غاب مصطفى نطور الثلاثاء الماضي، بعد أن عاش أكثر من عمر وعبر أكثر من عصر كما قال عن نفسه حين اكتشف أن الحياة لن تمنحه فرصة أخرى ليخرج الروايات الحبيسة في قلبه بعد طول إرجاء.غير أن الأصدقاء المقربين الذين عايشوا تجربته يؤكدون أن رحيله حرم المدونة الروائية الجزائرية من صوت متفرد أفصح عن مشروع كبير في رواية "عام الحبل".في هذا العدد من كراس الثقافة نفتح نافذة على حياة وإبداع هذا الكاتب الذي عبر من هذه الجريدة بالذات حيث كان من أبرز كتاب قسمها الثقافي كما أشرف على صفحاتها الأدبية التي تخرج منها جيل من الكتاب الجزائريين.وهي فرصة لنرى مصطفى نطور بعيون أصدقائه على أن يبقى المجال مفتوحا لتقديم قراءات في أدبه في أعدادنا اللاحقة. عاش من أجل الإبداع وتجذير قيم الحرية والعدالة في المجتمع عندما طلب مني الأديب سليم بوفنداسة أن أكتب شهادة أو كلمات في روح الفقيد الأخ والصديق الأديب مصطفى نطور أحسست وكأنني أرفع قلمي لأول مرة، فمن أين أبدأ؟ وكيف يمكنني اختصار ما يملأ رأسي ونفسي في سطور؟ وبقيت وقتا طويلا أسأل نفسي: هل أعتذر عن الكتابة حتى يمر زمن الصدمة والفجيعة؟ ولكن، من أدراني بأن الألم حين يتوقف لا يتجدد كلما هممت بالكتابة وفتقت غشاوة الذاكرة المشحونة بأشجان السنوات الطويلة، بأفراحها وانتصاراتها وانكساراتها؟ هل أستطيع أن أمسك بزمام نفسي فتنصاع لي الكلمات وأقوى على جمع شتات أفكاري؟ وكلما حاولت أن أجد لنفسي عذرا رن صوت سليم في أذني مرة أخرى: لابد أن تقول شيئا للعدد الخاص حول الكاتب المبدع والناقد مصطفى. نعم، لا بد أن أكتب، لابد أن أخرج قليلا مما في الأعماق، لابد أن أهزم الصمت والفراغ والبياض المقيت الذي يلف حياتنا كأكفان الموتى، ويحاول أن يهزمنا فلا نقوى على الفعل، لا نقوى على الكتابة كونها هي الفعل. نعم إن الكتابة هي الفعل الوحيد الذي جمعني قبل خمسة وثلاثين سنة بمصطفى نطور بمدينة قسنطينة ذات مساء في إحدى الندوات الأدبية التي ينظمها فرع اتحاد الكتاب الذي كنت مع الصديق جروة علاوة وهبي نشرف على تنظيمها بعد عودتي من الدراسة بسوريا وانخراطي في الإتحاد منذ عام 1976. كانت الندوة بكلية الشعب” المركز الثقافي ابن باديس” حول موضوع الشعر الحديث بين الحرية والحداثة، وتركز النقاش حول ظاهرة الغموض في الشعر، وتدخل شخص أراه لأول مرة راح يتحدث من القاعة ليطرح السؤال الذي مازلت أتذكره حتى اليوم: هل الغموض في الشعر الحر حقيقة أم افتراء وادعاء؟ وقدم نفسه، أنا مصطفى نطور. واستمرت الندوة حتى نهاية الوقت المحدد لها، وما كدت أنزل من المنصة حتى غاب عن نظري. لم ألتق به من قبل ولكني قرأت له نصوصا هنا وهناك، ووجدته بعد ذلك جالسا لوحده في مقهى “كولومبس” فاقتربت منه وتم التعارف بيننا، كما قربت بينه وبين الكاتب الصحفي علاوة وهبي، وجلسنا ثلاثتنا لأول مرة، وصرنا نلتقي في هذا المقهى “الأدبي” الذي كان ملتقى الكتاب والصحفيين ورجال التربية والتعليم والقضاة والمحامين، وفي هذا المقهى الذي غير وظيفته في السنوات الأخيرة نشأت معظم العلاقات الثقافية بين عدد كبير من جيلنا على مستوى قسنطينة خاصة وهو قريب من مؤسسة المسرح. وقد لعبت مقهى “البوسفور” القريبة من بناية دار النقابة نفس الدور لأعوام طويلة حيث كان صاحبها يسمح لشلتنا بجمع طاولات عديدة تمكننا من عقد جلساتنا اليومية. لم يكن مصطفى نطور ليغيب عن الجلسات ولم يكن بهدوئه المعروف ليعيش