. إنّ هذا الحديث يجرنا للوقوف عند المثقف: أولا، كونه ممارسا للثقافة عبر ما ينتجه من ممارسات أدبية من شعر ونثر ومسرح، أو عبر الفن من رسم ونحت وفن تشكيلي على العموم، وهو بذلك يعبر عن رؤيته للعالم وشعوره المرهف تجاه الواقع مرا كان أو سعيدا، ومن ثم يكون ما ينتجه مرآة عاكسة للواقع. ثانيا، كونه منتجا للثقافة عبر ممارسات للفكر الفلسفي والعلوم الاجتماعية والإنسانية، ومن ثم يكون على المثقف وفق هذا التوجه تقديم معرفة منظمة وعقلانية للواقع الإنساني لما يتوفر عليه من أدوات إجرائية للتحليل والمعالجة للوصول إلى مواطن الخلل التي تعتري الإنسان في مسيرته في تنظيم حياته داخل المجتمع، ومحاولة تقديم حلول لتلك الانكسارات. إنّ السياسة لما كانت فن سوس الناس وإدارة مصالحهم وجلب المنفعة لهم ودفع المضرة عنهم، ومن ثم فهي تتعامل مع الواقع كما تفعل الثقافة، ومن ثم فالسياسي يتعامل مع المعطيات نفسها التي يتعامل معها المثقف، ويرى بعض الباحثين أن الفعل السياسي يغلب عليه اليومي والآني في حين أن الفعل الثقافي يجرد اليومي من معطيات الواقع ويستخرج الكلي من الجزئي. إنّ هذه العلاقة أنتجت جهازا مفاهيميا من مثل الالتزام السياسي للمثقف، المثقف العضوي مع غرامشي، المثقف المدجن، والمثقف الحالم، والمثقف المشروع، المثقف الانتهازي، المثقف النموذج، ومن ثم فالثقافة هي مجموعة من الأفكار النيرة، وهي في الوقت ذاته ممارسة يومية لنشاط فكري، ومن جهة أخرى هي إنتاج مادي ولا مادي، وهي كذلك كل أثر لما تقدم ذكره في الواقع والمجتمع وأثر في النفس، وهي في كلّ ذلك مسيرة في التاريخ الإنساني. اشتغالك بالنقد، يجعلنا نسألك عن حال النقد، وعن مهمته الحقيقية، وعن العلاقة بين الناقد والمبدع، وبين النقد والإبداع. وهل يواكب النقد الإبداع خصوصا الجديد؟ العلاقة بين النقد والإبداع تتصف بخاصية الإلغاء المتبادل محمّد تحريشي: إنّ العلاقة بين النقد والإبداع علاقة تضايف وتكامل وعلاقة سابق بلاحق، وعلاقة انسجام وتناغم وعلاقة تنافر وخصام وعلاقة إلغاء وإقصاء، ولعلّ هذه العلاقة متعدّدة الأوجه المتشابهة من جهة والمتنافرة من جهة أخرى، وتتصف هذه العلاقة في الوطن العربي عموما وفي الجزائر على وجه الخصوص بخاصية الإلغاء المتبادل، وقد تعرضت في مقال لي في مجلة كتابات معاصرة العدد32 إلى هذه المسألة تحت عنوان: الناقد المبدع إلغاء متبادل. إنّ العلاقة بين النقد والإبداع علاقة بين الناقد والمبدع، ولعل العلاقة التي كانت بين المتنبي وابن جني هي ما يجب أن يؤطر مثل هذا الرابط حتى أنّ المتنبي كان إذا ما سئل عن شيء في شعره أشار إلى ابن جني، ومن ذلك بعض العلاقات التي تربط بين بعض النقاد والمبدعين في الوطن العربي. لا أعتقد أنّ على النقد أن يواكب الإبداع الجديد الّذي يسعى إلى تجاوز المألوف والمعتاد، وإذا أراد النقد أن يفعل ذلك فعليه أن يجدّد أدواته الإجرائية التي هي في الأغلب الأعم تراثية في متونها الغربية، حداثية في نقلها إلى اللّغة العربية لتأخر الترجمة والنقلة الحضارية، ثم إنّ الكثير من المبدعين يسعون إلى التجديد والتجريب، في حين أنّ بعض النقاد لا يستطعون الفكاك من إسر المعيارية والتقيد بالقيم، أعتقد أن النقد عليه أن يتجاوز مسألة الاحتفاء بالنصوص أو تعرية مواطن الضعف والقوة في النصوص. قد تكون القراءة الاحتفائية ضرورية في زمن، ولكن أرى أنّ النقد هو كلّ قراءة منتجة لنص جديد، إنّه كتابة ثانية للنص المبدع. ولا نعدم القراءة الانتقائية للنصوص التي قد تحكمها علاقات شخصية أو توجهات إيديولوجية أو حسابات دعائية.