بعض الترجمات في الجزائر تحمل تشويهات و إساءات للنصوص الأصليّة في هذا الحوار، يتحدث الشاعر والمترجم ميلود حكيم، عن واقع وحال وحركة الترجمة في الجزائر. مؤكدا أنّه ورغم وجود المعهد العالي العربي للترجمة في الجزائر، إلاّ أنّ حال الترجمة يعاني على عدة أصعدة، كغياب إستراتيجية ثقافية ومؤسساتية، وكذا غياب دور معاهد الترجمة والآداب في جامعاتنا، ودور مخابر ومراكز البحث، التي لم تقدم ما يكفي في هذا المجال. كما يتحدث عن الإبداع الّذي يمارسه الكاتب في ظل طقوس معينة ومختلفة، وعن طقس آخر أصبح يلازم الكاتب، وهو ممارسته اليومية عبر مواقع التواصل الاجتماعي لفعل كتابة يشبه الإعلان لكلّ جديده، وكأنّ الكاتب أصبح لا يحتاج إلى وسائل الإعلام التقليدية للترويج لعمله وإصداراته، ويكتفي بمنبره الشخصي/صفحته على الفيسبوك أو تويتر. حاورته/ نوّارة لحرش وفي ذات السياق تقريبا، يتحدث عن علاقته بالكتاب الالكتروني/ الرقمي، والقراءة الالكترونية. إلى جانب الكتابة الشّعرية والأدبية، تشتغل أيضا في حقل الترجمة. كيف ترى واقعها وحالها في الجزائر، وهل تكفي الجهود الفردية في غياب شبه كلّي للمؤسسات والمخابر المُتخصصة؟ ميلود حكيم: يبدو أنّ مقاربة واقع الترجمة ما زالت مُلتبسة بما يبقى غائبًا عن الساحة الثقافية من تناولات جادة لمسألة الإبداع والكتابة والمُمارسة الفكرية والثقافية عمومًا، ذلك لأنّنا لم ننجح كنُخب في تكوين تراكم يسمح لنا ببناء مشهد مُؤثر في بلدنا وفي البلدان الأخرى. أمّا عن الترجمة في الجزائر فحركتها بطيئة، وتكاد تكون جهدا استثنائيًا من أناس يُؤمنون بفكرة القسمة الضرورية، وتبادل المعرفة والإبداع، وهم في الغالب مبدعون يستمتعون بنصوص فيحبون إيصالها لغيرهم كي تعم هذه المتعة وتنتشر بعدواها الرائعة، ولذلك تبقى هذه الترجمة مرهونة بأذواق وتصورات ومرجعيات هؤلاء المترجمين. وما لم تتحول الترجمة إلى مشروع تبنيه مؤسسات وتدافع عنه وتضع استراتيجيات له، فإنّه لن يحدث الأثر المرجو، لأنّ تغطية كلّ المجالات والميادين لا يمكن أن يقوم بها أفراد، هنا يمكن أن نتساءل مثلا عن دور المعهد العالي العربي للترجمة الّذي لا نجد له حضورا فاعلا في الميدان، ودور معاهد الترجمة والآداب في جامعاتنا، ودور مخابر ومراكز البحث، التي لم تقدم ما يكفي في هذا المجال. مع ذلك يبقى أنّ القليل الّذي تُرجم هنا في الجزائر بأقلام جزائرية يتطلب مراجعة ونقدا لأنّ الكثير من الترجمات المتداولة في السوق تحتاج إلى نقد وتعديل، بل إنّ بعضها يحمل الكثير من التشويهات والإساءات للنصوص الأصلية، مِمَا يتطلب التفكير في وضع لجان مختصة في الترجمة على مستوى دور النشر، وجعل الترجمات تخضع لعمل مراجعين جادين كما هو معمول به في دور النشر المحترمة. المسألة الأخرى التي تلفت الانتباه تتمثل في ضرورة تثمين العمل الكبير الّذي قام به مترجمون جادون مثل الراحل أبو العيد دودو أو أوائل كُتابنا الذين ترجموا أعمال الأدب الجزائري كالجيلالي خلاص ومرزاق بقطاش وعبد الحميد بورايو أو الذين ما يزالون