خارج احتدام الجدل دون أن يوجهه أو يدفعه باتجاه العمق. إنه الصموت المتأمل المترفع عن الكلام من أجل الكلام، أو المجاملة واستجداء الموافقة و الإستحسان على حساب الفكرة، أو الطمع في صداقة ملغومة أو رياء أحد. كان نطور على سلوك مبني على كثير من الصراحة حسبها كثير ممن لم يقتربوا كثيرا منه قسوة وجفاف معاملة، وربما هروبا من الآخر. غير أن الصحيح هو عكس ذلك تماما. إن ميله للصمت وعزوفه عن كثرة الكلام، وحبه الاستماع طويلا هي سلوكات متجذرة في أعماقه، ولمن عاشره أدرك أن لذلك أسبابا موغلة في نفسه صاغته عبر سنين طويلة، سنين صعبة للغاية، لا يقدر من تعجنه وتصوغه إلا أن يكون كما كان مصطفى وفقط. فعندما كان في الخامسة من عمره سقط والده العامل بالميناء شهيدا خلال معركة 20 أوت 1955 بولاية سكيكدة والتي كان أحد أبطالها، الشهيد الذي يعرف حتى اليوم لدى رفاقه من المجاهدين باسم “الزدام”. كما أن والدته المجاهدة كانت في الجبل رفقة زوجها في السلاح. ولم يكن مصطفي الإبن الوحيد لينعم بحياة الأسرة وعطفها ودفئها، بل عاش مشتتا تتقاسمه الأمكنة. ويقول لي أنه وجد نفسه عام 1962 مع أمه بدون بيت يأويهما فاجتمع هؤلاء وأولئك من الأهل في القرية بالقل ليبتنوا لهما كوخا صغيرا. وهاهو يجد نفسه سنة 1963 في مركز خميستي لأبناء الشهداء بقسنطينة الموجود وقتذاك حيث توجد اليوم محطة للحافلات مقابل مديرية الري. هذا المركز الذي جمع أبناء الشهداء للتكفل بهم وتربيتهم وتعليمهم. ولهذا المركز يعود الفضل في تخريخ معلمين ساهموا في التربية والتكوين. ويحكي لي مصطفي أنه كان يزور أمه بمدينة القل التي تبعد عن قسنطينة بمائة كيلومتر كل أسبوع تقريبا مستعملا دراجته التي يجيد ركوبها. وبعد أربعة أعوام وقبل أن يبلغ تماما سن الثامنة عشرة يتحصل على شهادة الأهلية التي تمكنه من أن يصير معلما ويلج عالم الشغل، معلم في مدرسة إبتدائية بمدينة رجاص التي تبعد عن ميلة بعشرة كيلومترات وعن قسنطينة بستين كيلومتر. وفي هذه المرحلة صار مصطفى يزور أمه بالقل بواسطة دراجة نارية بسيطة رافقته طويلا وله معها قصص يروي لي بعضها أحيانا. ولم يهيئ الظروف لانتقال أمه إلى رجاص للعيش معه على فترات متقطعة إلا بصعوبة. هذه الطفولة والفتوة الصعبة عاشها مثله جيل بأكمله ولم يسلم من قساوتها إلا من رحم ربك، هو جيل الاستقلال، جيل العري والجوع والبرد والصراع مع صعوبة الحياة من أجل لقمة الخبز، فكيف لا يصنع منه كل ذلك إنسانا متأملا صموتا موغلا في التفكير الذي يفرز كلمات دالات على أمر واضح محدد لا يقبل التلوين و التلولب وكثرة الاحتمالات والتفسيرات. أما مصطفي فقد اجتمعت كل الظروف الصعبة حوله فارضة عليه المقاومة التي لم يتوان في القيام بها حتى النهاية. كل ذلك لم يجعل من مصطفى الرجل المنعزل الانطوائي كما قد يفهم البعيدون عن فهم شخصيته والاقتراب من أعماقه، أو كما قد يتهيأ لهم، أو توحي لهم تصرفاته التي تتميز بالحذر الشديد والتأمل الطويل. إن الذين اقتربوا منه وعاشروه وصادقوه وصادقهم وتعرفوا عليه مبدعا ومثقفا وإنسانا اكتشفوا تلك الروح الإنسانية العالية المتحررة من الكراهية والحقد والحسد، الميالة إلى حب التعاون والبناء الفاعل للعلاقة الإنسانية الخالية من الشبهات والالتواءات. كما اكتشفوا روحه الخفيفة ومشاعره الإنسانية النبيلة الصافية والعميقة. فتعامله مع من عرفوه تميز بالإخلاص والصدق، وبالتجاوب البناء، وبالمرونة