ما كُتِبَ عن الثورة يظل قليلاً جداً ومُتواضعًا * الأدب الجزائري المكتوب باللّغة العربيّة حديث الاِنفتاح على الشكل الروائيّ يرى الناقد والباحث الأكاديمي الدكتور عبد الحميد بورايو، أنّ ما كُتِبَ عن الثورة يظل قليلاً جداً ومُتواضعًا في تصويره للحظة التاريخيّة التي اِلتحم فيها الجزائريّون وعاشوها بكلّ جوارحهم وأيقظت فيهم وعيًا وطنيّا خلاّقا، شكّل نفسيتهم ومواقفهم في الحياة. كما يرى أنّ الشهادات الحيّة لمن عاشوا الثورة سواء كانوا مسؤولين وإطارات فيها أو مواطنين عاديّين كفيلة بأن تُنتج المئات من الروايات. مؤكداً أنّه يمكن لهذه الشهادات أن تكون منجمًا ثريًّا يستثمره الروائي ليصنع به نصّا روائيّا يرقى إلى مصاف الروايات العالميّة الشهيرة. * حاورته/ نوّارة لحرش بورايو، يرى أيضا أنّ ما كُتبَ بالفرنسيّة قليل رغم قيمته الفنّية العالية مثل روايات محمّد ديب وكاتب ياسين ومولود معمري وغيرهم، أمّا بالعربيّة فلم تُتّخذ كقالب فني يُعبّر عن الثورة إلاّ بعد عقد من الاِستقلال. كما يرى من جهة أخرى، أنّ التعبير عن الثورة في الجزائر كان من نصيب الحركة الشِّعريّة بصفة خاصّة ولم تتناوله الرواية إلاّ بصفة محدودة ينقصها الشمول والعُمق. وذهب إلى القول أنّ كتابة رواية الثورة تتطلّب توفر دراسات سوسيولوجيّة وأنثروبولوجيّة يمكنها أن تُساعد الكاتب على فهم وقائع الثورة. مُعظم الروايات الجزائريّة التي تناولت الثورة اِنطلقت من اللحظة الراهنة –لحظة ما بعد الاِستقلال- كيف ترى وتقرأ صورة الثورة التحريرية في الروايات الجزائرية؟ عبد الحميد بورايو: مُعظم الروايات الجزائريّة التي تناولت الثورة، اِنطلقت من اللحظة الراهنة –لحظة ما بعد الاِستقلال- لتجعل منها سنداً من أجل تمثيل التناقضات الحالية في المجتمع الجزائري؛ نذكر على سبيل المثال روايات رشيد بوجدرة ورشيد ميموني والطاهر وطار وعبد الحميد بن هدوقة وواسيني الأعرج ومحمّد ساري إلخ...؛ فالثورة فيها لا تعدو أن تكون سوى مُبرّرات للاِحتجاج على ما يعيشه المُجتمع في الحاضر من تناقضات وانحرافات عن المسار المثالي الّذي خطته الثورة لِمَا بعد الحصول على السيادة الوطنيّة. إنّها الماضي الّذي يُقيّم على أساسه الحاضر؛ لذلك قُدِّمت في أغلب الأحيان في صورة مثاليّة مشبعة بالقيم الوطنية والإنسانيّة، وقد نعثر على بعض الروايات التي جعلت من التناقضات الحالية السياسية والاِجتماعيّة اِمتداداً لِمَا كان من تناقضات في المواقف أثناء الثورة التحريرية، ولعلّ أهمّ نموذج لذلك هو روايتا كلّ من رشيد بوجدرة (التفكّك) والطاهر وطار (اللاز). وبالتالي تمّ تمثيل الثورة في صورتين أساسيّتين؛ الأولى تُركز على الصراع بين الجزائريين والفرنسيّين المستعمرين، بينما الثانية تُركز على ما كان من تناقضات وصراعات في صفوف الثورة نفسها، اِمتدّت لتطال فترة ما بعد الاِستقلال. بالنسبة للصورة الأولى اِتسمت بمثاليّة