ثار جدل كبير نهاية جانفي المنصرم في فرنسا بمناسبة عقد ملتقى حول الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر و علاقته باليهود، و موقفه من معاداة السامية، و جاء ذلك في خضم ما أفرزه الهجوم على مقر جريدة شارلي إيبدو من نقاشات وسط الفرنسيين و يهود فرنسا تحديدا بعد عملية حجز رهائن في متجر يهودي حول معاداة السامية، و دعوات رئيس وزراء إسرائيل لليهود بالهجرة إلى إسرائيل و قول زعماء فرنسا أن بلادهم دون اليهود لن تكون فرنسا الحقيقية. اختيار هايدغر و معاداة السامية موضوعا للملتقى جر الكثير من المواقف اعتبر بعضها الأمر توظيفا للفلسفة في سياق تهريج إعلامي، و هو ما جعل أحد كبار المختصين الفرنسيين في دراسة فسلفته يرفض المشاركة في الملتقى قائلا أن الذين سيتحدثون عن هايدغر لم يقرأوا مؤلفاته، بينما قال الفيلسوف اليهودي برنار هنري ليفي المعروف بلقب "عراب ثورات الربيع العربي" أنه رغم ما تجلى من معاداة الفيلسوف لليهود في كراسات كتبها و طلب نشرها تتويجا لصدور أعماله الكاملة، فلا مجال لترك أثره العميق في الفلسفة الحديثة دون دراسة، و خاطب هنري ليفي جمهوره بأنه لا يوجد أمامهم خيار سوى مواصلة قراءة مارتن هايدغر. نترجم في كراس الثقافة لهذا الأسبوع نصان متعارضان حول الجدل الذي أثارته بعض مواقف هايدغر الأول للدارس هادريان فرانس لانور الذي برر عدم مشاركته في الملتقى و الثاني لبرنارد هنري ليفي الذي نشره بنفسه على مدونته قبل يومين و الذي فسر من خلاله لماذا ينبغي مواصلة دراسة فلسفة هايدغر، رغم كل شيء.
لماذا لا أشارك في ملتقى حول هايدغر و اليهود الفلسفة يجب أن تبقى بعيدة عن التهريج الإعلامي بقلم هادريان فرانس لانور / ترجمة عمر شابي يعتبر هادريان فرانس لانور من كبار المختصين الفرنسيين في دراسة الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر. فقبل عام و نصف شارك في كتابة "قاموس مارتن هايدغر" و بالخصوص المقال المعنون "معاداة السامية". الذي بدأه بهذه الكلمات " لا يوجد في كل أعمال هايدغر المنشورة حتى اليوم ( 84 مجلدا من بين 102) جملة واحدة معادية للسامية". كان ذلك قبل أسابيع قليلة من الإعلان عن نشر المجلدات الثلاثة الأولى من "كراسات سوداء" من طرف دار النشر الألمانية كلوسترمان. في تلك الملاحظات الخاصة، أخذ هايدغر أسوأ العبارات النمطية المعادية لليهود في فرنسا، حيث لا يزال يتمتع بتأثير كبير، و كان نشر تلك الكراسات بمثابة قنبلة. في يوم الخميس 22 جانفي افتتح بالمكتبة الوطنية الفرنسية ملتقى كبير، الهدف منه أخذ الدروس الأولى. كان هناك بيتر سلوترديك، ألان فينكيلكروت، برنار هنري ليفي، باربرا كاسان و أيضا المخرج لوك داردان. لكن فرانس لانور رفض الحضور. و شرح موقفه بعبارات لا يمضغها من قبيل "تهريج دعائي"، "نقيق"، "تسرع" في هذا المقال الذي نشرته مجلة "لونوفال أوبسرفاتور" في ملحقها الثقافي يوم 23 جانفي بعنوان "الفلسفة ضد التهريج الدعائي" و الذي نترجمه لقراء النصر كاملا. تجاوبت في بادىء الأمر مع الدعوة الكريمة التي وجهها لي هذا الصيف جوزيف كوهن، الذي أشكره لإحساسه اللطيف تجاهي. لكنني حين اطلعت على البرنامج عرفت أن الملتقى لن يخرج عن الإعداد الإشهاري لقضية هايدغر، مثلما تمت إثارتها من جديد العام الماضي من طرف بيتر طراوني ( الجامعي الألماني الذي أشرف على نشر الكراسات السوداء) في كتيب ينضح سوء للفلسفة. بالنسبة للذين، لديهم علم بأعماله السابقة مثلي، القطيعة كانت حادة تجعلنا نقف مشدوهين، أمام النوايا الحقيقية لنص تفوح منه رائحة المصطنع، و لا يمكن بأي طريقة أن يكون مثل هذا الكتاب قاعدة لتفكير فلسفي حقيقي. القاعدة و الوحيدة للتفكير الفلسفي الممكنة، هي 1240 صفحة من الكراسات المنشورة حتى الآن، و التي عرض منها بيتر طراوني عدة مقاطع من بضع سطور صنع من خلالها منظومة هشة تتهاوي بمجرد أن عرفنا الكراسات في مجملها. واحدة من الملاحظات التي أبديتها و أنا أطالع برنامج الملتقى كانت التالية: كم هم من بين المتدخلين الذين يعلمون ما في الصفحات ال 1240 التي لم تتم ترجمتها للفرنسية؟ من الذي سيتحدث فعلا عن هذه المجلدات الثلاثة، عن كل ما سنتعلمه من جديد و عن كل الاكتشافات الجميلة التي نقوم بها؟ و لكل هذا تجب إضافة ملاحظة: هذه الكراسات، هايدغر أوضح أنها يجب أن تنشر بعد الأعمال الكاملة، لأنها كانت لا معنى لها دون معرفة الأعمال المكتوبة ما بين 1936 و 1945، من بينها ستة نشرت حتى اليوم بالألمانية، و يتعلق الأمر بآلاف الصفحات، من بينها فقط "إضافات للفلسفة" تم نشرها بالفرنسية العام الماضي في ترجمة قام بها فرانسوا فيديي على مستوى ما هو محط إهتمام في هذا النص المعتبر. في النهاية مجلد واحد من الكراسات لا يغطي سوى أقل من السنوات ما بين 1942 و 1948 صدر هذه الأيام، و من نافلة القول أن لا أحد قرأه. في هذه الظروف أسمح لنفسي بطرح السؤال: هل يتعلق الأمر بملتقى فلسفي، على أي أساس مشترك يمكننا أن نتحدث جميعا؟ ألا يوجد هنا شيء من العجلة الضارة؟ نحن نتحدث هنا عن نصوص فلسفية، ليست فقط ذات حجم كبير، لكها صعبة للغاية تتطلب شهورا و سنوات من العمل و التساؤلات، و فيها جزء غير منشور. مع "قضية هايدغر" الهرج الإعلامي دائما متناسبة عكسيا مع المعرفة و التفكير في النصوص. في سياق الصخب الإعلامي لا يمكن مطلقا التفكير، بل يتعلق الأمر بإعلان موقف عام من مصطلحات القضية، و هي المصطلحات التي لا أجد فيها قضية الفكر الوحيدة التي تهمني. هذا هو السبب الذي جعلني أقرر عدم المشاركة في هذا الملتقى، بهدف أن أتمكن من ممارسة عملي من الجانب الفلسفي البحت، و أعتقد أنه يتوجب عاجلا الخروج من قمع الحدث، لصالح دقة الدراسة و هرمنوطيقا اللا-تسرع. إنها الهرمنوطيقا ذاتها التي أطبقها على بعض المقاطع،ثلاث مرات أو أربع من عدة أسطر، التي اكتشفتها أولا خارج السياق العام للكراسات، التي قام بيتر طراوني بإخراجها منه متعمدا، في عرضه المقترح( بالمرة السياق الدقيق لبعض المقاطع و السياق العام للكراسات). هذه المقاطع التي تتضمن في الكثير من المرات مسألة "اليهودية العالمية" الأكثر غموضا، أجدها بائسة لأنها تبرز عدم قدرته على التفكير بإلصاق مفاهيم على "اليهودية" التي لا يقوم أبدا هايدغر بتعريفها، و هي نوع من العقلانية التجارية التي لا علاقة لها بالروح الحقيقية لليهودية، و من الفكر اليهودي الذي له مع فكر هايدغر ربما دون أن يدري روابط عميقة، أعتقد انه من المهم البحث فيها ( مقالة "الفكر اليهودي" لستيفان زاغدانسكي في "قاموس مارتن هايدغر" أو الكتاب الجديد لباسكال دافيد " الإسم و العدد. مقالات حول هايدغر و اليهودية" تعطي هنا عناصر تفكير خصبة للغاية). في بعض تلك المقاطع من النصوص الخاصة جدا، يبدو أن هايدغر سقط في فخ الصور النمطية المعادية للسامية، التي لا تظهر مطلقا في أي من أعماله. إنه أمر محزن و لن أتردد في التفكير حول المسائل التي تطرحها بعض تلك المقاطع. لكن هل يجب العلم بها للمسارعة بالقول "هايدغر معاد للسامية" في كل صحافة العالم، و في كل المدونات عبر العالم؟ و هنا نضع الإصبع على المشكلة الأخطر التي هي مشكلة الشعارات و استغلالها في عصر النقيق "تويتر" كوسيلة للاتصال الكوني الآني. "هايدغر معاد للسامية"؟ يجب مع ذلك التذكير بأنه لم يكن كذلك مطلقا، طيلة كامل فترة التزامه السياسي، لم ينطق هايدغر أية عبارة معادية للسامية، علينا أن نتذكر أن أول فعل قام به العميد هايدغر كان منع نشر ملصقات معادية للسامية في جامعته، لنتذكر أن ذات العميد كتب لوزارة الآداب النازية دفاعا عن زميلين يهوديين له.، لنتذكر حب حياة كاملة لحنا ارندت، لنتذكر اخيرا أنه في الكراسات يدين هايدغر دون لبس معاداة السامية بوصفها "لا معنى لها و مقيتة". "معاداة السامية لا معنى لها و مقيتة" كتب هايدغر و أحس أنه علي أن أقول عاليا و بقوة، بينما نحن نرى في الآونة الأخيرة على تراب جمهوريتنا عنفا غير محتمل و مرعب لجرائم ضد السامية. في مواجهة معادة السامية الحقيقية و التي لا طاقة على تحملها و التي نواجهها اليوم، لا يبدو لي الأمر غريبا فقط بل من اللامسؤولية أن نستخدم شعارات كيفما اتفق، دون تمحيص و عن طريقها يتم تقزيم كل فكر فيلسفوف كبير في بضعة أسطر تحمل عبارات نمطية مستهجنة. لكن دون أدنى علاقة بشيء من كره اليهود ( العقلانية الحسابية التي يطبقها هايدغر على اليهودية هي أيضا أحد المقومات الأساسية لسلطة الفعالية التي يستعملها على التحديد لتحليل النازية و البلشفية والإمبرياليتين الإنكليزية و الأمريكية). أقول لكم جون لف: حينما نستعمل و نغالي في استعمال هذه الشعارات لسنا فقط نقوم بلعبة متهورة، إننا نشجع بذلك اللاثقافة، و نرعى بذلك الجهل و اللاتفكير. إننا نلعب لعبة اتصالاتية لا تسامح فيها و هذيانية مثل التي يقوم بها ديودوني- إننا نلعب لعبة خطرة. شيء أخير يبقى علي توضيحه للرد على سؤالكم المتعلق بعلاقتي بفكر هايدغر اليوم، و أسمح لنفسي هنا بتقديم مقطع من رسالة موجهة مؤخرا لأحد منظمي الملتقى الحالي: إذا كنتم قرأتم في قاموس مارتن هايدغر مقالات التدمير الذاتي،البناء، الوحشية،أوروبا، الإبادة، الأسس المتوفرة، الفهرر، الوراثة، العملقة، نفس الشيء، التنظيم، الشعب، العنصرية، الرومانسية،الأمن، المحرقة، فاغنر- دون الحديث عن مقالات سيلان و أوبون ( وهي مما أفضله) فإنكم دون شك فهمتم أنه من بين الأشياء التي لها اعتبار في حياتي هناك الطريقة التي منذ نهاية سنة 1934 فكر بها هايدغر في النازية، بشكل لا تنقصه ثغرات، لكن أعتقد أنه لا يمكننا التخلي عنها بترف- لأنها تحمل عناصر فلسفية أساسية تجعلنا في وضع نطرح فيه بجدية سؤال طرحه جورج بن سوسان و هو أحد كبار المؤرخين للمحرقة و أراه من أكثر الأسئلة أهمية في "ميراث أوشفيتز؟" و هو "هل عالم الشمولية و المحرقة كانا انحرافا في قرننا، أم علامة على زمننا؟". في محاضرة عن هايدغر قمت بترجمتها و نشرها وجدت أن من بين علامات الخطر في زمننا، يعرض هايدغر سنة 1949 إبادة الناس بمئات الآلاف في محتشدات الإبادة. و هذه العوارض مثلما يوضح لا ننتبه لها: "هل هناك علامات يمكننا من خلالها معرفة حالة الاستعجال، و طغيان عدم وجود أمر مستعجل؟ هناك أعراض. فقط نحن لا ننتبه لها. بمئات الآلاف يموت الناس جملة. هل يموتون؟ إنهم يهلكون. يتم قتلهم. هل يموتون؟ إنهم يتحولون إلى قطع عملة مدخرة في صندوق متوفر من اجل صناعة الجثث. هل يموتون؟ لقد تم الإجهاز عليهم دون ضجة في محتشدات الإبادة.". بينما فيما يتعلق بالعمق التاريخي لهذه الأعراض في التاريخ الميتافيزيقي للغرب، تقدم الكراسات السوداء و أعيد هنا القول العناصر الأساسية بعدد كبير، و التي تكمل ما قدمته من قبل المقالات اللامنشورة و بعض المحاضرات. و لهذا لا أستطيع بأي حال قبول واحدة من الجمل في نص تقديم الملتقى " التوافق السياسي لهايدغر مع الوطنية الاشتراكية، التي أظهرها النشر الحديث للكراسات السوداء تحت ضوء أكثر سطوعا.." و لكي أكون صريحا معكم لا أستطيع قبول أن تكون جملة كهذه قد جاءت من واحد قرأ الأجزاء الثلاثة من الكراسات المنشورة حتى اليوم. أضيف لأنتهي ملاحظة أخيرة لنفترض أن كل شكل من المعاداة ( و ينبغي الإطلاع هنا على مقالة معاداة في قاموس مارتن هايدغر) يمكن أن يكون منطبقا على فكر مارتن هايدغر، فإن قراءة "الكراسات السوداء" تكشف أنه قبل "هايدغر و معادة السامية" كان ينبغي بالخصوص كتابة مؤلفات يمكنها ان تكون عناوينها هايدغر و معاداة النازية، معاداة البلشفية، معاداة أميركا، معادة الإمبريالية الإنكليزية، معاداة الإمبريالية الكهنوتية، معاداة الفاغنرية أو حتى معاداة الرومانسية. و التي ستكون ربما يوما مواضيع لملتقيات فلسفية قادمة.
علينا دوما قراءة مارتن هايدغر برنار هنري ليفي/ ترجمة عمر شابي بمبادرة من المكتبة الوطنية الفرنسية و قاعدة اللعبة و الفيلسوفين الشابين جوزيف كوهين و رافائيل زاغوري أورلي جرى تنظيم ملتقى كبير الأسبوع الماضي حول "هايدغر و اليهود". و رف على النقاشات صدور "الكراسات السوداء" الشهيرة التي تعتبر نوعا من "يوميات فكرية" وضعها المعلم نفسه لكي تكون خاتمة و تاجا في الوقت المناسب عند نشر مؤلفاته الكاملة- و التي هي النص الوحيد له أين جرى استعمال كلمة و اسم "اليهود" بشكل صريح و أين يعبر عن معاداته للسامية فجأة و بوجه مكشوف. هل الأمر مع ذلك محير؟ و هل نشر هذه "الكراسات" السوداء بمحتواها كما بغلافها هو الحدث الذي قلنا؟ نحن نعرف من قبل جملة "مقدمة الميتافيزيقا" حول "العظمة الداخلية" و "حقيقة" الوطنية الاشتراكية. نعرف المقطع حول العدو "الأكثر خطرا"، الذي "يتغذى على الجذر الأكثر داخلية للشعب"، و الذي لا يمكن تحقيق العدالة معه إلا من خلال " الإبادة الشاملة". لقد قرأنا جميعنا في محاضرة برام الرابعة الاعتبارات حول "فرن الغاز"، الذي أعيد "فيما يتعلق بأصله" إلى "الصناعة الغذائية بالمحرك" ( ما يمكن أن يكون في حالات قصوى تعبيرا عن الأخذ بالبعد الوحشي الصناعي لتدمير اليهود) لكن التي تم دمجها أيضا ( و هنا كنا بالمقابل في قلب الإنكار) مع تركيع ألمانيا المنهزمة من خلال تجويعها أو مع صناعة "القنابل الهيدروجينية". و علمنا أخيرا أنه دون أن نذهب للنبش في سفالات عميد الجامعة هايدغر الذي ينهي خطاباته بالتحية النازية المدوية "هايل هتلر !"