وقبول الحوار بدون حدود أونفس قصير. ومن الملفت للنظر أن الحوار معه يمكنه أن يأخذ مداه حتى أن الطرف الأخر وهو يمعن في الشرح والاستماتة في الدفاع عن موقفه يظن أن صمت مصطفى والإستماع الطويل إليه راجع لاقناعه بما يسمع، وهذا راجع لروحه العالية وصدره الواسع في تقبل الرأي المخالف، وهي صفة قلما نجدها لدى الآخرين. واستطاع بفضل إرادته من أجل تغيير وضعيته العلمية والمهنية وبروح عصامية أن يصبح أستاذا في التعليم المتوسط ثم يتحصل على البكالوريا ويدرس اللغة العربية وآدابها بجامعة قسنطينة وينتقل إلى التعليم الثانوي ليصبح أستاذا لمادة اللغة والأدب، ولولا مؤامرة بعض الأساتذة سامحهم الله أحياء كانوا أو أمواتا لكان مصطفى أستاذا جامعيا من الطراز الحقيقي وليس مجرد موظف حامل لشهادة ومؤلف لكتب تشبه الكتب. لقد روى تلك المؤامرة بعد أن كشفها له أحد زملائهم وما حز في نفسه كونه لا تربطه بهم علاقة وليس له حساب معهم يدفعهم لذلك، غير أن الغيرة والحسد هما اللتان دفعاهم إلى ذلك، كاتب له تقدير يحظى به في مواجهة مؤسسة مبنية على الجهل وحسابات مغشوشة ونظرة أضيق من جحر الضب. وحين أروي هذا اليوم في سياق عام فإن مصطفى لم يملأ به رأسه لسبب واحد كونه انخرط في فعل القراءة والكتابة والحياة الثقافية بمفهومها المعرفي النضالي الواسع، هذا المفهوم الذي ميز معظم كتاب الجيل الذي آمن حتى النخاع بأن دوره لا يختلف عن دور المجاهين الذين حرروا البلد من الإستعمار. هذه القناعة تبدو لكثير من الوراقين مثالية ولغة خشب، كما تبدو لهم مناقضة لشرط الإبداعية. إن قناعة مثالية من ذلك النوع هي التي دفعت جيلا كاملا إلى العمل والبذل والتضحية بالوقت وبالطموحات الشخصية، نعم إنها مثالية وقناعات كبيرة عميقة تنزه المرء وتدفعه للحضورالقوي وسط الناس من أجل توصيل فكرة أو قضية. ومصطفى نطور عاش وسط هذا الفضاء فاعلا منضويا مبدعا مبادرا ساهرا عاملا مشاركا صانعا للحدث. فبالإضافة إلى عمله كأستاذ أولا أو كصحافي بجريدة النصر بعد ذلك فهو مناضل في إطار اتحاد الكتاب مؤطرا أو محاضرا أو منشطا أو كاتبا. ويشهد له الكتاب الجزائريون بالتفاني في إنجاح العمل الذي يشارك فيه أو ينظمه أو يكون مسؤولا عنه. إن الزمن الذي عشناه كان ممتلئا بالعمل، مشحونا بالنجاحات وبالإنكسارات، مكتنزا للأسئلة الصعبة التي مر بها مجتمعنا الجزائري العربي الإسلامي. ومن الطبيعي أن يكون كاتب وصحفي ومناضل مثل مصطفى نطور موجودا في قلب الحدث وفي خضم المسيرة، لم يهرب إلى الخارج كما فعل الآلاف، ولم يلبس للمراحل الألوان التي تجعله يركن للهدوء الشخصي على حساب قناعاته التي تملأ عقله، ولم يجعل للدهماء سلطة عليه فيتنازل لها عن قناعاته كما يفعل الإنتهازيون المتطفلون على السياسة، فينجحوا هم ويفشل المجتمع. إن إنسانا مثقفا مبدعا حرا شجاعا ملتزما مثل مصطفى نطور لا يستطيع أن يخون قناعاته لحساب أشخاص أو مرحلة. لقد حملت كتاباته نبض المراحل التي عاشها، وكثيرا ما كتب عن الإنهيارات قبل وقوعها، نصوصه الإبداعية تنضح بالقيم الإنسانية العالية، وتفسح باستمرار أمام القارئ آفاقا جديدة تشع بقيم العدالة والحرية. ناضل من أجل التغيير وتجذير وبث الحرية والديمقراطية في النفوس والعقول لكي تستنير وتحسن اتخاذ القرار ودفع الروح الوثابة في دواليب المجتمع، نعم كان مثالا للإيمان بالتعدد وحق الفرد في حرية الإختيار. أن المسافة طويلة