يبذلون ما يستطيعون بمغامرتهم الفردية في الترجمة كمحمد بوطغان وفيصل الأحمر والسعيد بوطاجين وأمين الزاوي وعمار مهيبل ومحمّد شوقي الزين وغيرهم، والذين لا يجدون أحيانا حتى دور نشر لطبع كتبهم، من هنا يجب التفكير بجدية في توجيه العمل أولا لدفع مؤسسات الدولة كالجامعة ومراكز البحث إلى التكوين الجدي في الترجمة وإلى الاهتمام بتدريس لغات العالم المختلفة، وتحفيز الطلبة والمترجمين إلى الانخراط في مشروع كبير واضح المعالم، وتشجيع دور النشر على الاهتمام بهذا المجال من خلال صناديق دعم تخص الترجمة، ومن خلال المرصد الوطني للكِتاب. لم ننجح كنخب في تكوين تراكم يسمح لنا ببناء مشهد مؤثّر أعتقد أنّ الترجمة ظاهرة حضارية تُشكل في تاريخ الأمم الحية معبرا ضروريًا للمساهمة في تاريخ البشرية، وبدونه لا يمكن لشعب من الشعوب أن يُضيف لنفسه ولغيره شيئا إذا لم يجعل من القسمة المعرفية شعاره الأوّل. هل تحتاج الترجمة أو الكتابة تحديدا إلى طقوس؟ ربّما لكلّ كاتب طقوسه في الكتابة، وهي تختلف من كاتب إلى آخر. فهل لديك «طقوس» معينة أثناء الكتابة، أم أنّك تكتب بعيدا عن مناخ الطقوس؟. أيضا هل تجد أنّ بعض طقوسها مزعجة وبمثابة العادات السيئة؟ أم هي طبيعية وضرورية وتدخل في حالات وسياقات مزاجية الكاتب وطقوسيته؟ ميلود حكيم: الكتابة، حالة تستدعي حضورا كاملا من الكاتب، فهو يقدم نفسه قرباناً لها، تضبط أنفاسه، وتدوزن إيقاعه، وتخطط له ما يفعل وما لا يفعل، وتستدرجه يوما بعد آخر إلى فخاخها الجميلة، حيث طقوس العزلة والصمت والإصغاء . الانخراط في هذه التجربة يدفع المبدع إلى ذلك الوضع الاستثنائي الّذي يرهن حياته كلها لإملاءات هذه المصاحبة وطقوسها، حيث المداد ليس إلاّ دمًا آخر هو امتداد لهواجس الكيان وأسئلته، ولانتباه خاص للأشياء التي لا تمنح شفافيتها إلاّ للعين اليقظة، والحواس المستنفرة، لالتقاط المُدهش والفاتن في الوجود. وقد أدرج القدامى الكتابة في ذلك البعد السحري باعتبارها إلهامًا أو مسًا يُصيب الكاتب، ويتجلى له عن طريق جن أو آلهة مُلهمة، أو رسائل من الماوراء والمجهول، تُخرج الكاتب من الطور العادي لترمي به في الحالات القصوى، وأحيانا تعصف به وتؤدي به إلى الجنون والانتحار، فهو هنا ضحيتها وضحية هذا العقد الفاوستي، وهنا تكون الكتابة بالفعل طقسا سحرياً غامضا يتطلب أن يمنح الكاتب وجوده كله لهذه السرنمة الفاتنة والقاتلة التي تسلب وجوده، وتحرمه من أن يعيش حياته كبقية البشر. وحتى حين انسحبت نظرية الإلهام، وعوضتها نظريات أخرى، اعتبرت الكتابة جهدا وعملا وصنيعا كبقية الأعمال والمهن، وهي تعبير عن أعماق ولا وعي المبدع، ولاشيء يهبط عليه من السّماء وحيًا أو إلهامًا، لم يختف مع ذلك السحر الّذي يلف الكتابة، ويمنحها طاقة تجعلها تستنفر الكوامن، وتحرك الدواخل، وتحفز المخيال، الّذي يبقى حصة للمجهول والغامض، وقد هام المبدعون في كلّ واد فيما يخص طقوس الكتابة، بعضهم يطلبها عند الفجر، كما أوصى أبو تمام البحتري، وبعضهم يسهر لها الليل كله منتظرا مجيئها، وبعضهم