التقلبات الجوية عبر ولايات الوطن..تقديم يد المساعدة لأزيد من 200 شخص وإخراج 70 مركبة عالقة    وزير البريد والمواصلات السلكية واللاسلكية يشدد على نوعية الخدمات المقدمة وتعزيز استعمال الدفع الإلكتروني    حريصون على احترافية الصحافة الوطنية    حزب العمال يسجل العديد من النقاط الايجابية في مشروعي قانوني البلدية والولاية    الرئيس يستقبل ثلاثة سفراء جدد    قافلة تكوينية جنوبية    تراجع صادرات الجزائر من الغاز المسال    فرنسا تتخبط    الجزائر تطالب بإعادة إعمار غزّة    هل يُعاد إعمار غزّة؟    المولودية على بُعد نقطة من ربع النهائي    مرموش في السيتي    نعمل على تعزيز العلاقات مع الجزائر    أمطار وثلوج في 26 ولاية    إحياء الذكرى ال70 لاستشهاد البطل ديدوش مراد    بلمهدي: هذا موعد أولى رحلات الحج    بسكرة : تعاونية "أوسكار" الثقافية تحيي الذكرى ال 21 لوفاة الموسيقار الراحل معطي بشير    كرة القدم: اختتام ورشة "الكاف" حول الحوكمة بالجزائر (فاف)    كرة القدم/ رابطة أبطال افريقيا /المجموعة 1- الجولة 6/ : مولودية الجزائر تتعادل مع يونغ أفريكانز(0-0) و تتأهل للدور ربع النهائي    ري: نسبة امتلاء السدود تقارب ال 35 بالمائة على المستوى الوطني و هي مرشحة للارتفاع    تطهير المياه المستعملة: تصفية قرابة 600 مليون متر مكعب من المياه سنويا    حوادث المرور: وفاة 13 شخصا وإصابة 290 آخرين خلال ال48 ساعة الأخيرة    خدمات الحالة المدنية لوازرة الخارجية كل يوم سبت تهدف إلى تخفيف الضغط وتحسين الخدمة الموجهة للمواطن    مجلس الأمن الدولي : الدبلوماسية الجزائرية تنجح في حماية الأصول الليبية المجمدة    الذكرى ال70 لاستشهاد ديدوش مراد: ندوة تاريخية تستذكر مسار البطل الرمز    تجارة : وضع برنامج استباقي لتجنب أي تذبذب في الأسواق    الجزائرتدين الهجمات المتعمدة لقوات الاحتلال الصهيوني على قوة اليونيفيل    كأس الكونفدرالية: شباب قسنطينة و اتحاد الجزائر من اجل إنهاء مرحلة المجموعات في الصدارة    العدوان الصهيوني على غزة : ارتفاع حصيلة الضحايا إلى 46899 شهيدا و110725 جريحا    تقلبات جوية : الأمن الوطني يدعو مستعملي الطريق إلى توخي الحيطة والحذر    منظمة حقوقية صحراوية تستنكر بأشد العبارات اعتقال وتعذيب نشطاء حقوقيين صحراويين في مدينة الداخلة المحتلة    اتحاد الصحفيين العرب انزلق في "الدعاية المضلّلة"    الأونروا: 4 آلاف شاحنة مساعدات جاهزة لدخول غزة    دخول مركب "كتامة أغريفود" مرحلة الإنتاج قريبا    وزير الاتصال يعزّي في وفاة محمد حاج حمو    اقرار تدابير جبائية للصناعة السينماتوغرافية في الجزائر    التنفيذ الشامل لاتفاق السلام لتحقيق المصالحة الوطنية في جنوب السودان    رقمنة 90 % من ملفات المرضى    الجزائر تستضيف طبعة 2027 من المنافسة القارية    بشعار "لا استسلام للخضر" في مباراة الحظ الأخير    مسابقة لاختيار أحسن لباس تقليدي    تعيين حكم موزمبيقي لإدارة اللقاء    قتيل وستة جرحى في حادثي مرور خلال يومين    توقيف 3 أشخاص بحوزتهم 692 قرص مهلوس    بلعريبي… وزارة السكن تطلق حملة لمكافحة التغييرات العشوائية في السكنات    وزير العدل يشرف على تخرج الدفعة ال27 من الطلبة القضاة في القليعة    بلمهدي يزور المجاهدين وأرامل وأبناء الشهداء بالبقاع المقدّسة    جائزة لجنة التحكيم ل''فرانز فانون" زحزاح    فكر وفنون وعرفان بمن سبقوا، وحضور قارٌّ لغزة    المتحور XEC سريع الانتشار والإجراءات الوقائية ضرورة    بلمهدي يوقع على اتفاقية الحج    تسليط الضوء على عمق التراث الجزائري وثراء مكوناته    وزير الثقافة يُعاينُ ترميم القصور التاريخية    كيف تستعد لرمضان من رجب؟    ثلاث أسباب تكتب لك التوفيق والنجاح في عملك    الأوزاعي.. فقيه أهل الشام    نحو طبع كتاب الأربعين النووية بلغة البرايل    انطلاق قراءة كتاب صحيح البخاري وموطأ الإمام مالك عبر مساجد الوطن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عن الموسيقى والغناء العربي في زمن التحولات
