البحث عن الجمالية المفقودة يقيم الشعراء ولائم الفرح والرقص على إيقاعات الكلمة، في احتفائهم باليوم العالمي للشعر، فذلك حلم جميل، وحق مشروع لكل شاعر يحمل في أحشائه بقايا حب وعشق لصفاء الكلمة، ورقة العبارة، وجذوة الحرف المرهف، بل ومن جانب الآخرين من قراء الأدب وعشاق الشعر، ومتذوقي هذا الفن الإبداعي الراقي، أن يكون لهم نصيب في الاحتفاء باليوم العالمي للشعر، باعتبارهم جزءا أساسيا في ميلاد النص الشعري ذاته، لكن اليوم، ونحن نلج عتبة القرن الجديد، لابد من طرح سؤال بسيط في شكله خطير في معناه: -أي شعر، أي إبداع يمتلك شرعية الاحتفاء به اليوم، وقد أختلط فيه مفهوم الشعر والشعرية، وسط هذا الزحام والركام من المنصوص والمجموعات الشعرية العربية، في غياب جمهرة القراء والمتلقين!؟ بقلم: عمر بوشموخة وربما يستمد هذا التساؤل شرعيته من تساؤل آخر يبدو أكثر حدة، وهو: -هل ما يزال للشعر العربي في راهن ثقافتنا مكان ودور خليق بأن يرقى غلى عهده القديم كمعبر عن روح الأمة قائد لمسيرة النضال والتحرر والانعتاق؟... لابد أن مثل هذه التساؤلات تجد لها من المبررات والمسوغات لدى غالبية المولعين بالثقافة والأدب من القراء والمثقفين والنقاد، وسط هذا الركام من البضاعة الشعرية الكاسدة في سوق الثقافة العربية الحالية، بصورة تثير الرثاء، وتدعو إلى البكاء وإلى الازدراء في أحيان كثيرة!! إنها الصورة النمطية التي تمثل واقع المشهد الثقافي العربي، كساد كبير في النتاج الشعري على صفحات الجرائد والمجلات، في مقابل إعراض ونفور القراء عن قراءة الشعر الذي يسوق إليهم، وهي مفارقة غريبة حين يكثر عدد الشعراء، ويقل عدد القراء، على عكس ما كانت عليه مملكة الشعر العربية، في سابق عهدها، حين كانت الطوابير على أمسية شعرية لا تختلف عن الطوابير التي كانت معهودة على محلات الخبز أيام النظام الاشتراكي!!. --- في اليوم العالمي للشعر، أصبح البحث عن الشعر هو الجوهر، وإلا لماذا الاحتفال بهذا الفن الأدبي الجميل في غياب النص الشعري الذي يوقظ فينا الإحساس بالفن والجمال والحب!؟. لماذا لا يخصص هذا اليوم العالمي في الوطن العربي، للاحتفال بروائع النصوص والقصائد الشعرية العربية، يوم كان الشعر شعرا، وكان الشاعر العربي نبراسا وهاجا، ينير الطريق المظلم أمام الناس؟!... لماذا لا يخصص يوم للاحتفال بقصيدة «النهر المتجمد» للشاعر المهجري الكبير «ميخائيل نعيمة» المترعة بالجمال، والأفكار المضيئة، والصور الحالمة، واللغة المخملية المطواعية، والانفتاح على الانسانية... لايوجد قارئ واحد يمتلك حاسة الذوق، لم تمتلكه قصيدة الشاعر المهجري، بنغماتها الموسيقية العذبة، ورقة عباراتها، وما تزال تستوطن ذاكرتها بعض أبياتها: يا نهر هل نضبت مياهك فانقطعت عن الخرير؟ أم قد هرمت وخار عزمك فانثنيت عن المسير؟ بالأمس كنت مرنما بين الحدائق والزهور. تتلو على الدنيا وما فيها أحاديث الدهور! بالأمس كنت تسير لا تخشى الموانع في الطريق! واليوم قد هبطت عليك سكينة اللحد العميق! قد كان لي يا نهر قلب ضاحك مثل المروج.. حر كقلبك فيه أهواء وأمال تموج!! ربما يكون من الأجدى، ان نقيم بهذه المناسبة، مراسيم البكاء والعزاء للحالة البائسة التي وصل إليها الشعر العربي، من انحلال وتقهقر، وهذا على أيدي كبار شعراء الحداثة العرب، ممن كان لهم دور في نفور القارئ اليوم من مائدة الشعر الصافي، المحرك لأحاسيس الذوق والفن والجمال!! ماذا لو اختار الشعراء ديوانا شعريا من طراز «اللهب المقدس» ليكون موضوعا يحتفي بقصائده المجلجلة، لتحلق بالقارئ والمتلقي في أجواء ملحمية، يستعيد فيها أمجاد «الذبيح الصاعد» وأناشيد الثورة الملتهبة، وقد كتب قصائده « مفدي زكريا» يذوب كبده، وكان القارئ الملتقى يقرأ أشعارا قد كتبت حروفها رميا بالرصاص؟!! لقد استطاع "اللهب المقدس" أن يكون كتابا مقدسا لثورة وشهداء الجزائر وأن يخلد بقصائده ما عجزت عنه مجموع قصائد شعراء الحداثة العرب، ولم يجد الجندي والمقاتل عائقا للاقتراب من عبقرية الشاعر "أحمد شوقي" القائل: دم الثوار تعرفه فرنسا --- وتعرف أنه نور وحق وللحرية --- بكل يد مضرجة يدق فلا الشاعر عجز عن