ليس مثقفاً من لا يعرف مشكلات بيئته ومجتمعه * النخبة الثقافية موجودة لكنّها لا تظهر بالشكل الّذي يسمح لها أن تتبوّأ الحياة الثقافية * يتحدث الناقد والباحث الأكاديمي الدكتور بوزيد مومني، في هذا الحوار، عن بعض الشؤون والاِنشغالات الثّقافيّة، وعن القارئ الورقي والمثقف الورقي، والقارئ الإلكتروني والمثقف الإلكتروني، قائلاً في هذا السياق «إن وُجد ما يُسمى بالقارئ الورقي فهناك مثقف ورقي، وإن وُجد القارئ الإلكتروني فهناك مثقف إلكتروني... وهكذا، وإن مات القارئ فالمثقف باق لا يموت». مضيفاً أنّ المثقف لا يموت وهو حامل قضايا مجتمعه بفكره وعمله ليكون قائداً له لا أن تقوده الجماهير بعفويتها وفوضويتها. فليس مثقفاً من لا يعرف مشكلات بيئته ومجتمعه ويُقدم لها حلولاً، ويشعر بالمسؤولية تجاه النهوض بمجتمعه. ومن جهةٍ أخرى وفي ذات المنحى، تحدث مومني عن تراجع النّخبة التي نشأت على منابر الإعلام الثقافي خلال سنوات الثمانينيات، حيث كانت الصحافة المكتوبة، والمسموعة والمرئية، وجميع المهرجانات والمؤتمرات والندوات تضع الثقافة ضمن إستراتيجية الفعل الثقافي العام للبلاد، لكنّها -حسب رأيه دائماً- أصبحت اليوم لا تحمل أيّة مضامين ثقافية قويّة، واقترنت بأبعاد تجارية، باِستثناء بعض الطفرات التي تحمل أفكارا وتطلعات ومشاريع ثقافية كُبرى. وفي الأخير تحدث عن أدب المنفى، وذهب في تحليله إلى أنّ العرب لم يدرسوا ظاهرة أدب المنفى بوضوح وجدية وإنصاف، رغم اِستعمال «مصطلح المنفى» ولم يُنظّروا له أو يُعّرفوا به بشموليّة وبعُمق وبطريقة علميّة. حاورته/ نوّارة لحرش كثيرا ما تُطرح أسئلة ويتكرر طرحها عن مهمة المُثقف. وهل بالضرورة التكلم باِسم الجماعة والمجتمع وحمل قضايا وطنية وكونية على عاتق كتاباته وأفكاره وإشتغالاته/وانشغالاته الأدبية والفكرية؟ بوزيد مومني: المثقفون أنواع، منهم من وضع نفسه في ذلك القصر العاجي ويرى أنّه صاحب شهادات علمية يقتصر دوره في الظهور الإعلامي والفني والأدبي، ومن الاِبتذال والتحقير أن ينزل إلى العامة ليشاركهم همومهم واِنشغالاتهم ويُوجهها التوجيه الصحيح. وهناك من لا يراه مثقفاً حتّى لو تحلى بهذه الحدود الدنيا إذا لم تنعكس هذه المؤهلات على سلوكه الشخصي وحركته في المجتمع. ومنهم من يذوب في الفوضوية والعفوية التي يتسم بها عامة النّاس فينقاد بدلاً من أن يقود، وهو بالتالي يُشكل خطراً على المجتمع وعلى مفهوم الثّقافة في حد ذاتها، فنجد اِنفصالاً في الأفعال والأقوال، إذ يعرف الحقوق ولا يعمل بها ويعرف الواجبات ويكتبها شعارات على الورق فقط ولا يُناضل لأجلها. ومنهم من رسم لنفسه منهجًا معلومًا وآمن بأنّه صاحب رسالة ركيزتها الوعي والفهم والتفكير الصحيح وسعة الأفق، بغض النظر عن مؤهلاته العلمية ومكانته الاِجتماعية، فهو يقوم بدوره الرسالي في قومه على أكمل وجه، فليس مثقفاً من لا يعرف مشكلات بيئته ومجتمعه ويُقدم لها حلولاً، ويشعر بالمسؤولية تجاه النهوض بمجتمعه والاِستعداد للتضحية في سبيل ذلك. المُثقف إنسان، له آلامه وآماله وتصوراته، يمكنه أن يتكلم باِسمه الخاص إسقاطًا على ما يراه في بيئته الصغيرة والكبيرة. وهو في الحقب الماضية، ذلك الشخص الّذي لا يكتفي بممارسة النشاط الفكري النابع من الوعي والفهم وسعة الأفق فقط، بل هو صاحب رسالة يبحث عن كشف الحقيقة، ويكون شجاعاً في الدفاع عنها، تتحوّل عنده الأفكار إلى نماذج ومُثُل ومبادئ إنسانية عامة، فهو ضمير المجتمع، وهو المُعبر عن آلامه وآماله. إنّ التساؤل المطروح بحدة هو حالة المُثقف الآن؟ بعضهم طرح مقولة «موت المثقف» ويبدو أنّ هذا المصطلح أُستعير من مقولة «موت المؤلف» في إطار البنيوية ثمّ «موت الناقد» في إطار ما بعد البنيوية، وذلك في إطار إحياء دور القارئ في ظل المدارس النظرية التأويلية. المثقف لا يموت وهو حامل قضايا مجتمعه التساؤل المطروح بحدة -كما تقول- حول حالة المثقف الآن. تتوالد عنه أسئلة أخرى، مثل: هل مات المثقف كما مات المؤلف -وفق رولان بارث- وهل مات الناقد؟ بوزيد مومني: هذا مستحيل لأنّ هناك فرقًا بين التأليف والثقافة سواء من حيث التعريف أو من حيث شساعة المدلول للمصطلح الثاني، فالمثقف لا يموت وهو حامل قضايا مجتمعه بفكره وعمله ليكون قائداً له لا أن تقوده الجماهير بعفويتها وفوضويتها، فإن وُجد ما يُسمى بالقارئ الورقي فهناك مثقف ورقي، وإن وُجد القارئ الإلكتروني فهناك مثقف إلكتروني... وهكذا، وإن مات القارئ فالمثقف باق لا يموت. فقد فشل السياسي العربي في توحيد سياسة العرب، وفشل الاِقتصادي في تشكيل سوق عربية مشتركة، وفشل العسكري في تحديد العدو المُشترك... إلاّ أنّنا نجد المثقفين قد نجحوا في توحيد توجهاتهم كاِتحاد الكُتّاب العرب واِتحاد الأطباء العرب واِتحاد المحامين العرب... في الوقت الراهن يحاول المثقف أن يتماشى مع الحياة اليوميّة المعيشة بكلّ متغيراتها وضغوطاتها، فثمّة أنواعٌ من المثقفين تتفاوت تصوراتهم لأدوارهم كنخبة تستطيع التغيير، بحجة طبيعة اِقترابهم أو بعدهم عن السلطة أو النظام، لكن المشكلة أنّهم سعوا لكي يكونوا جزءا من السلطة في حد ذاتها، مِمَّا أثر في وظيفتهم الأساسية والنبيلة، وهناك مثقفون كانوا راغبين فعلاً بالقيام بهذا الدور النقدي التوجيهي التوعوي، إلاّ أنّ ضغط الحياة اليومية، وتوحش أدوات القمع، وسوء التقدير... قد أثمرت فشلاً ذريعًا للمهمة الرسالية التي نذر لها المثقف نفسه على صعيد الخطاب والنظرية. سيظل هناك مثقفون يتمتعون بالمصداقية والجرأة على قول الحقيقة لكن أصواتهم، في ظل هيمنة الإعلام والإعلام المضاد، ستظل ضعيفة ولن تستطيع الوصول إلى آذان النّاس وسط الصخب والضجيج الّذي يتعالى حولها ويكاد إلجامها. نُخَبنا تبحث عن مكاسب آنية لا تقدّم إضافة في المشهد الثقافي هذا يقودنا إلى التساؤل عن مدى وجود ما يُسمى بالنخبة الثقافية القادرة على صنع واحتواء وتفعيل وإثراء المشهد الثقافي وبعثه على أفق متعدّد؟ وهل النخبة الحقيقية والفاعلة هي المتواجدة في المنابر الإعلامية والمهرجانات والمؤتمرات والصالونات، أم هي التي اِختارت العزلة بعيدا عن الأضواء والتكتلات، أم هي مهمشة بشكل أو بآخر، ولا تظهر بالشكل الّذي يسمح لها أن تتبوّأ الحياة الثقافية بأريحية وحرية؟ بوزيد مومني: لكلّ مجتمع نخبته أو صفوته، وهم نتاجه الفكري والعلمي المعبّر عن هموم الأمة والشعب وتطلعاته، المدركين لدور الحرية الفكرية في إنسانية الإنسان. والجزائر كغيرها من المجتمعات لها نخبتها الثقافية والتي لا تقتصر على الأكاديميين، من جامعيين وأُدباء وشعراء وفنانين بمختلف تصنيفاتهم، بل يمتد ذلك ليشمل البعض من رجال الدين وعلمائه المتنورين الذين يتماشون في أفكارهم مع التطور الزمني والحِراك الاِجتماعي وما إلى ذلك الكثير، ولكنهم