نشر في النصر يوم 16 - 01 - 2012


حناجر ومزامير الثورة
عمر بوشموخة
ما يدفعني الى الحديث حول هذا الموضوع ما تتعرض له الثقافة العربية ممثلة في جانب من عبقريتها، ونعني بذلك عبقرية الموسيقى العربية، وجمالية الغناء العربي من هدم وتشويه وتشويش، على أيدي بعض أبناء الثقافة العربية أنفسهم، أحيانا باسم التطرف الديني الذي لا ينظر الى الموسيقى الا من زاوية كونها مزمارا للشيطان، وحينا بحكم الجهل وقصور في الفهم، وغياب الذوق الراقي السليم للفن الغنائي والموسيقى وأخطر ما في القضاية، أن الموسيقى ليست سوى وسيلة للترفيه والطرب والترويح عن النفس وهي –تبعا لذلك- تعتبر عاملا من عوامل الهدم الحضري للأمم والمجتمعات، بل إن البعض من المؤرخين يذهبون الى أن سقوط الحضارة العربية في الأندلس، كان من بين أسبابها الموسيقى والغناء والشعر والطرب، وهو الأمر الذي دفع واستلزم القائمين على تنظيم ملتقى الفكر الاسلامي التاسع، الذي احتضنته مدينة تلمسان الجزائرية منتصف السبعينات من القرن المنصرم، أن يخصصوا جزءا من محاضرات وأعمال الملتقى للإجابة عن السؤال:
-هل كان الشعر والفن والغناء من عوامل سقوط الحضارة العربية والاسلامية في بلاد الأندلس بعد ثمانية قرون من الاشعاع والتوهج؟...
وكان لا بد لموضوع خطير كهذا، أن يثير نقاشا حادا بين عديد الأطراف المشاركة في الملتقى، وأن تشحذ الأسلحة، وأن تشرع الأقلام، وترتفع الأصوات، إن بالتأييد، أو بالاعتراض، إن بالدفاع عن الشعر والفن، أو بالهجوم والتطرف.
ولعل المقام هذا يلزمني بالتذكير ببعض ما جاء في هذا السياق من شاعرين عربيين، كانا من المشاركين في الملتقى بقصائدهما الشعرية، في محاولة للتدليل على صحة وجهة نظره وقوة حجته، في الادلاء برأيه في المسألة.
الشاعر الذي دافع باستمامة كبيرة عن الشعر والفن الغنائي، فكان الشاعر "صالح جودت" أحد شعراء جماعة "أبولو" الشعرية التي تأسست في مطلع الثلاثينيات من القرن الماضي، وأحد الشعراء الكبار الذين تغنى بقصائده الشعرية الغنائية كبار الفنانين العرب، على سبيل المثال، فقد غنت له الراحلة "أم كلثوم" قصيدة "الثلاثية المقدسة" التي أبدع في تلحينها الموسيقار "رياض السنباطي" وغنى له الموسيقار فريد الأطرش":
يا زهرة في خيالي .. راعيتها في فؤادي ...
جنت عليها الليالي ... وأذبلتها الأيادي
ففي قصيدة يزيد عدد أبياتها عن سبعين بيتا، وقف الشاعر "صالح جودت" أمام جمهور الحاضرين فألقى قصيدته التي لا يكفي أن نقول عنها أنها "جميلة" فحسب، ولكن يمكن أن نقول عنها أنها تصلح أن تعلق كقلادة من الذهب الخالص على صدر مدنية "تلمسان" التي قيلت فيها القصيدة تلك، حيث يقول مطلعها:
من زانها باللمحات الحسان ومن كساها الخز والطيلسان
ومن غذاها من عبير الربى ومن سقاها من عيون الجنان
وأصبحت في الغرب زين القرى ونافست بغداد والقيروان
وانطلاقا من ايمانه الراسخ بقيمة الموضوع، فقد وضع لقصيدته عنوانا ينم عن معتقده القوي إزاء الفن الغنائي والشعر العربي، فاختار أن يكون العنوان: "دور الشعر والفن في تعزيز أخلاق الأمة وانحلالها"...