يختار لها أجواء معينة، وفضاء خاصا، وألوانا وروائح مميزة، وبعضهم يكتب جالسا، أو واقفا، أو نائما، وبعضهم يكتب في المقهى جاعلاً من الضجيج محفزا، وبعضهم يحتاج للصمت المطبق، وهناك من يمارس طقوسا غريبة لا حصر لها، كأن يكتب في المرحاض أو في المطبخ، وكلّ هذا لإغراء الكتابة أن تزورهم وترضى عنهم. لا نجد للمعهد العالي العربي للترجمة حضوراً فاعلا في الميدان لكلٍ طقوسه في الكتابة، لكن الأكيد هو أنّ ما تفرضه الكتابة على عاشقها هو أن يمنح نفسه كاملا لها، ومن ثم لا تصبح طقسا عابرا يمارسه أثناء إبداعه لنص ما، بل تتحول إلى حياة ومعاناة مقيمة، تفرض على المبدع اختيارا جذريا، يحول حياته، ويدخله في عالم الكلمة الآسرة التي تخطف وتسلب. على ذكرك للإبداع الّذي يمارسه الكاتب في ظل طقس الكتابة. كأنّ هذا الكاتب، أصبح لا يحتاج إلى وسائل الإعلام للترويج لعمله وإصداراته، ويكتفي بمنبره الشخصي/صفحته على الفيسبوك أو تويتر. ما رأيك؟ ميلود حكيم: أرى أنّ فضاءات التواصل الجديدة فتحت أفقا أرحب للمبدعين ليتبادلوا إبداعاتهم ومشاغلهم، ويجدوا فسحة أوسع للحضور، والإحساس بأهمية ما يكتبون، خاصة حين يكون التفاعل كبيرا، والتعليقات غنية، والنقاش مُثمرا. وقد ولّدت هذه الحالة ظاهرة جديدة يمكن تسميتها: «كُتاب الفايسبوك» الذين لم يسبق لهم نشر كِتاب ورقي، وكانوا مهمشين من دور النشر والمؤسسات الوصية على الثقافة، فوجدوا في هذا الفضاء الحر والديمقراطي المكان الّذي منحهم قراء وأحيانا نقادا ومتابعين. وبذلك أصبح فعل الكتابة ذَا جدوى بالنسبة إليهم، بل إنّ بعضهم قرر أن لا ينشر إلاّ في الفايسبوك بعد أن أصبح اسمه متداولا ومعروفا، نكاية في الوضع المؤسف للمشهد الثقافي الجزائري والعربي. لكن يجب، مع ذلك، أن نتأمل هذه الظاهرة، ونُحلل أسبابها وما يترتب عنها، فإذا كانت وسائل التواصل الحديثة ضرورية لتسهيل وصول المبدع وانتشاره، ولتكوين جماعة تحتفي بالقسمة الجميلة للنصوص والأشياء الأخرى، إلاّ أنّنا نعيب عليها اختلاط الحابل بالنابل، والغثّ بالسمين، والجيّد بالرديء، لأنّ السهولة جعلت الكثير يركب الإبداع ويعتبر نفسه قادرًا على الكتابة، من هنا تأتي رداءة أكبر، بحكم الرقعة الواسعة المتاحة للانتشار. كما رسخت هذه الوضعية ظاهرة الشفهية الجديدة، التي جعلت الأدب يخسر ذلك الحضور الرصين، الّذي تصاحبه المُمارسة النقدية الجادة، والتراكم الّذي يسمح بتشكل الظاهرة الأدبية ودراستها. وإذا كنّا نحيا تصورا جديدا للمشهد الأدبي، الّذي أصبح افتراضيا، إلاّ إنّ هذا النوع من الانتشار ليس كافيًا، إذا لم تصاحبه في الحياة الواقعية حركيّة ثقافية تدعمه وتسنده، وتُفسح لانتقاله من الشاشات إلى الفضاءات الثقافية والمنابر التي تسمح بتشكل الظاهرة الأدبية، وتأثيرها في المسار التاريخي للمجتمعات.. وسائل التواصل رسخت ظاهرة الشفهيّة الجديدة لا بأس أن يُساهم الكاتب في الترويج لأعماله في فضاءات التواصل الجديدة، لكن هذا لا يجب أن يحجب عنا ضرورة أن يجد الكتّاب مكانهم الطبيعي في المشهد الثقافي وعند