ما هو الخيط الخفيّ الذي يصل بين كلٍّ من رامبو و حنه أرندت و برنار هنري ليفي؟ ربما كان ذاك الذي استطاع رامبو أن يربط به بين الشعر بوصفه خلاصا إنسانيا، و بين العبودية بوصفها نقيضا للخلاص نفسه. و لعله نفسه الخيط الذي استطاعت به حنّه أرندت أن تربط بين العشق بوصفه تعلّقا ترانسندانتاليا، و بين النازية بوصفها قطعا جذريا للزمن عن الكينونة كما حاول أن يصفهما هايدغر في كتابه المشهور، تماما كما استطاع برنار هنري ليفي أن يربط من خلاله بين الثورات بوصفها حلما تحرريا، و بين بورصة الأسلحة التي تنعقد في الخفاء، و تُصدّر بضاعتها في الخفاء، و تحرص على أن تصل إلى المقاتلين الجائعين في جبهات القتال، بعيدا جدا عن مراصد الموانئ و إنذارات الرادارات و صوّر الأقمار الصناعية. عبد القادر رابحي و لو أننا حاولنا أن نلوي أعناق الأفكار ليّا مُتعمَّدا من خلال الحفر الذي يستعمل الحيلة المتبقية في رصيد التصورات الساذجة لمثقفي الشرق الذين هم نحن و ليسوا غيرنا، سنصل بالضرورة إلى أن الرابط الأساس الذي يجمع بينهم هو غير ما يظهره للعلن هؤلاء الثلاثة الذين ننبهر بهم حدّ الإغماء، و نبني لهم أبراجا في ما تخطه أفكارُنا عنهم و عن مساراتهم، و نحن نقف مشدوهين عاجزين أمام شعرية رامبو الطاعنة في الإنسانية، و صرامة حنة أرندت الضاربة في العقل المتمرّد، و واقعية برنار هنري ليفي المرتبطة بحرية الفرد و المجتمع في صورتها المعلبة ببهرج التعالي الزائف. إذ كيف يمكن لشاعر بمثل العبقرية التي يتمتع بها رامبو أن يسمح لنفسه التواقة للفضيلة الشعرية التي طالما حاول الفلاسفة الإغريق الإمساك بها، أن يمتهن، في مرحلة من حياته القصيرة، تجارة الرقّ و الأسلحة، أي ببيعِ و شراء الإنسان الآخر لأجل تسخيره من طرف المُستعبِدين الأثرياء في الأعمال الشاقة و كدح الحقول و المنازل، لتبني عليه أوروبا و أمريكا أمجادهما من خلال توطيد ممارسته كمهنة رسمية للإنسان الغربي، و هو يؤسّس لجدارته الفلسفية و لعبوره المادي المريح نحو مرحلة الأنوار على أكتاف من اكتشفهم صدفةً و هو يحاول أن يجمع الحطب من القارة السمراء ليستعملها وقودا لقطارات البخار التي تحمل رسائل الأمراء العشاء بين ممالك و إمارات أوروبا الخارجة لتوّها من الأسر السياسي و الديني و الإقطاعي لملوك القرون الوسطى المتجبّرين؟ و كيف يمكن لامرأة فيلسوفة كحنة أرندت أن تلعب، كعادة كلّ النساء و على غير منهج كل النساء، على حبل العشق الجامح من أجل تقويض الفكرة الخالصة للوجود كما كان يتصوّره هايدغر من خلال ما يمكن أن نسميه، نحن الشرقيين عموما، بالحب العذريّ بين فيلسوفين لم يكن ليلاقي بينهما لا المبدأ الأخلاقي، و لا القناعات، و لا المنهج، و لا المآلات التي كان كلّ واحد منهما يريد أن يبني بها مشروعه الفلسفي؟ و قد لا نتعجب كثيرا، نحن الشرقيين في تصورنا العاطفي الغامر، و نحن نرى منطقيا جدا ما تستطيعُ أن تُحدِثهُ قصة الحب الرهيفة و هي تجمع بين الفيلسوف الوجودي المتنور ذي النزعة النازية البائنة في مساره و في كتاباته، و بين الفيلسوفة ذات الأصول اليهودية، المتمردة يسارا على الفكر الشيوعي الأكثر انغلاقا على نفسه، و الذي جعل لينين نفسه ينتبه إلى خطورة اليسار عليه، و على الثورة الاشتراكية الزاحفة بيقينٍ ثابت نحو تحقيق الانتصار الأخير؟ و كيف يمكن لرجل مثقّف مترنح زهوا و غرورا مما يتركه لبْسُهُ للسواد و البياض، من أثر في نفوس المشاهدين، و ذي منشأ برجوازيّ كبرنار هنري ليفي، و منحدر من عائلة تتاجر في استيراد الحطب من إفريقيا بالذات، تماما كما أسلافه الأوروبيين في منتصف القرن الثامن عشر، أن يفتح جبهات كثيرة على الشرق المتخلف مرّة ثانية بعد قرن من الفشل الذّريع في تأسيس الشرقيين للدويلات الوطنية و حمايتها، لأجل إعادة رسمه من جديد، من خلال الانغماس السياسي و الدِّعائي في تنفيذ أجندة ‹الفوضى الخلاقة› من أجل إعادة عقارب هذه الدويلات إلى وضعية ما قبل الكولونيالية بوصفها ثواءً مُفرغًا من الوجود، و تقويض وضعية الشرق بوصفه طموحا تحرريا من الأغلال الغربية، و هي تُرسِّم منطق العبودية الجديدة في فضاء شعوبٍ لا تزال منبهرة، بعد قرن و نيف من الحداثة الزائفة، بقصائد رامبو و لمّا تُفرّق بعدُ بين ضريبة الدم و ضريبة البقاء؟ °°° °°° لقد أصبحت فكرة الإنسان، بما هي تصوّر نهائيّ يستوعب فكرة التعالي و الطموح بوصفهما مكابدة وجودية، مجرّد تخطيء جميلٍ يمحو فكرة الشرق التي كانت، في مراحل تاريخية سابقة، تدفع بالإنسان المتعلّق بالنجوم إلى قطع المسافات الفارقة و المكابدات الإيديولوجية الوعرة بسرعة الدعاء المستجاب، و هي المسافات الفارقة التي جعلت العديد من الفلاسفة الغربيين يخلطون بين الموقف المتمركز للإيمان المطلق بموت الإله، و بين نقيضه المتبصر المقتنع بوجوده، على الرغم من التناقض الواضح بين الإيمان المطلق بعدم الإيمان بالله و التبصر العقلاني بوجوده أو بعدم وجوده. إنه نفسه التخطيء الذي يدرج في صلب منظوراته المعاصرة ما يجب أن تكون عليه المصلحة المغلّفة بالورق المصقول، من إمكانية أن تكون أنت و نقيضك في الوقت نفسه، من دون أن يسبّب ذلك للإنسانية حرجًا أخلاقيا أو تراجعا معرفيا أو تناقضا إيديولوجيا. و هو نفسه التخطيء الذي يجعل من الذات المعاصرة المنفتحة على العوالم الإنسانية، و المتقدمة بخطى ثابتة و بقناع إنسانيّ مُبْهِر نحو مصيرها المبرمج مسبقا، تقتنع بكل سذاجة بإنسانيةِ مطرب غربيّ يجذب آلاف الجماهير إلى صوته الرقيق في أمسيات باريس الهادئة، و يتحول فجأة، و خلال لحظات التاريخ الحرجة، إلى جندي شرس ببزّة الجيش الإسرائيلي، يطلق النار على الأطفال الفلسطينيين في الضفة الغربية المحاصرة برا و بحرا و جوّا. °°° °°° °°° لماذا لم ينس رامبو أصول منابعه الفكرية و الفلسفية من خلال ممارسته لتجارة الرّق و السلاح؟ و لماذا لم تنس حنه أرندت أصولها الفكرية و الفلسفية و هي تصرّ على الذهاب إلى أرض فلسطين، أرض الميعاد، لاستعادة ذاتها المنهكة على حساب شعب فلسطين صاحب الأرض، من دون أن تدرك ما لم تدركه من معاشرتها لهايدغر العظيم، من أن الحياة كينونة بالنسبة للإنسان ككلّ، و هي بالنسبة للإنسان الشرقيّ خاصةً جوهرُ لا يحول؟ و لماذا لم ينس برنارد هنري ليفي أصوله الفكرة و الفلسفية و مهنته الأصلية، و هو يدفع بآلية الاقتتال بين أبناء القبائل الواحدة في العراق و ليبيا و سوريا و اليمن، و في أماكن أخرى من العالم الشرقيّ، إلى منتهاها؟ إنه نفسه التخطيء الذي يجعل من الإنسان المعاصر فيلسوفا عظيما في المساءات الباريسية، يتعلق به العالقون في معابر الفكر العشائري الرابض في فضاءات الشرق الواسعة، و يتمسحون بظلال أفكاره التحررية في ضوء النهار، ثمّ يتحول في جوف الليل و في صباحاته المغشّاة بالضباب و الدخان و القنابل العنقودية، إلى تاجر أسلحة منطقيّ و صارم و مصلحيّ. ما الفرق إذًا، بين تجارة الحطب في القرون الوسطى، و تجارة الرقّ في بداية القرن العشرين، و تجارة العقّار في بداية الاستيلاء على فلسطين، و تجارة الأسلحة في حروب الانتهاء التي يخوضها الغرب ضد الشرق بأبناء الشرق الشجعان، من دون أن تتلطخ ذاكرنه الحية بدماء جنديّ واحد من أبنائه؟ °°° °°° °°° و لعل ما يدعم هذه العلاقة الخفية بين الفلسفة بوصفها تخطيئا و بين الواقع بوصفه حلما كاذبا، ما يجري في عصرنا من مواصلة ملحاحة لمنطق التخطيء نفسه، من خلال الإصرار على الاستغلال (العقلاني) للبشر في المتاجرة بالرق الأبيض، و السياحة الجنسية و جلب العمالة الرخيصة للدول الغنية، و في توظيف رأس المال المتغوّل على الاقتصاد العالمي لاستغلال فائض الجهد بأقل التكاليف، و في بيع و شراء اللاعبين الرياضيين بأغلى الأثمان و أبخس الطرق، خاصة لاعبي كرة القدم، و استغلال الأطفال في المناجم للبحث عن المواد النادرة الضرورية للصناعات الدقيقة، و في البحث المضنيّ في الكهوف عن المواد النفيسة المستعملة في صناعة الهواتف المحمولة، و غيرها كثير من الممارسات المبررة بقوة القانون الساري في القرن الواحد و العشرين، و بعقلانية ما في الحداثة و ما بعد الحداثة من فكر تنويريّ متنفّذ. و هي كلها ممارسات لا تختلف، في نهاية الأمر، عمّا كان يجري في عصور أخرى غابرة، و عند كل الشعوب (القوية) تحت مسميات مرتبطة بخصوصية أزمنتها و أمكنتها، لم يكن فيها للتعاليم الدينية، و لا لإعلانات حقوق الإنسان، و لا لادعاءات الخطابات الإنساونية المرتبطة بالفكر التنويري، أيُّ أثر على الجشع الإنساني في تثبيت و ممارسة ثاني أقدم مهنة في العالم و هي الاستعباد. لقد كان الاستعمار في حد ذاته استعبادا فاق كل أنواع الاستعباد، بحيث لم يترك لا الأسياد القدامى كالعرب، و لا الفرنسيين المُستعْمَرِين هم كذلك من طرف جيرانهم، و لا عموم الأوروبيين و هم يرزحون تحت رحمة الهيمنة النازية. كلّ هيمنة هي استعباد بالأساس، و كل استعباد هو محق للذات الإنسانية في مجملها، و تعبير فلسفيّ عميق عن فكرة الخضوع بوصفها رديفا للهيمنة. و ربما سيأتي يوم تتحدث فيه الأجيال القادمة عن الوعي المتنوّر الذي كان يتم فيه تحويل لاعب كرة قدم سيّد من فريق إلى فريق، تماما كما كان يُحوّل العبيد قديما من حلبة إلى حلبة، تحت تصفيقات آلاف الجماهير التي تتفرّج على قوة عضلات اللاعب، و تنتظر منه أن يحقق لها انتصارا كما في عهد أثينا و روما و غيرهما، و في حضارات العالم الموغلة في القدم، حيث ينتظر الجمهور النخبوي المتعطش للانتصار الدموي، المعركةَ الفاصلة بين بطلي طراودة و أثينا. لقد تحدث شكسبير عن عطيل كما لم يتحدث أيّ عالم أنثروبولوجي عن استغلال الإنسان لأخيه الإنسان تحت طائلة ثنائية الهيمنة و الخضوع، و لم تكن مهنة أهم شاعر حداثيّ نحبه حدّ الغباء كرامبو، غير امتهان تحويل الإنسان المستعبد من وضعية القابلية للاستعباد إلى وضعية الاستعباد. ثم يأتي من يقول لك إن مالك بن نبي لم يكن محقا في نحته للمصطلح/ النظرية المشهور، بدعوى أنه مجرّد كهربائيّ بسيط، و ليس من اختصاصه و لا من حقّه امتهان فلسفة التخطيء !؟