فبعد أن يعطي "تلمسان" ما تستحقه من المديح والاطراء ينتقل الى صلب الموضوع، ليبرز قيمة الفن والشعر في حياة الأمة قائلا:
والله، لا السيف على بأسه ولا جلال الملك والصولجان
فكل هذا عرض زائل
والفن والشعر هما الباقيان
فما جمال العيش لولاهما
وراحة الروح وأنس الجنان
وجهان من إشراقة الخلد
لم يأت بأحلى منهما الأصغران
لو اغتربنا عن مغانيهما
تقتلنا بعدهما الغربتان
وحببا فينا، كما حببت
في جنبات الكعبة الصخرتان
الفن، تستقبل من لطفه
وجه الربيع الطلق في كل آن
لولاه لم تخطر ينا فرحة
ولا زها عرس ولا مهرجان
ما هدهد القلب صداح المنى
وغرد الطير على غصن بان
ما أجدب الأيام إما خلت
من نغمات الكردو الاصفهان
وبئس ليل ما به آهة
من أم كلثوم ومن اسمهان
ويا هناء الروح إما انتشت
برئة العود وسحر الكمان
بعدهما تحلو الليالي
كما تحلو صلاة الفجر بعد الآذان...
***
وبعد التصفيقات الحارة التي قوبلت بها قصيدة الشاعر "صالح جودت" قام الشاعر الأردني "يوسف العظم" ليعترض على ما ذهب اليه الشاعر "جودت" من دفاع عن الفن والغناء فألقى أمام الحضور قصيدة فيها من الاستفزاز والهجوم، اختار لها عنوانا مثيرا للانتباه وهو:
"خدريهم يا أم كلثوم" وقدم لها بكلمة جاء فيها:
"يقولون: إن أم كلثوم ظاهرة فنية عجيبة ...
وأضيف: ظاهرة تخديرية رهيبة
ما أصابتنا كارثة، أو حلت بيننا مأساة، الا وراحت تغني لليل والخمر والحب الضائع.. حتى في أعقاب الكارثة المدمرة في الخامس من حزيران وقفت تغني للمترقين والدم البريء يسيل في كل رابية، والعار الأسود يجلل جباه المخدرين والمخدرات ممن راحت تصفع وجوههم ولا يشعرون: هذه ليلتي وحلم حياتي..."
فبعد هذا التقديم الذي يبدو مستفزا للمدافعين عن الفن والموسيقى، يشرع الشاعر في إلقاء قصيدته معلنا ثورته وسخطه على كوكب الشرق الفنانة أم كلثوم باعتبارها رمزا للعبقرية الفنية التي أضاعت العرب وخدرته، وألهتهم، عن القضايا المصيرية وفي مقدمة ذلك قضية "فلسطين" فيقول مخاطبا "أكلثوم" أمام الحشود الحاضرة والمشاركة في الملتقى المذكور:
"كوكب الشرق" لا تذوبي غراما
ودلالا وحرقة وهياما
لاو لا تنفثي الضياع قصيدا
عبقريا أو ترسلي الأنغاما
فدماء الأحباب في كل بيت
تتنزى وتبعث الألاما
وجراح "الأقصى" جراح الثكالى
ودموع "الأقصى" دموع اليتامى
وإذا الشعر بكؤوس تغنى
و"النواسي عانق الخياما (1)
وأنين ليلتي وحلم حياتي
لم تحطم في فجرها الأصناما
لا تغني الخيام يا كوكب الشرق
وتسقي من راحتيه المداما
ففلسطين لا تريد سكارى
وربي القدس لا تحب النياما
كوكب الشرق، ضاع قومي لما
تاه في حبك القطيع وهاما
ناوليهم من راحتيك كؤوسا
وامنحيهم من ناظريك ابتساما
واجعلي الفن ردة وضياعا
لا أحاسيس أمة تتسامى
ودعيهم في كل واد يهيمون سكارى،
ونكسي الأعلاما
خدريهم باللحن يا كوكب الشرق
وصوغي من لحنك استسلاما
ويزداد الموقف ضد الفن الغنائي حدة، ماكانت بعض الأقلام الصحفية تنفثه من سموم وعداء ضد رموز العبقرية الفنية العربية، خاصة تلك الموجهة لشخص الفنانة "أم كلثوم" ، حيث تتهمها تلك الأقلام بتخدير الجماهير العربية، بل تذهب أبعد من ذلك حين تتهمها بأنها كانت المسؤولة عن إلحاق الهزيمة بالعرب في مواجهة العدو الاسرائيلي...