في أغلبهم بعيدون كلّ البُعد عن المنابر الإعلامية والمهرجانات والمؤتمرات والصالونات... وذلك إمّا: بسبب التهميش والتغييب الّذي طالهم، لأنّهم يشكلون عوائق كثيرة أمام بعض السياسات العامة، وخاصة أمام كلّ من هو بعيد كلّ البُعد عن الثقافة وشقيقاتها، فلسياسة الكبت الفكري دورٌ بلا شكّ في اِحتقان المشهد الثقافي كما نعايشه راهنًا، ولكن الحديث عن سياسة ثقافيّة في حدّ ذاتها دون وصلها بالسياسة العامّة مدعاة إلى حصر المسألة في بعد أحادي هو الصّراع على مواقع ثقافيّة، وهذا من شأنه النّظر إلى الثقافة وكأنّها بنية مستقلّة عن حواملها الاِجتماعيّة الاِقتصاديّة. أو بسبب وجودهم خارج الوطن، ويعيشون في بحبوحة من الحرية في البلد المضيف، أو يعود السبب أيضا إلى النخبة المثقّفة في حدّ ذاتها، التي تفضّل العزلة ومراقبة المشهد من بعيد، وأصبحت للأسف الشديد «نخبة عادية» لا تختلف عن «النّخب الأخرى» تبحث عن مكاسب آنية زائلة لا تقدّم إضافة في المشهد الثقافي. تبقى الحرية الفكرية هي أكسجين المثقف ورأسماله، وبالمقابل هي السمّ القاتل والطعم الحنظل لكلّ أعداء الحرية بصفة عامة، ولهذا يبقى الصراع قائما بينها على اِحتواء المشهد الثقافي وبعثه على أفق متعدّد. النخبة الثقافية بكلّ أسف ليست صاحبة القرار وغير موجودة في المنابر الإعلامية المختلفة وماذ عن النخبة التي تنشأ على منابر الإعلام؟ بوزيد مومني: لقد تراجعت -على سبيل المثال- النخبة التي نشأت على منابر الإعلام الثقافي خلال سنوات الثمانينيات، حيث كانت الصحافة المكتوبة، والمسموعة والمرئية، وجميع المهرجانات والمؤتمرات والندوات تضع الثقافة ضمن إستراتيجية الفعل الثقافي العام للبلاد، لكنّها أصبحت اليوم مجرّد صفحات، أو ومضات أو اِجتماعات أو حلقات مملة أغلبها لا تحمل أية مضامين ثقافية قويّة، واقترنت بأبعاد تجارية وإشهارية، باِستثناء بعض الطفرات التي تحمل أفكارا وتطلعات ومشاريع ثقافية كُبرى. كما لا ننسى الواقع المتأزم بين المثقفين أنفسهم، فصار الاِستفزاز والغيرة والحسد من أبرز سِماتهم وأضحى تبادل التُهم واحتكار الحقائق من هذا الطرف أو ذاك علامتَه الواضحة. إنّ النخبة الثقافية موجودة في الجزائر، وقادرة على اِحتواء المشهد الثقافي وبعثه على أفق متعدّد، لأنّها تحمل مشروع مجتمع مثقّف، لكن بكلّ أسف ليست صاحبة القرار وغير موجودة في المنابر الإعلامية المختلفة، ولا تظهر بالشكل الّذي يسمح لها أن تتبوّأ الحياة الثقافية بأريحية وحرية وهذا للأسباب التي ذكرناها سابقا. تحدثتَ قبل قليل عن المُثقف الموجود خارج الوطن والّذي -كما قلت- «يعيش في بحبوحة من الحرية في البلد المضيف». ما هي وجهة نظرك أو رؤيتك حول أدب وكتابة المنفى والمهجر؟ بوزيد مومني: المنفى والمهجر هما اسما مكان على وزن مفعل بفتح الميم والعين لأنّ الفعل (نفى) مُعتل الآخر، والفعل (هجر) صحيح الآخر ومضارعه مفتوح العين، وقد يغوصان في المكان أو عن المكان. يختلف أدب المهجر عن أدب المنفى اِختلافًا واضحًا إذ نجد الأوّل حبيس نفسه في الدلالة الجغرافية، أمّا الثاني فهو منفتح على سائر قضايا المنفى في العالم. فالهجرة قد تعني المغادرة أو ترك المكان الأصلي إلى مكان آخر، لا كعقوبة، وإنّما عن طواعية لأسباب عديدة، كالبحث عن مكان أفضل للعيش، أمّا النفي فهو الخروج عنوّة أو الإبعاد، أو الطرد، أو الترحيل. كما