والمواقف عديدة، والزمن مشحون بالعبر، ومساحة جريدة كاملة لا تسع ما جرى وما صنع أوما صنع الزمان به من أحداث لابد من تدوينها وربط المراحل بالمواقف والظلم بالمتسبب فيه، لابد من قول ما ينبغي قوله للتاريخ لا غير، فقد عاش مصطفى مؤمنا بقيمة التاريخ وأهمية التدوين وسوف أحاول أن أوفي أخي وصديقي في المسيرة الطويلة بعض حقه مبدعا قاصا من الطراز الكبير ترك مجموعات قصصية بوأته مكانة رائد القصة المعاصرة في الجزائر، وروائيا ترك رواية عام الحبل مثلما ترك همنغواي العجوز والبحر ومثلما ترك والت وايمان أوراق العشب. سوف أوفيه حقه وأواصل تدوين سيرته كما عشتها وأحسستها. نعم لا أستطيع أن أقفز على المراحل فأشعر بالخجل من نفسي، فلأتوقف أخي سليم هنا لضرورة المساحة لأواصل ما بقي في مساحات أخرى. نم هنيئا مطئنا أخي مصطفى، وليتغمدك الله برحتمه التي وسعت السموات والأرض. رثاء لأحلام الجياد المفجوعة ليست سهلا أن أكتب عنك أيها العزيز الراحل وأنت الذي يكاد أن يكون لنا في الحياة مسار واحد في التشابه أو الضلال أو الأحلام. هل أكتب عنك أم عني؟ إلتقينا أول ما ألتقينا صدفة في شوارع ومقاهي قسنطينة في سبعينيات القرن الماضي، كانت أوضاعنا رثة ولكن أحلامنا بعنفوانها وبدخها تعانق السماء، وأذكر مما أذكر أنئذن، أننا كنا نقرأ ونقرأ بلا هوادة كل ما يقع بين أيدينا من كتب فإننا نسابق الزمن ونطوي المسافات البعيدة التي حملتنا من جبال القل إلى مدينة قسنطينة الساحرة التي كانت حاضنة بحق لكل الغرباء والحيارى، قسنطينة كانت بلسمنا وجدارنا، أعطتنا العلم والتحصيل والأدب، غير أنها لم تقدر على محو ارتباكنا ولم تنسنا طعم رماد وقتها، أما الآن فلا قسنطينة في قسنطينة والسماء التي كانت فضاء واسعا قد صارت قفصا مغلقا، ضمن رحلة التعليم والتعلم التي لا نملك غيرها، التقينا جنبا إلى جنب بمعهد الآداب، وتبللنا معا برداد الايديولوجيا وانجزنا بأحلام الجياد المفجوعة،وغمرنا الإبداع ببريقه ونبتت لنا أجنحة وريش، ومرت الأيام وتتسع دائرة الهواجس المرتسمة بالتضاريس والمواجع، ومع ذلك كنا الأوركسترا الواحدة المتكاملة في آدائها وانسجامها، غير أن لكل واحد منا عزفه المنفرد وخطواته التي يمشي بها وحده، اعتقد أننا كنا كذلك “أنت”، و”محمد زيتلي» و»أنا» مشينا فوق الشوق وأدمت الأقدار شفاهنا وعيوننا، غير أن بلاغة الكلمات ونرجسها ظلت وليمتنا وفردوسنا المفضل حين نلتقي بمقهى (البوسفور) لنجلس طويلا نتبادل النقاشات، نلوي اعناق الشعراء ونسخر من سخف العالم وساساته، وكذا نتلقف الكلمات كحبات الماء ولا نتعب من تكرار رنينها الآخاذ، وأحيانا يلتف حول طاولتنا غرباء وعابرو سبيل فلا نأبه لهم او لذهولهم وهم يحدقون فينا وقد اخذتهم الدهشة مما يسمعون، يتغير أحيانا ايقاع الجلسات بالحضور والغياب لبعض (الأعضاء) ولكن لغياب (مصطفى) أو (محمد) وقع خاص لا يملأ فراغه أحد. في هذه المرحلة كان الفقيد منهمكا في كتابة نموذجه القصصي وبالموازاة كان ميالا لكتابة النقد الأدبي والغوص في قراءة النظريات الفلسفية والنقدية، وكأن القصة القصيرة التي أدمن ممارستها لم تعد تكفى لإمتصاص قلقه وتوتره الدائم، وبالفعل فقد نشر دراسات نقدية جادة تتكأ في منظورها على البعد الأكاديمي والإبداعي، وهي تجربة كان من الممكن أن أخذ كل جهد مصطفى نطور لتجعل منه متخصصا لولا أن الصحافة قد أخذته إليها وهي كالنار التي لا تبقي ولا تذر، وفي هذه