دون اعتبار خاص من جراء حماقة كهاته تجاه زملائه اليهود ( هوسرل، بومغارتن...) أو تجاه صداقة خاصة ( مع أويجين فيشر، رب عمل الطبيب الخير مانغلي)، هناك كل ما تنضح به المؤلفات ( تلك التي تضع إجمالا "ألماني" في مرتبة "اليوناني الجديد"، شهادة عن ميلاد "شعب ميتافيزيقي" جديد مهمته مثل سابقه أن "يكون" و أن "يحرس " ذلك، مما غذى الوطنية الاشتراكية و تغذى عليها. المسألة الحقيقية في الواقع لم تكن التذكير للمرة نون أن هذا الفيلسوف الكبير كان نازيا حقيقيا. بل كانت عما يمكن و يجب أن نقوم به اليوم، حيال هذه المفارقة الحية، بهذا الحمل المخيف على الأرداف لهذه الشخصية التي لا يمكننا حتى أن نقول أنه كان مثل سيلين له وجهان. بسبب أنه حقيقة من خلال نفس النصوص و نفس الجمل و أحيانا نفس الكلمة يظهر مارتن هايدغر كفيلسوف من طراز عال و كمصدر للعار. هل ننساه؟ علينا الإقرار أنه لا يمكن التبجح بخلافة أرسطو أو سبينوزا حينما نشيد بالانتقاء أو بالترويض. هل نلقي "الخلاف الأنطولوجي" في حمام الدولة النازية الذي وجد في بعض النصوص مع ملحقاته من روح جدلية؟ علينا بالنهاية أن نأخذ بموقف ذي حجة، في كلمة لكي لا نجد أنفسنا محرجين بواحد من أكثر الفلاسفة المعاصرين صعوبة و عوصا. هذا ليس رأيي. رغبت في أن أرافع أنه رغم الحرج، و رغم الخزي الذي نشعر به أحيانا حين نرى بروز مرحلة مؤسفة من حرب ألمانيا على هامش تفكير حول هيراقليطس أو هولدرلين، مغشاة بجلال الحدث، علينا أن نواصل قراءة هايدغر- و ذلك بالخصوص لأنه كان الأصل في التفكير الكبير حول الأشياء المهمة منذ خمسين عاما. أمثلة؟ فلسفة سارتر عن الحرية الخاضعة، الخاضعة بقوة الأشياء لشخص داسين الذي لا عمق له و لا ماض، فهو خفيف إذن، يمكنه القفز بفضل الكينونة و الزمن (كتبها ليفي بالألماني "ساين اند زايت"). ثورات الستينات، و تيارات التفكير المعادية للسلطة و المتحررة التي كان عدوها الأول الطهارة الميتافيزيقية الذي أخذت صفة "الطبيعية" كان هايدغر أول من قال لنا أنه ينبغي أخذها بصفة "تاريخية". "معاداة الإنسانية النظرية" في تلك السنوات و فائض القيمة الكبير للمعنى و المعرفة و تنامي الذكاء بشكل قوي و الحقائق التي كشف عنها ( لكن ذلك كان فعلا..) من خلال معرفتنا بالناس على حقيقتهم- كل هذه اللامركزية الخصبة الذي ولد لحظة تفكير كبيرة يعود الفضل فيه لهايدغر الذي وضع معادلة ذلك. مع ليفيناس بالطبع و اللا-مركز الثاني المرتبط بالأول الذي يسير ليس من مما يجري إلى ما يكون، بل مما يكون إلى الآخر. لاكان الدكتور الفيلسوف، الذي واصل ما عمله فرويد، و المفكر في الوثبة الكبيرة، و كاشف مصدر اللاوعي المهيكل كلغة الذي يتطلب كشفه الخوض في قنوات مفتوحة في جسد ذو المعنى: لا يمكن توقعه هو الآخر دون "الكراتيليزم" الذي تنبأ به آخر فيلسوف اعتقد أن الكلمات تتشابه مع الأشياء. و أن فن التبسيط و التعليل و التعريف هو الطريق الملكي للمعرفة، و ان الجدلية ينبغي أن تترك المكان للتفاسير، و الكثير من هذا القبيل و اكثر منه قوة. أن منعطف اللغة الكبير للفلسفة الحديثة الذي تحدث عنه غوتلوب فروجي هو ما يجب أن تحدث عنه هنا. ليس أمامكم خيار: إما أن تقرأوا رغم كل شيء هايدغر، أو الإستسلام إلى أن الفلسفة ستتوقف عند الحدود الكانطية، و الشمولية الهيغلية أو إلى الانبعاث البرغسوني.