التعبير عن فكرته الثورية، ولا الجندي المتلقي عجز عن فهم ما تقذف به شاعرية الشاعر، بل إن الكثير من المعارك والانتصارات، ما كانت لتتحقق لولا فضل حماسة القصائد الشعرية التي فاضت بها عبقرية الشاعر، وكان «مفدي زكريا» صادقا حين قال مخاطبا إبنه الجندي في معركة التحرير: أنت جندي ساحات الفدا --- وأنا في ثورة التحرير شاعرا لقد برهنت الأحداث والانتفاضات الأخيرة على الأرض العربية في “تونس” و”مصر” أن صولجان الشعر العربي مايزال مرفوعا يستنهض الشعوب والأمم، بحيث وجدنا قصائد أبي القاسم الشابي المتوفي سنة 1934 تتردد على ألسنة الشعب التونسي الثائر في وجه الاستبداد والطغيان مطلع سنة 2011، وفي أرض الكنانة تفاجئنا قصيدة “حافظ إبراهيم” المتوفي سنة 1932 تتردد في غمرة الثورة المصرية في ميدان التحرير بصوت الراحلة “أم كلثوم” أنا إن قدر الإله مماتي --- لا ترى الشرق يرفع الرأس بعدي من قصيدة “مصر تتحدث عن نفسها” التي لحنها الموسيقار الراحل “رياض السنباطي” وغنتها كوكب الشرق سنة 1951، كما صدحت الجماهير المصرية ومعها الجماهير العربية بقصيدة “دعاء الشرق” للموسيقار “محمد عبدالوهاب” من تأليف الشاعر “محمود حسن إسماعيل”: «أرضه لم تعرف القيد ---ولا خفضت إلا لباريها الجبين» بما يفيد أن المزاعم التي تقول أن زمن الشعر قد ولى إلى غير رجعة أصبح باطلا لا حجة له، والدليل على ذلك الشارع العربي الملتهب ثورة وتمردا على القهر والإستعباد. وللقارئ العربي أن يتساءل في غمرة الإنتفاضات العربية في تونس، مصر، ليبيا، واليمن وفي سائر الأقطار العربية: -لماذا غابت أشعار الحداثيين العرب عن مشاهد هذه الإنتفاضات الشعبية؟! أم أن رموز الحداثة العرب، سوف يرمون الثوار بصفات ونعوت كالأمية والجهل والتحجر العقلي، لكون قصائدهم لم تجد لها موقعا في وجدان الثوار والمنتفضين العرب لم يخطئ الذين قالوا أن الشعر ديوان العرب، لأنه بالفعل يحمل همومهم وتاريخهم وأحلامهم وتطلعاتهم في السراء والضراء، ومن يفتح ديوانا شعريا لأحد أولئك الشعراء من عهد امرئ القيس، إلى عهد نزار قباني، سوف تطالعه كل قصيدة بصفحة من تاريخ العرب، بل إن القارئ المتلقي يكشف نفسه في مرآة الشاعر التي تعكس قصائده، حتى لو كان ذلك الشاعر قد رحل عن الدنيا منذ أكثر من ألف سنة، في حين لا نجد هذا التواصل الحقيقي بين القارئ اليوم والشاعر الذي ينتمي إلى العصر ذاته، فقط لأن شاعر «الحداثة» لا يريد أن يفهم لماذا ينفر القارئ من نصوص «أدونيس» مثلا ويقبل على قصائد «نزار قباني» و»بشارة الخوري» و»الشابي» وغيرهم... أقول هذا وأنا أفتح ديوان «الشوقيات» لأمير الشعراء أحمد شوقي، لتقع عيني على قصيدة «يا شراعا وراء دجلة» وتركت للصدفة أن تفعل فعلها، لأعرف مدى صدقية أن الشعر ديوان العرب، مع علمي المسبق أن «الشوقيات» خير مثال لصدقية هذا المعنى، تقول القصيدة في بعض أبياتها: يا شراعا وراء دجلة يجري --- في دموعي تجنبتك العوادي سر على الماء كالمسيح رويدا --- واجر في اليم كالشعاع الهادي قف تمهل وخذ أمانا لقلبي --- من عيون المها وراء السواد أمة تنشيء الحياة، وتبني--- كبناء الأبوة الأمجاد ملك الشط والفراتي، والبطحاء --- أعظم بفيصل والبلاد وهذه القصيدة على بساطتها تؤرخ لفترة تاريخية في حياة العرب، حيث أن الشاعر «أحمد شوقي» كان قد كتبها ليغنيها الموسيقار الشاب «محمد عبد الوهاب» أمام ملك العراق «فيصل الأول» سنة 1931. إن القصيدة العربية، ليست امتاعا أو مؤانسة فقط، بل إنها قطعة غالية من تاريخ الأمة، وشاهدة إثبات على عبقرية الشعب، وبالتالي فإن القطعة الشعرية التي تخرج من جوب الشاعر، تعبير صادر عن هوية الأمة ذاتها وتعميق لشخصيتها ووجودها!! هذا ما تفتقده الساحة الأدبية العربية اليوم، وهي تحاول النهوض من جديد من كبوة الإستبداد والطغيان، فهل يظل البحث عن الشعر قائما في غمرة هذا الحراك والتململ الذي ينذر بإحداث زلزال مدمر للأرض العربية؟! أم أننا نترحم على زمان كان فيه الشعر العربي على عهد «أحمد شوقي» حين قال: كان شعري الغناء في فرح الشرق ---- وكان العزاء في أحزانه كلما أن بالعراق جريح ---- لمس الشرق جنبه في عمانه!!