العجالة نشير إلى أن الراحل قد فتح عدة ورشات في النقد والرواية والمسرح والأدب الشعبي، غير أن للحياة منطقها وغواياتها ومناكباتها الشرسة فظلت تلك المشاريع مفتوحة، ولو قدر للفقيد أن يعيش سنوات اخرى لاستطاع أن يحقق الكثير من أحلامه التي كان مهووسا بالحديث عنها والرغبة في تجديدها، خاصة بعد أن تحرر كما كان يقول من كل (التحفظات والإلتزامات) ولكن تجرى الرياح بما لا تشتهي السفن ومع كل ذلك إنما تركه نطور من أعمال وكتابات يشهد على موهبة حقيقية وثقافة رفيعة وحس إنساني نادر، وإن هذه الأعمال مجتمعة تشكل بحق معمارا فنيا متكاملا، قد يتيح للدراسين المنصفين أن ينصفوه وأن يعيدوا إليه بعض حقه الذي لم ينله حين كان على قيد الحياة. لنا الله من قبلك ومن بعدك، ولنا الله ولأطفالك وأصدقائك ولكل الذين أحبوك وعرفوك كل العزاء و السلوان. كلمات، لا أتمناها الأخيرة، إلى مصطفى نطور مصطفى،، مصطفى، كم حاولت لأيا أن أكتب عنك بعض الكلمات، ولكن إحساسي بالأنانية المفرطة والانتهازية مافتئ يمنعني، ويعزز داخلي هذا الإحساس ويتعمق أكثر حين أدرك عجزي في الوقوف سندا لك أثناء معاناتك، قبل المرض وبعده. أسمع هاتفا ينطلق من أعماقي يعيرني أنني لا أستطيع أن أكتب ما يليق بمقامك، فأتراجع عن التفكير في ذلك، وإن حدث وبدأت المحاولة فإنني أصمت، وأتوقف عن رسم الكلمات، التي لا أراها إلا وهي تكاد أن تكون خاوية من كل ما تعنيه علاقتي بك، أخا وصديقا. ما جدوى أن أقول لك أو عنك شيئا، وأنا الذي لم أستطع أن أقدم لك ولو القليل من الكلمات، التي ترضيك، وتمنع انهيارك. أنا أعرف أن ما أبقاك صامدا أمام الإعصار إلا قوتك العظيمة في مواجهة الموت وكما واجهه أبوك صامدا من أجل جزائر حرة كريمة، وترك مصطفى للزمن يعلمه القراءة والكتابة. كان شهيدا وكنت الشهيد ابن الشهيد، لما استطاعوا قتل الشهيد مرتين. أعرف أنك لم تكن تتشبث بالحياة إلا لتعبر عن مكنونات الإنسان داخلك يا مصطفى، فلم تكن ترضيك الحياة إلا بملاءتها، فكان طموحك الذي لا يساويه أبدا حلم الجياد المفجوعة، مهما سما فوق كل أحلامنا المفتوحة على آفاق جميلة. وكنت وكانت القلُّ متكئة إلى سيد علي الشارف بكل ما تحمل من زخم التحولات الكبيرة التي لا يلحظها إلا متأمل مثل هذا المصطفى.كنتَ وكنتُ أنا وكنا جميعا، شخوصا تعلمها كيف تأمل في حياة جميلة، بلهيبها وبحميمية علاقتك بالآخر فيها، كنت تحاول دوما أن تجعل فينا الإنسان الذي تريده أنت. تحياه من خلال الكل عظيما، بقدر الحب الذي ملأ جانبيك، ففاض علينا ليبقى نبعا فياضا بعد رحيلك عنا، هذا الرحيل الذي طالما كذبناه، ومازلنا طامعين في صحبتك. من هناك من الكافي ريش والجامعة، ذات لحظات، ومن جذوة الشباب المتقد فيك عرفتك. ولن تنسيني السنوات الطوال جسور الجريدة وهي تتفرع آمالا عظيمة بالآتي الجميل والزاهر فينا ربيعا، وتنتهي الأيام ويبقى مصطفى نطور الكاتب العظيم برؤاه العميقة وصدقه النابع من إنسان تخلص من الخوف لأن الموت قد صار حكاية لا تجد إليه سبيلا. المعذرة مصطفى عن أنانيتي المفرطة، وأنا أتعمد التغافل عن رحيلك عنا وحيدا، معذرة حين لا ينفع الاعتذار. أخوك وصديقك بوخضرة. الوجه الواقعي لمصطفى نطور إن الكتابة هي زاد الموتى في رحلتهم نحو الخلود، حبرهم الذي يظل شاهدا على استمرارهم في الزمن،فما يبقيه الأديب من كلمات قد يشغل بها الدنيا، وقد تكون نصوصه سببا في حياة مترفة ، كما قد تكون سببا في