* التاريخ يتذكر النصوص ولا يتذكر عدد الجوائز يتحدث الكاتب والناقد الأدبي الدكتور لونيس بن علي، عن روايته الأولى «عزلة الأشياء الضائعة، القصة المريبة لموراكامي» الصادرة، عن دار «الجزائر تقرأ». كما يخوض في التفاصيل التي جعلته يتجه صوب الرواية وفن السرد، بعد كتابات واشتغالات وإصدارات كثيرة في النقد. مؤكداً في هذا السياق أنّه يُؤمن بأنّ الرواية ليست حكراً على أحد، فهي إحدى الوسائل التعبيرية القادرة على صياغة رؤيتنا للوجود. لونيس بن علي، تحدث للنصر في هذا الحوار عن الجوائز الأدبية في العالم العربي، وقال بهذا الخصوص، أنّها طريقة لتحريك دولاب السوق فقط. لكن في المقابل نصوص كثيرة نالت الجوائز، لكن هل أضافت شيئا لمشهدنا الأدبي؟ من ناحية المُتابعة النقدية لتلك النصوص بعد الجوائز؟ الدكتور لونيس بن علي، للإشارة، كاتب وناقد وباحث أكاديمي، وأستاذ جامعي، متخصص في النقد المعاصر والأدب المقارن. لديه مجموعة من الإصدارات، من بينها: «تفاحة البربري- قراءات في الراهن الفكري والنقدي والأدبي»، منشورات فيسيرا، الجزائر 2013. «مقامات التروبادور» عن منشورات الهدى 2013 الجزائر. «الفضاء السردي في رواية (الأميرة الموريسكية لمحمّد ديب)»، منشورات الاختلاف/ الجزائر 2015. «إدوارد سعيد، من نقد خطاب الاستشراق إلى نقد الرواية الكولونيالية»، منشورات دار ميم/الجزائر 2017. «نشيد بروكوست» والّذي ضم مجموعة من المقالات والمقاربات والقراءات الفكرية والنقدية. إضافة إلى إصداره السردي الأوّل، الذي هو محور هذا الحوار، أي روايته «عزلة الأشياء الضائعة، القصة المريبة لمصرع موراكامي». الروايةَ أكثر من مجرّد سرد تخييلي، إنّها منظومة معرفية يُمكنها إسعافنا لفهم العالم بعد كتابات ودراسات وكتب في النقد، جاءت روايتك الأولى «عزلة الأشياء الضائعة.. القصة المريبة لمصرع موراكامي». ما الّذي قاد الناقد فيك إلى خوض تجربة الكتابة السردية. هل هي تراكمات قراءاتك للرواية، أم هو شغف الرواية وسحرها وعوالمها؟ * لونيس بن علي: لا أنكر أنّ الروايةَ شكّلت جزءا كبيراً من قراءاتي، حتّى أنّها صارت مع الوقت تتجاوز عتبة الشغف إلى مستوى الوعي المعرفي. ربّما أميل أكثر إلى الاِعتقاد بأنّ الروايةَ هي أكثر من مجرّد سرد تخييلي، فهي أيضا منظومة معرفية يُمكنها إسعافنا لفهم العالم الّذي ننتمي إليه. قراءاتي الأولى كانت روائية، أي حتّى قبل أن أخوض في قراءة النقد، ربّما هذا راجع إلى ميولي الفنية التي تمظهرت أوّل مرّة في فنّ الرسم. لو لم آخذ طريق الأدب لسلكت طريق الفنّ التشكيلي. بقي الجذر، واختلفت أدوات التعبير فقط. لن أقول مثلما يقول البعض أنّي روائي متطفل، بل أؤمن بأنّ الرواية ليست حكراً على أحد، فهي إحدى الوسائل التعبيرية القادرة على صياغة رؤيتنا للوجود، قد أنجح في عملي الأوّل، وقد أفشل فيه، ومع ذلك، تبقى الرواية مشروع مغامرة حقيقية، لأنّ هناك أشياء لا يمكن التعبير عنها إلاّ من خلالها، وهذا ما خلصتُ إليه من خلال «عزلة الأشياء الضائعة». كانت لحظة وفاة والدي، لحظة وجودية عميقة جدا ومُكثفة، دفعتني إلى أن أكتب. لكن ما الّذي سأكتبه لأواجه كثافة اللحظة ومأساويتها؟ لقد فرضت الرواية نفسها، حتى أنّي قررت أخيرا أن أترك النص يجرني إلى حيث يشاء، وكان الأمر مثيرا فعلاً. كان الموت مُحفزا للكتابة، والغريب في الأمر، أنّ كلّ شيء حدث كما لو أنّ الرواية قد كُتبت سابقًا، وما قمتُ به هو أني جعلتها مرئية. يمكن القول أنّ الرواية جاءت كنوع من المعالجة لذات أُصيبت بأحزان الفقد، وبمتاهة/وكابوسية الموت والحياة. هل بإمكان الرواية، أو الكتابة أن تعالجنا من أحزاننا وخيباتنا أو هل يمكنها بشكلٍ ما أن تُصفي حسابات مع الحزن والألم والفقد والضياع النفسي أو الوجودي؟ * لونيس بن علي: ما أعجبني في رواية (زابور) للروائي كمال داود هو قدرة الكتابة على العلاج. على مواجهة أعطاب الوجود. وفاة الوالد المفاجئ كانت لحظة قاسية جدا، ويجب أن يتصور القارئ أنّي شرعت في كتابة الرواية بعد أيّام قليلة فقط من وفاته، وكانت بداية النص على شكل رسائل كنتُ أكتبها لوالدي، وكأنّي أعيد بعثه من خلال تلك الرسائل. كانت لحظة مفارقة جدا، أوقفت عندي أي قدرة على التواصل مع العالم. أظن أنّي أُدينُ لهذه الرواية بالكثير لأنّها أعادتني إلى العالم مرّة ثانية. أؤمن بأنّ الرواية قادرة حتّى على دفع الموت لبضعة أمتار، أو على الأقل تؤجله إلى حين. فكرة مجنونة، لكنّها صالحة كاستعارة لقوّة الكتابة. لم أعد أتصور الكتابة كقتل للوقت –كما يُقال– بل هي اِستعادة للوقت الضائع منا. اِستحضرت هاروكي موراكامي في عنوان الرواية وفي متنها. لماذا لجأت إلى هذا الاِستحضار، أيُّ سياقٍ كان يستدعيه أو يتطلبه أكثر. هل هو السياق النفسي الّذي ربّما وجد في روايات موراكامي بعض العزاء. أم هو سياق قراءات متشبعة بأجواء الروائي الياباني الكبير؟ * لونيس بن علي: الإجابة داخل الرواية، لأنّ العالم التخييلي الّذي شيدته كان فوق تجربة حقيقية عشتها عند وفاة الوالد، تبقى أنّ علاقتي بموراكامي كقارئ لرواياته المُذهلة رسمت لي الطريق نحو غابته التخييلية الرهيبة. كنتُ محاصرا برؤيته السردية، فقررتُ أن أتحرّر منها بقتله في روايتي. المسألة ذات أبعاد رمزية متعدّدة. ليست وظيفتي الآن الكشف عنها، فهي من مهام القارئ الذكي. لا أحب كثيرا استعمال لفظة العزاء، بقدر ما وجدت في رواية «الغابة النرويجية» نصًا مُذهلاً، وعميقًا في طرحه لعلاقة الإنسان المعاصر بالعزلة وبالمرض وبالموت. موراكامي روائي استثنائي في نظري –يبقى هذا موقفي لا ألزم به أحدا– لأنّه استطاع أن يُوسّع من مساحات التخييل. أنا شخصيًا أعاد تأهيلي مخياليًا من ناحية النظر إلى العالم في بعده الغرائبي كذلك. بعد هجرة الكثير من الشعراء إلى الرواية، أصبحنا نرى هجرة أسماء نقدية كثيرة باِتجاه الرّواية. هل هي سطوة الرّواية وحظوتها في محافل الجوائز العربيّة؟ * لونيس بن علي: لم أعتبر يومًا أنّي مُهاجر في أرض الرواية؛ لأنّ الرواية كانت حاضرة دائمًا معي، سواء في اشتغالي النقدي أو الجامعي أو في قراءاتي اليومية. ربّما أنّي أقرأ الروايات أكثر من بعض الروائيين، وأفهم أبعادها أكثر منهم. لا أظنّ أنّها هجرة بقدر ما هي توسيع لأفق الوعي الأدبي والنقدي داخلي، بل أرى أنّ الاِنتقال من جنس أدبي إلى آخر يثريها أكثر، ويفتحها على إمكانيات تجريبية لا مثيل لها. ثمّ لا يجب الاِعتقاد أنّ هناك متخصص في الشِّعر وآخر في الرواية وآخر في النقد، الجذر واحد: اللّغة/ العالم/ المُخيلة. نعم حتّى الناقد الحقيقي هو الّذي يتمتع بمخيلة كبيرة، فكيف للناقد أن يفهم عوالم السرد إذا كان لا يتمتع بمخيلة روائية. لا أميل إلى التفسيرات الآلية التي تقول بأنّ الرواية اليوم أصبحت تغري أكثر بسبب جوائزها، لا أظن ذلك، أنا شخصيًا لا تهمني الجائزة، وإن كنتُ قد شاركت في جائزة «الجزائر تقرأ» بإلحاح من الزوجة الكريمة، بقدر ما كانت علاقتي بالرواية هي علاقة ضرورية فرضتها علي تجربة شخصية جداً. أمّا هرولة الآخرين نحو الجوائز فهي قضية تخصهم، فمن أراد أن يكتب للجوائز فليكتب، لكن أعتقد أنّ التاريخ يتذكر النصوص ولا يتذكر عدد الجوائز. هناك من يقول أنّ ظاهرة الجوائز الأدبية العربية خلقت سوقًا للرّواية، ألا ترى أنّ هذه السوق هي آنية تظهر بسبب جائزة وتختفي عندما يخفت ضجيج الجائزة؟ * لونيس بن علي: هل يقرأ العرب حتّى نتحدث عن سوق للكِتاب؟ التقارير تقول أنّ العرب يقرؤون في العام نصف صفحة. الجائزة هي طريقة لتحريك دولاب السوق فقط. نصوص كثيرة نالت الجوائز، لكن هل أضافت شيئًا لمشهدنا الأدبي؟ أقصد هل هناك مُتابعة نقدية لتلك النصوص بعد الجائزة؟ في نظري هذا هو الأهم، وإلاّ ما حاجتي إلى تلك الجوائز. هل يمكن أن نتحدث عن الكِتاب الأكثر مبيعًا (the Best-se* * er)، ونحن نعلم أنّه في الوطن العربي أعلى سقف من حيث عدد نُسخ الطبع لا يتجاوز في الغالب ال1000 نسخة؟ * لونيس بن علي: لنتحدث أوّلاً عن طبيعة سوق النشر في الجزائر مثلاً، هل نملك دور نشر حقيقية؟ وهل تحفظ هذه الدكاكين حقوق الكتّاب؟ ما الّذي يتحصل عليه الكاتب كمقابل لنشر جهده الإبداعي أو العلمي؟ البيستسيللر بالنسبة لي لا معنى له في سياق كهذا الّذي يحاصر صناعة الكِتاب في الجزائر. يجب تحرير النشر من أنانيات الناشرين، لابدّ من اِحترام جهد الكِتابة. المُمارسة النقدية ساعدتني على الاِقتراب أكثر من عالم الرواية عودة مرّة أخرى إلى ثنائية الناقد/الروائي. هل الناقد الّذي يمتلك أدوات النقد والتشريح الأدبيّ يمكن بأدواته النقديّة أن يكتب الرّواية ويبدع فيها أكثر من الروائي؟ * لونيس بن علي: سأرد عليك بطريقة عكسية. وهل تظنين بأنّ الروائي يمكن له أن يُبدع ما لم يكن واعيًا بأدواته الفنية؟ أقول هذا وفي ذهني بعض النماذج، سأكتفي على سبيل المثال بميلان كونديرا؛ كتابه «فن الرواية» أعتبره أهم كِتاب نقدي في الرواية. لا أؤمن تمامًا بأنّ الرواية هي فقط موهبة، الموهبة دون معرفة ودون تعليم واكتساب للمعارف حول هذا الفن ستضيع مع الوقت، أستغرب من بعض الروائيين الذين يكتبون روايات ويفتخرون بأنّهم لا يقرأون عن هذا الفن. الرواية ليست نسج قصة خيالية، الجميع يمكن لهم فعل ذلك، بل حياتنا مبنية على هذه الحكايات، لكن اللعبة كلّها في الوعي برهان الشكل والأسلوب واللّغة وتوسيع أفق التخييل. اشتغلت طويلاً في حقل النقد الأدبي تدريسًا وممارسةً من خلال ما أكتبه من مقالات نقدية، المُمارسة النقدية ساعدتني على الاِقتراب أكثر من عالم الرواية، أعترف أنّ العين النقدية ترى تفاصيلا قد لا يراها الروائي نفسه، من هنا فإنّ الاِستفادة من القراءة النقدية كانت كبيرة. أحد الذين قرأوا روايتي (عزلة الأشياء الضائعة) ناله اليأس من هذا النص، وسألني: أين هي قراءاتك؟ لماذا لم توظفها؟ هذا الشخص لم يفهم أنّ الرواية في آخر المطاف ليست أيضا درسًا سرديًا، وحضور الثقافة النقدية يكون خفيًا داخل اللعبة السردية نفسها. صحيح أنّي من حين إلى آخر كنتُ أُضَمِن نصي تأملات نقدية، وهذا كان مقصوداً، لكن يبقى العمل الروائي هو لعبة شكلية، ثمّ رؤية عميقة للعالم. هناك نصوص لا تعجبنا، لكنّها ربّما كُتبت لقارئ لا يشبهنا. لا يجب أن ننسى هذا البُعد. ماذا في أفق اشتغالاتك؟ وهل ننتظر رواية أخرى؟ * لونيس بن علي: كتابة روايتي الأولى جعلتني أكتشف متعة الكتابة الروائية، لكن أيضًا صعوبتها. لقد كتبتُ وفق أسلوب اِقتصادي جداً، جُمل قصيرة، وفصول قصيرة جداً، لكن في المُقابل كنتُ أُمارس التفكير أيضا، كنتُ أبدي موقفي من أمور كثيرة: الموت، الحياة، الكتابة، الذاكرة. هل أنا راضٍ عن هذه الرواية الأولى؟ سأقول نعم. حتّى لو كان النص ضعيفًا، فأنا راضٍ عنه، لأنّي كتبتُ ما يشبهني. أمّا إن كان سيرضي القارئ، فهذه المسألة تتجاوزني الآن. أقول هذا بوعي أنّه علي الآن نسيان هذا النص والتفكير في تجربة جديدة. وهذا ما شرعتُ فيه منذ مدة. فأنا بصدّد كتابة رواية جديدة، مختلفة، لكنّي احتفظت بنفس السيمات الأسلوبية والتخييلية. منذ مدة ألهمتني عوالم شارل بودلير، أكيد لن تكون روايتي عن هذا الشاعر اللعين، لكن ستتحرك الرواية بمحاذاة تجربته الرهيبة.