دور النشر، كما هو معمول به في الدول التي تحترم نفسها. لا يجب أن يتحوّل الفايسبوك إلى ملجأ لفشلنا في صناعة مؤسسات ثقافية، وفضاءات هي المفترض فيها أن تتكفل بالإبداع والمبدعين. لكن يبقى العالم الافتراضي أكثر إغراء وغواية، إذ يُوفر على الأقل الحرية التي تسمح للمبدع أن يتجاوز الرقابة، وينشر ما يحب. في ذات السياق تقريبا. كيف هي علاقتك بالكتاب الالكتروني/الرقمي، والقراءة الالكترونية. هل يجد الكُتاب والأدباء، الكِتاب الالكتروني بديلا عن الكِتاب الورقي؟ أم مكملا له. وهل يمكن القبول بنهاية الكتاب الورقي؟ ميلود حكيم: تتأسس العلاقة مع الكِتاب في أبعادٍ ليست مرتبطة به فقط كأداة لنقل المعرفة، ووسيط من وسائط كثيرة، يمكن أن ترشدنا إلى مكامن البحث المستمر عن تأسيس لوجودنا في العالم ومساءلة المصير.. الكِتاب فكرة أنطولوجية أصلا، ولهذا يبقى حضوره ملتبسا بقداسة ما حتى حين يتحول في مواده عبر التاريخ، هو يرتبط بسؤال الكينونة وبمغامرة الكائن، الوجود كِتاب والعالم متاهته المقيمة، لهذا لا يمكن القبول بنهاية الكِتاب الورقي إذ تبقى العلاقة به حميمية، ويبقى ما يحتويه مثبتا وحاضرا باستمرار. مع ذلك يعتبر الكِتاب الالكتروني وسيلة مهمة إذ يسهل التعامل معه والحصول عليه، وهو يسمح لنا بالسفر فيه متى أردنا وأينما كنا، إذ يمكن أن نحمل مكتبة كاملة معا أينما رحلنا. لكن أهم مأخذ على الكِتاب الالكتروني أنّه يرسخ الشفهية الجديدة، والسهولة التي تجعل من المعرفة زادا سريعا لا يحمل ذلك الأثر الدائم الّذي يحمله الكِتاب الورقي، وتبقى العلاقة معه برانية لا تحمل ذلك الإنهمام الحميمي، وتستبعد حضور الأثر والوسم كعلامة تخلّد العلاقة التبادلية. إذ القراءة ليست فقط أخذا للمعارف والأفكار، بل هي ارتباط جسداني وتقمص باطني للحالة، واجتراح صامت لحوار مع الورقة والفكرة. هنا يكون الكِتاب الورقي شريكا كاملا، فيه نستعيد متعة الاكتشاف الأوّل للحظة شرائه وللظروف التي صاحبت البحث عنه، وللدهشة التي تجعله يدخل الذاكرة إلى الأبد، ونتجاسد معه من خلال رائحته، ولون ورقه وشكل طباعته ورسومه، والأشياء التي ربّما تركها فيه قُراء سابقون والتخطيطات التي نُعلّم بها المقاطع التي تعجبنا والتعليقات التي نتركها موشومة على إهابه.. كلّ هذا لا يتيحه الكتاب الالكتروني الّذي رغم أهميته إلاّ أنّه يبقى وسيلة محايدة، وأداة للنسيان السريع، ومجالا للمعرفة البسيطة لا تلك العميقة الراسخة. بحكم افتقادنا للكتاب، وظروف تسويقه أصبح الكتاب الالكتروني ملجأ للحصول على العناوين التي لا نجدها أو التي لم يُعَدْ طبعها ورقيا، ومن ثم لكل واحد منا مكتبته الالكترونية التي تساعده على الحصول على ما يريد، لكن كثيرا ما يحدث أن نطبع ذلك الكتاب الورقي لنستمتع بقراءته ونديم اللذة. هكذا أعتبر الكتاب الالكتروني مكملا للكتاب الورقي لا بديلا له. وعلاقتي بالكتاب الورقي لن تنتهي لأنّه يمنحني الإقامة الطويلة في متعة السفر في الكلمات، ويمنحني فتنة المعرفة المتواشجة مع الوجود والنبض في التباسه الحي.