ومن أمثلة تلك الحرب العدائية غير البريئة، ما تناولته بعض الصحافة العربية، أذكر هذه القصاصة المقتطعة من تلك الجرائد، أعرضها هنا كنموذج مصغر، لصورة مكبرة من مواقف العداء والتطرف ضد الفن والموسيقى.
"في حرب العاشر من رمضان 1973 تحطمت دبابتان: إسرائيلية – وعربية، فوجدوا أن طاقم الدبابة اليهودية، يحمل قائده نسخة من التوراة، أما قائد الدبابة العربية فيحمل صورة بالألوان لأم كلثوم... لذلك انهزمنا نحن... وانتصر واهم..." ومافتئت تلك الأقلام الصحفية المسمومة، تختار رموز الإبداع الفني العربي، فيقول أحد أصحاب تلك الأقلام، أن محمد عبدالوهاب وعبدالحليم حافظ وفريد الأطرش ما فتئوا يقيمون الدنيا ويشغلون الناس، ومايزالون يزعجوننا، وهم في قبورهم أمواتا (...)
وواضح أننا لسنا هنا في معرض الدفاع عن الفن والموسيقى العربية، لأن ذلك أخذ نصيبه الأوفر من الأقلام العربية المنصفة التي تنظر إلى روائع الابداع الغنائي العربي، كمظهر من مظاهر العبقرية العربية، بل كرمز لعلو شأن العرب وعبقرية الشرق في مواجهة العرب. إن كان الأمر كذلك، كما يزعم أعداء الفن عندنا، فلماذا يقدس العرب رموز الفن والموسيقى عندهم؟....
ولماذا يحظى "موزارت" و"بيتهوفن" و"فيردي" و"باخ" و"تشايكوفسكي" و"فيفالدى" وأمثالهم بتلك الهالة من الاحترام والإعجاب والتقديس، ولم يتهمهم قومهم بتلك النعوت التي تنعت بها موسيقانا العربية التي أفاضت على الكون سحر الشرق وعبقرية الإبداع العربي؟؟؟...
لاشك أن من يلقون التهمة الباطلة بطلانا كاملا على موسيقانا العربية ونعتها بالانهزامية والتفسخ، ينطلقون من خلفية ضيقة جدا، أو من خلفية حاقدة تصب في مصلحة أعداء الأمة، جاهلين أو متجاهلين دور الموسيقى العربية في استنهاض الشعوب العربية واستلهام القيم الثورية الداعية إلى التغيير، وإلى حشد الهمم، في مقارعة الاستعمار الأجنبي، والثورة على الدكتاتورية، وعلى الاستبداد المحلي...
ولعلي لست بحاجة الى التذكير، بما جرى ويجري، في الساحة العربية، فيما يعرف ب"ربيع الثورات العربية" حيث رأينا كيف تواكب الموسيقى العربية حشود الثوار والمنتفضين من كل الشرائح الاجتماعية والشعبية، والحناجر تردد في حماس منقطع النظير تلك الأغنيات، في مواجهة الرصاص في الساحات والشوارع، في المدن والقرى، رأينا كيف أن الشعب التونسي الأعزل من أي سلاح إلا سلاح "إذا الشعب يوما أراد الحياة..." التي كانت قد غنتها وترنمت بها الفنانة المصرية "ّسعاد محمد" من ألحان الموسيقار "رياض السنباطي"، وكيف أن أرض الكنانة اهتزت وربت تحت صيحات وحناجر الشعب المصري، وهو لا يفتأ يردد أغنيات كوكب الشرق:
"أنا الشعب لا أعرف المستحيلا ولا أرتضي بغير الخلود بديلا"
أو:
أنا إن قدر الإله مماتي لا ترى الشرق يرفع الرأس بعدي
من أغنية "مصر تتحدث عن نفسها" للشاعر "حافظ ابراهيم"...