ذهاب حياته ، فالأديب الذي يهب حياته للكتابة ، تفديه الكتابة بأن تقدم حياتها خدمة لذكراه ، إن الأديب مخلوق غريب ، فهو يكتب من أجل أن يقرأ الآخرون ، يكتب من أجل أن يعيش ، من أجل أن يعايش أحاسيس الآخرين ، من أجل أن نحس نحن بالمتعة ، فهو حينما يكتب إنما هو يمارس مع نفسه لعبة من أطرف اللعب ومن أخطرها في آن ، فالكتابة أنثى تمارس غوايتها على الكتّاب ، تختلس أعمارهم ، أحلامهم، رؤاهم ، لتمنحها للآخرين، عبيد القراءة ، وإذا كان الكتّاب قديما يتحايلون على القراء والحساد بتحصين ما يكتبونه من مكائدهم بأن ينسبوه لعظيم من العظماء أو كاتب كبير انقضى زمنه فإن كتابنا المعاصرين يجابهون قراءهم على تعدد أوصافهم وميولاتهم وقد انكشفت سوءاتهم للعيان ، فلا الأديب مشفوع له أن يقول ما يشاء ولا القارئ تاركه لأفكاره ، فسيف النقد والنقاد ، وسكاكين الحسد والكراهية كلها مسلطة على الكاتب ، فإذا وظف الكاتب التاريخ ، واستوحى بعض جوانبه معتمدا على خياله وصفوه بالملفق الكاذب ، العميل الذي لا يشفع له انتماؤه اللغوي والديني والقبلي ، وإذا عرّى الواقع وكشف معايبه وما يعتريه من تناقض ومشاكل اجتماعية ، وكان سليط اللسان في نقده لذلك الواقع المعيش وصف بالمعقد ، بل إن كل المشاكل الاجتماعية والعقد النفسية التي سلطها على شخصيات عمله الإبداعي تسقط على شخصيته ، فيصبح كالمريض الذي يريد علاج الأسوياء ، يا لها من مفارقات عجيبة يعيشها الأديب كل يوم وليلة ، ورغم ذلك فهو مقبل على فعل الغواية هذا دون تردد ، يرمي بيوت الناس بالحجارة رغم علمه المسبق أن بيته من زجاج ، ولكنه يفعل ذلك دون تردد ، ينكسر ، يتدمر ثم يعود ، وهذه حاله ، وهذه غوايته ، إنها الكتابة باختصار شديد ، هواية جميلة ، لكنها محفوفة بالأخطار ، فهي تحدق بالكاتب من كل حذب وصوب ، تجذبك إليها ثم تجعلك هدفا ظاهرا لكل المتحادقين، فهنيئا للكتاب ، أصدقاء الهموم. هنيئا لهم موتهم وخلودهم ، وهنيئا لهم تعبهم وحزنهم ، وهنيئا لهم غواياتهم . ومن هذه الهموم الأحاسيس المرهفة والغوايات الجميلة ولد أديبنا الراحل مصطفى نطور، ولد لكي يكون كاتبا، ساردا للأوضاع الاجتماعية التي ذاق مرارتها ، لليتم الذي ألم بأبناء جيله ، يتامى الثورة التحريرية، فقد قضى طفولته بقرية من قرى جبال القل ، التي كانت ملاذا آمنا لقادة ثورة التحرير ، حيث تنسم هواء الحرية يتيما معدما ، فهو ابن شهيد ، وقد عبر عن هذا الضياع في مجموعته القصصية « من فيض الرحلة « التي أهداها إلى أمه ، يقول فيها : «إلى أمي العزيزة التي تحملت حرمان الترمل وكدحت من أجلنا طويلا أهدي هذه المجموعة « ، هذه المجموعة القصصية التي خلد فيها شخصيات اجتماعية استقاها من واقع قريته ، إنها تشكل بحق كتابة الواقع ، لكن أديبنا بميله للدعابة والسخرية يزج بقصصه في عالم الممكن ، ذلك العالم المتخيل الذي يشفع للسارد تغيير الأحداث ، رغم أنها أحداث قد تكون أكثر واقعية ، وأكثر التصاقا بالحياة اليومية ، ففي مجموعته القصصية « أحلام الجياد المفجوعة « نجد السارد هنا شخصية بارزة في أحداث قصصه ، حيث تتراءى لنا زاوية السرد وقد اصطبغت بروح ورؤية الكاتب السارد العليم بكل شيء ، فهو طابع السرد الكلاسيكي ، وهنا أشير إلى أن تجربة مصطفى نطور القصصية تشبه إلى حد كبير تجربة صديقه ادريس بوذيبة في قصته الطويلة «حينما يبرعم الرفض « التي استقاها من قصة واقعية حدثت بقريته ، حيث وظف الحدث