اُستخدمت كلمة «تهجير» لأغراض سياسية وقومية ودينية واقتصادية. كأن يُراد بها تغيير الطبيعة الديموغرافية لمنطقة من المناطق كما حدث، مثلا، لأولاد تبّان عند ترحيلهم إلى محتشد بلدية بازر سكرة في 16 جوان 1958 من طرف المستدمر الفرنسي للقضاء على الثورة التحريرية. ولكن أيّة إقامة أخرى خارج الوطن مُستندة على أسباب ودواعٍ أخرى كالبحث عمّا هو أفضل، تُعدُّ هجرةً وأدبُها أدبَ مهجر. كما هي الحال بالنسبة لجبران خليل جبران وإيليا أبي ماضي وميخائيل نعيمة... فقد أصبح وقفاً على مرحلة تاريخية معينة ومدرسة أدبية محدّدة، وبات جزءاً من تراث يجب وضعه على محك النقد الموضوعي، بينما نجد المفكر إدوارد سعيد في كتابيه «تأملات حول المنفى» و»خارج المكان» وهو سيرته الذاتية المكتوبة في المنفى. وقد يكون هذا البحث حول أدب المنفى من أهم ما كُتب في هذا الحقل أدبياً، نظراً إلى شموليته وتعمقه واعتماده النقد المُقارن. يمكنُ النظر إلى المنفى بنظرتين: نظرة داخلية وأخرى خارجية، فالمنفى الداخلي كأن يُنفى شخصٌ ما من مكانه الأصلي إلى مكان آخر أبعد داخل الوطن نفسه عقابًا له من جهة وإبعاداً له عن ممارسة التأثير في محيطه من جانب آخر، أو كأن يَعزل أو ينفي الفرد نفسه عن محيطه بحيث يعيش عزلة طوعية، كما يحدث للرهبان والمتصوّفة وبعض الكُتّاب والفنانين، أو أن يُعزَل وفقًا لِمَا يُسمى ب»الإقامة الجبرية». أمّا المنفى الخارجي، فقد يكون ذا طبيعة مُباشرة، يتم من قبل جهة رسمية أو شبه رسمية، بحق فرد غير مرغوب فيه بسبب نشاطاته الثقافيّة أو السّياسيّة أو الفكريّة أو الدّينيّة، أو أن يكون منفى اِختياريًا طوعيًا، كأن يقوم به الفرد هربًا من وقوع ما هو أسوأ: كالمُلاحقة والاِضطهاد، أو تخلصًا من صراعات قوميّة أو دينيّة وطائفيّة.. العرب لم يدرسوا ظاهرة «أدب المنفى» بوضوح وجدية رغم اِستعمال «مصطلح المنفى» مصطلح «أدب المنفى»، واحد من المصطلحات الإشكالية في مجال وعالم النقد والكتابة والآداب عموماً، لكنّه ربّما لم يتم تناوله ودراسته والحفر فيه كما يلزم في السياق العربي؟ بوزيد مومني: لقد دخل مصطلح «أدب المنفى» إلى تاريخ الأدب العالمي لأوّل مرّة أثناء الحُكم النازي لألمانيا حيث اِضطرت مجموعات من الكُتّاب الألمان للعيش في المنفى، وتمت فيما بعد مُتابعة أعمالهم ونشاطاتهم ودراستها ضمن ظرفها وشروطها التاريخية. بينما لم يدرس الأدب العربي الحديث ولا نقده، بدقة ومنهجية، نتاج الشعراء والكُتّاب العرب في الخارج على أنّه أدب منفى، بل تعامل معه -في الغالب- على أنّه أدب مغتربين ومهجريين. ولهذا السبب جرى الخلط بين المنفي واللاجئ والمُهاجر أو المُقيم في الخارج بحكم وظيفته وعمله، فنجد أنّ العرب لم يدرسوا ظاهرة أدب المنفى بوضوح وجدية وإنصاف، رغم اِستعمال «مصطلح المنفى» ولم يُنظّروا له أو يُعّرفوا به بشموليّة وبعُمق وبطريقة علميّة. إنّ الكاتب العربي حينما يعيش منفيًا في بلد عربي يكون منفاه أخفّ وطأةً فيما لو عاش في الغرب، فلقد تعرض أغلبهم إلى تحطيم شخصيتهم الثّقافيّة وهويتهم القوميّة وقِسمٌ منهم كان لا يحسن الكتابة إلاّ بلغة المنفيين عندهم. ولكن طالما أنّ هذا الكاتب يشعر أنّه «منفي» ولا يمكنه العودة إلى وطنه، فإنّ المنفى يبقى جرحًا نازفًا، ويبقى الإحساس بوطأته قاتمًا وقاسيًا، ويتأرجح المنفي بين الحُلم بالعودة والبقاء في المنفى.