بل رأينا كيف أن "محمد عبدالوهاب" مازال يلهب الجماهير المصرية في ميدان التحرير وفي سائر المدن المصرية، بأغنيته الخالدة "دعاء الشرق"
"أرضه لم تعرف القيد ولا خفضت إلا لباريها الجبينا"
وكانت أغنيات الشيخ "سيد درويش" والشيخ إمام قد عادت بقوة إلى الشارع المصري وكأن الأمر يتعلق برد الاعتبار للموسيقى العربية، والتأكيد على الدور الفعال لها في مواكبة الثورات العربية المعاصرة، سواء في مقارعتها للاستعمار والاستيطان الأجنبي أو في زعزعة عروش الاستبداد والاستكبار والدكتاتورية الجاثمة على صدور الشعوب العربية المضطهدة...
فهل من المنطق والعقل أن نتنكر لدور الغناء والموسيقى في حشد المجاهدين الجزائريين ضد الاستعمار الفرنسي، حين غنت الفنانة "وردة الجزائرية" إبان الثورة التحريرية أغنية "نداء الضمير" من قصيدة للشاعر الجزائري "صالح خرفي" ولحن "رياض السنباطي" ومنها قولها:
ذكريات الأمس لم تبرح خيالي كيف تغفو مقلتي عن حبنا عبر الليالي
والتي تختتم بأمل حرية الجزائر واستعادة الاستقلال:
لك حبي يوم تعلو بسمة النصر ثرانا
ويذيب الليل والآلام فجر من دمانا
سوف ألقاك مع النصر وأفراح البشائر
سوف نبني عشنا في ظل تحرير الجزائر!!
فهل من العجب أن يتجاوب أزيز الرصاص في أوراس الثورة، مع جلجلة صوت الفنانة "وردة الجزائرية"؟ ! .. وهل من الغرابة أن يتزامن ظهور صاحبة هذا الصوت القوي، مع اندلاع الثورة التحريرية المظفرة، حيث يتعانق الصوت والصدى، ويرتسم في الأفق اسم الجزائر خفاقا معلنا ميلاد ملحمة الأوراس الشامخة؟!...
حيث ارتبط صوت "وردة الجزائرية" منذ أول ظهور فني لها على الساحة الغنائية العربية، بالثورة الجزائرية، بل إنه لم يعرف عنها أنها غنت لغير القضية الجزائرية، طوال السنوات التي سبقت الاستقلال الوطني، وهي السنوات التي تألقت فيها ابنة الجزائر كفنانة، احتضنت لهيب الثورة بكل كيانها، ووهبت صوتها ليكون رديفا لصوت الرصاص من بنادق الثوار في جبال الأوراس وفي كل أحراش الجزائر، إيمانا منها بأن رسالة الفن والموسيقى لا تقل أهمية وخطورة عن رسالة الجهاد بالبندقية والرشاش!!
***
أما الموسيقار "فريد الأطرش" فقد كرس عبقريته في العديد من الأغاني والألحان سواء تلك التي أداها بصوته، أو تلك التي أداها مطربون آخرون... فمن الأغنيات التي وضع لحنها الموسيقار الحزين، أغنية "زهرة من دمنا" التي كتبها الشاعر "بشارة الخوري" في أعقاب ثورة فلسطين سنة 1948، وكان من المرتقب أن تؤدي هذه الأغنية الفنانة "أم كلثوم" في أول لقاء فني بين العملاقين، ولكن هذا الحلم الذي كانت تنتظره الجماهير العربية بشغف كبير، لم يتحقق، واضطر "فريد الأطرش" أن يؤدي لحنه بصوته، مفصحا عن موقفه إلى جانب قضية فلسطين، حيث يقول مطلع الأغنية:
سائل العلياء عنا والزمانا..
هل خفرنا ذمة مذ عرفانا..
المروءات التي عاشت بنا..
لم تزل تجري سعيرا في دمانا..
لقد غنى فريد الأطرش للقضايا بالقومية، وللثورات العربية، وسجل العديد من الأغاني والألحان التي تعبر عن موقفة إزاء القضية الأم، قضية فلسطين، باعتبارها نكبة عربية مشتركة، وقد غنت له في هذا الصدد الفنانة "فايزة أحمد" إحدى أجمل الحانه عبارة عن حوار بين فدائي فلسطيني وأخته، يقول مطلعها:
أختك الحرة ثارت..
وعلى دربك سارت..
إنها تحفظ عهدك..
لست في الميدان وحدك!!
والسجل الفني والغنائي للفنان "فريد الأطرش" حافل بالألحان والأغنيات التي تتغني بالأمجاد والانتصارات العربية، في مواجهة التحديات التي تقف في وجه التقدم والتحرر والإنعتاق!!