بأسماء شخصياته الحقيقية ، وإذا كان هذا طابع ميز القصة الواقعية في فترة سابقة ، فإننا نقول إن تجارب كتابنا في الحياة في بداية مشوارهم الإبداعي كانت فقيرة ، إضافة إلى ضيق أفقهم التخييلي ، لذلك شكلت تلك التجارب والأحداث التي عايشوها حيزا مهما في كتاباتهم السردية ، سجلوا من خلالها ما وقع بالفعل ، وكأنهم بصدد التأريخ لفترة معينة من تاريخهم الطفولي ، فوصف الريف ، مكان الولادة ، والطفولة الجامحة ، هو هم يفضله كثير من الأدباء ، وقد وصف مصطفى نطور « قرية سيدي علي الشارف « وهي إحدى القرى القريبة من منطقة القل ، هذه القرية التي تختصر طفولة أديبنا ، كما أن وصفها يشكل خاصية جوهرية في كتابة مصطفى نطور القصصية ، بل وحتى الروائية ، فقد أغنى قاموسه السردي والوصفي بعبارات وجمل استقاها من الموروث الحكائي الشعبي الذي تزخر به تلك المنطقة التي يتحدث أفرادها بلغة المجاز ، والسخرية ، كما استثمر الدلالات الرمزية للأسماء بشكل كبير في وصف حالات الشخصيات التي تعكسها تلك الأسماء ، كما في قصة « ليلة بذاكرة الحلم « التي استقى أسماء شخصياتها من واقعه الاجتماعي مثل : الصيحبو، بوخويتمة ، محيمده ، وتشكل الأم ، أم الكاتب أيضا حلقة مهمة في قصصه ، فهي الملهمة ، وهي التي تحكي بعض التفاصيل أحيانا ، إذ يستعين بها الراوي في معرفة الأخبار القديمة التي تشكل ذاكرة القرية.. ويمكن أيضا الإشارة إلى أن الخطاب السردي لمصطفى نطور قد استجاب بشكل واضح لمقولات الثورة الزراعية ، حيث كان للثورة على الإقطاع نصيب كبير من قصصه ، وهي سمة بارزة في أدب جيل السبعينيات وبداية الثمانينيات ، فخدمة الأرض ، ونظام الخماسة ، وأسماء آلات الفلاحة ، ومعاناة الفلاحين المقموعين ، وحكاياتهم اليومية ، وأغانيهم الشعبية التي يرددها الفلاحون أثناء « التويزة» كل هذه القضايا والموضوعات تشكل هاجسا مشتركا لدى كتاب جيل السبعينيات ، وما يحسب لأديبنا أنه وظف تلك الطقوس الشعائرية المرتبطة بالخصب والاستسقاء بشكل لافت ، حيث يجعلك تعيش الطقس وكأنه شاخص أمامك ، يقول : وفي هذه الأثناء انطلقت الأصوات الرجولية ذوات البحات الجميلة مرددة أغنية الخصب لتبدد العياء وقسوة الحر : «الغيث ، الغيث الله يصب المطر ان شاء الله « حيث يحور هذه المقولة ويخضعها لما تمليه عليه اللغة من تسمية الأشياء بلسان عربي ، علما أن هذه الأغنية الطقوسية ، والتي هي دعاء للاستسقاء تكون على الشكل التالي : الغيث ، الغيث آ الله تضرب النو ان شا الله « وبهذه الطريقة يعمد كاتبنا إلى تطويع كل العبارات التي تحتوي حكمة أو مثلا ، أو تمثل أغنية محلية ، مما يجعلها مقروءة ومفهومة عند القراء على تعدد أمكنتهم وثقافتهم ، جزائريين وأجانب أيضا . التاريخ والتجربة سردية: وقد أولع كثير من الروائيين الجزائريين في العقدين الأخيرين باستحضار التاريخ ، واستلهامه بشكل يضمن له مقروئية جديدة ، ليست استهلاكية ، بل باحثة عن المعرفة التاريخية ، كما أنها تعتبر محاولة من قبل الكتاب لإحداث المفارقة ، لأن النص السردي يختلف بالضرورة عن التأريخ ، فالمؤرخ يعتمد المناهج العلمية في بحثه عن الحقيقة التاريخية ، في حين يعمد الأديب الروائي إلى الاحتفاء بكل ما هو متخيل ، ومختلف عن الحقيقة ، فإعادة قراءة التراث التاريخي بطريقة جديدة و في ضوء المستجدّات الرّاهنة أعاد للرواية الجزائرية قراءها ، بل خلق قراء آخرين ما كان لهم أن يقرؤوا الرواية وسرودها بل التاريخ وقضاياه ، وهذا ما حدث لواسيني الأعرج ، والطاهر وطار ، أحلام مستغانمي ، ومصطفى نطور أيضا في روايته اليتيمة عام الحبل التي وظف فيها تاريخ قسنطينة في عهد البايات ، وحادثة عام الجايحة ، وثورة بلحرش، حيث تعود بنا هذه الرواية إلى الفترة العثمانية ، إذ تنقل تفاصيل الحياة البائسة في ظل جشع الحكام العثمانيين ... ولم تكن هذه التجربة جديدة عند كاتبنا بل هي امتداد لتجربة سابقة له مع التاريخ ، ففي قصة له بعنوان المواجهة ، يروي فيها حادثة استشهاد والده ، حيث يوظف خطابا موازيا هو عبارة عن شرح وتقديم لما سيرويه ، كما أنه مبرر يقدمه الكاتب للقراء بأن ما يقوله صحيح ، يقول : « قصة استشهاد أبي كما روتها لي أمي مرات عديدة « فالأم تدخل كساردة أساسية في العديد من قصصه في مجموعاته القصصية الثلاث : أحلام الجياد المفجوعة ،الصادرة سنة 1985 عن المؤسسة الوطنية للكتاب ، و»من فيض الرّحلة» الصادرة سنة 1986 عن المؤسسة نفسها ، و»لوجهها غوايات أخرى». وتبقى هذه التجربة السردية متميزة في لغتها أيضا ، تلك اللغة التي تتراوح بين السرد والشعر أحيانا ، فمصطفى نطور له ميل واضح نحو توضيف الجمل الشعرية ، فهو لا يصف فقط ، بل يشبه تفي غالب الأحيان ، يقول في قصة الانهيار « جلست أمامي كأغنية قادمة من مفاصل الفرح لتبدد قسوة القلق وخواء الوحدة .. بهذا الأسلوب يكتب قصصه ، وبهذه اللغة يرسم أحلامه ورؤاه التي هي أحلام كل الكتاب . كنت خائفا وأنا أقتبس عام الحبل سليم سوهالي إيه يا ربيحة/ ظنيت الفكرة صحيحة / وشمت حروفى صفيحة على صفيحة / وقلت هذا هو البرهان / خط بين الحق والبهتان / ونصبت العقل عليا سلطان / وبين أمواج النور وبحر الظلام / جفت الدواية وتكسر القلام / آه يا ربيحة أشحال هي صعيبة دورة الأيام / الكلام الراشي ساكن في روسهم / والجهل وشمة على صدورهم / وحق سيدي عاشور/ حارس الموجة والدشور/ المعطر بروايح البخور/لأني راجع وكلمتي مانخفيها/ حكايتى باينة وأنا ما نخليها/ اللى بغى بغى واللى عندو قوة فى فى يده يالله .....اريب الحيوط و يخليها/ بهذه الكلمات البسيطة بدأت في كتابة النص المسرحي المقتبس من رواية عام الحبل التي ألفها المرحوم مصطفى نطور وهذا بطلب من السيدة صونيا مديرة المسرح الجهوي بسكيكدة وهي مشكورة على هده المبادرة. ولا أخفي سرا حين أقول أنني كنت متخوفا جدا من الفشل في إيصال أفكار الكاتب إلى جمهور المسرح كون الرواية سردية وتحمل الكثير من الرموز والدلالات ومن الصعب عكسها في عمل مسرحي لكن عشقي لشخصية بوقرة القوال الُثائر وما تحمله تلك الشخصية من معان فتحت شهيتي، وانطلقت أتتبع خطوات بوقرة لأغوص في أغوار الحكاية ويمتلىء انفي برائحة البحر ولأكتشف نفاق وخبث الرجال مع صانع الألياف تارة و بوقرة تارة أخرى لأعرج عبر أزقة قسنطينة العتيقة فأراني ببهو الباي عثمان بدايات القرن التاسع عشر أين كان يمارس أبشع أنواع الظلم والإذلال في حق رجال من نسل أحرار هذا الوطن العظيم وكيف كانت تساق الآلاف من الرجال والنساء إلى مغارات واد الرمال مكبلين بحبال تحت حراسة اليولداش .... ....لقد تمكن فعلا المرحوم أن يوظف تلك الوقائع التاريخية التي يجهلها الكثير في بناء روايته وكان يهدف من وراء ذلك إلى المساهمة في إعادة بناء الذاكرة الجماعية لهذا الشعب . وتلك هي رسالة المثقف الملتزم بقضايا وطنه ومجتمعه مصطفى نطور سيبقى اسما مميزا في عالم الإبداع .