***
والآن الجرح الفلسطيني، ما أنفك ينزف في الضمير العربي دون توقف، فقد دفع الوسيقار، "محمد عبد الوهاب" إلى تقديم أجمل ما تخبئه عبقريته الفنية عبر مراحل حياته، التي عاصرت أجيالا وأجيالا، حيث يعد مثالا حيا، وصورة تاريخية صادقة للأمة العربية التي ينتمي إليها، ومن يقرأ ديوانه الغنائي والموسيقى، فسوف يجد فيه من البصمات والأحداث التاريخية العربية، ما يجعل منه جزءا هاما من تاريخ أمة، ومن ملحمة شعب، وهو الفنان العربي الأكثر تعايشا ومواكبة لأبرز المحطات التاريخية في حياة أمته العربية، فقد واكب الأحداث والثورات، وعايشها بإحساسه و وجدانه، ودونها في تأليفه الغنائية والموسيقية، لتخلد مع الأيام والسنين، ولعل قضية فلسطين كانت الأشد حضورا في تراثه الغنائي، فصاغ فيها أروع قرائحه وألحانه، ومن أبرزها أغنية "فلسطين تحميك من الصدور" للشاعر "علي محمود طه" والتي يقول فيها:
أخي جاوز الظالمون المدى فحق الجهاد وحق الفدا..
انتركهم يغصبون العروبة مجد الأبوة والسؤددا..
وليسوا بغير صليل السيوف يجيبون صوتا لن أو صدى..
فجرد حسامك من غمده فليس له بعد أنا يغمدا..
وغنى موسيقار الشرق للمسجد الأقصى، الأسير تحت نير العدو الإسرائيلي، ألا وهي أغنيته المؤثرة جدا في نفس كل عربي:
أيها الساري إلى مسرى النبي...
ونبي الوطن المغتصب...
هل على الصحراء من أعلامنا...
مطلع الشمس مأوى الكوكب!!
كما غنت له أم كلثوم من قصيدة للشاعر "نزار قباني" أغنية "أصبح الآن عندي بندقية والتي يقول مطلعها:
أصبح عندي الآن بندقية
إلى فلسطين خدوتي معكم
إلى ربي خزينة كوجه المجدلية
إلى القباب الخضر والحجارة النبية
عشرين عاما وأنا أبحث
عن أرض وعن هوية...
وقد تغنى محمد عبد الوهاب – سواء بصوته أو مكتفيا بألحانه – بمعظم الأحداث والثورات العربية، بما في ذلك الثورة الجزائرية...
***
لم يكن اللحن والأغنية بمنأى عن هموم الإنسان العربي إبان حقبة الاستعمار الأوروبي، الذي ألقى بظلامه وبطشه على رقعة الأرض العربية، من المحيط إلى الخليج، بحيث لو تصفحنا المسار التاريخي لأبرز عمالقة الموسيقى والغناء في الوطن العربي الكبير، سوف نكتشف مدى تعلق الفنان، والتزام المطرب والملحن بتراب الوطن، في مواجهة المحتل المغتصب، ونكتشف مواكبة الغناء العربي المعاصر، منذ أوائل القرن الماضي، لمختلف التطورات والثورات والأحداث التاريخية التي عصفت بالمنطقة العربية، بعد تمكن الاستعمار الأوروبي من إحكام قبضته على شعوبها وثرواتها وخيراتها.
وبالرغم من حالة الانحطاط التي فرضها الاستعمار الغربي على البلدان العربية مشرقها ومغربها، فإنه بالمقابل، كان هذا الوضع المزري، دافعا قويا للإبداع الفني والموسيقي، حمل في أعماقه بذور المقاومة والنضال والجهاد ضد الاحتلال والاضطهاد والدكتاتورية...
***
وما يميز الإبداع الغنائي العربي عند كبار الموسيقيين العرب، أنهم استطاعوا أن يتحرروا من الروح الإقليمية الضيقة في ألحانهم وأغانيهم، تنطلق ألحانهم في الفضاءات العربية الشاسعة، ويتجلى ذلك في هذا البعد القوى والوطني الذي تميز به الفنان العربي، الذي ارتفع بالأغنية الوطنية والقومية إلى ذروة الإبداع والإحساس بالجمال، وبالمسؤولية التاريخية، إزاء الوطن، والقضية القومية التي تسكن الوجدان العربي، وتلتصق بالأفئدة والحنايا..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.