المجتمع الجزائريّ المُتمثّلة في بطولته من ناحية وفي معاناته وفي شراسة حرب التحرير وما خلفته من جروح وذكريات مؤلمة، من ناحية أخرى. هناك روايات أخرى تموقعَ زمنها منذ البداية في أحداث الثورة؛ مثل رواية «طيور في الظهيرة» لبقطاش مرزاق، و«لونجة والغول» لزهور ونّيسي، و«الأفيون والعصا» لمولود فرعون. نُضيف إلى مثل هذه الروايات المعروفة، التي كتبتها أسماء مكرّسة، بعض الروايات الأخرى التي ظلت أسماء كُتّابها في الظلّ، بالرغم من القيمة الفنّيّة لأعمالها، نذكر منها على سبيل المثال ثلاث روايات للهاشمي السعيد (عاشق النّور، الاِحتراق، الصمود). سعت هذه الروايات الثلاثة إلى نقل القارئ إلى زمن الثورة، دون أن تتخذه تعلّة لتقييم الزمن الحاضر مثل الروايات التي ذكرناها أعلاه. قدّم سعيد الهاشمي عبرها شرائح مسحوقة ومُهمّشة من المُجتمع عانت من ظروف الصراع الاِستعماري، كما نجده في الرواية الأولى قد اِهتمّ بفترة الحركة الوطنيّة التي هيّأت النفوس للثورة التحريريّة، وأثار بكلّ حذق موضوع الصراعات السياسيّة ما بين فئات النّخبة الوطنيّة بتوجّهاتها الإيديولوجية المُختلفة. الشهادات الحيّة لمن عاشوا الثورة كفيلة بأن تُنتج المئات من الروايات هل ما كُتِبَ حتّى الآن يرقى إلى المستوى الفني والبطولي والتاريخي والإنساني لهذه الثورة. هل هناك روايات جسدت بعض الشحنات الدرامية للثورة باِمتيازات فنية ملحوظة؟ عبد الحميد بورايو: ما كُتِبَ عن الثورة يظل قليلاً جداً ومُتواضعًا في تصويره للحظة التاريخيّة التي اِلتحم فيها الجزائريّون وعاشوها بكلّ جوارحهم وأيقظت فيهم وعيًا وطنيّا خلاّقا، شكّل نفسيتهم ومواقفهم في الحياة. إنّ الشهادات الحيّة لمن عاشوا الثورة سواء كانوا مسؤولين وإطارات فيها أو مواطنين عاديّين كفيلة بأن تُنتج المئات من الروايات المُعبّرة عن أنبل المشاعر وأعمقها وعن البطولات المتنوعة الخارقة للعادة، نظراً للظرف الاِستثنائي الّذي عاشه المجتمع. يمكن لهذه الشهادات أن تكون مَنجمًا ثريًّا يستثمره الروائي ليصنع به نصّا روائيّا يرقى إلى مصاف الروايات العالميّة الشهيرة. واظبتُ منذ فترة على الاِستماع لشهادات المؤرخ الجزائري محمّد حربي حول الحركة الوطنيّة وثورة التحرير وفترة بداية الاِستقلال، وقد أقنعتني طريقتُه في رصد الوقائع والتأريخ لها وإرفاقها بالمُلاحظات السوسيولوجية بكونها يمكن أن تكون قاعدة لبناءات روائية تُؤرخ للمجتمع الجزائري في هذه الفترة بكلّ وعي، يمكن لكُتّاب الرواية أن يصوغوا موضوعاتها وأن يجسّدوها في أعمال روائيّة قيّمة، إذ تمدّهم بمادة خام جديرة بالتشكيل الروائي المُتميّز. يعتدّ النقد الروائي بمقولة مشهورة مفادها أنّ الرواية هي ملحمة العصر الحديث، وإذا كانت الصراعات البشريّة التي خاضتها مُختلف الجماعات البشرية لتتشكّل باِعتبارها أُممًا وقوميات قد صنعت أبرز الملاحم العالمية القديمة مثل ملاحم اليونان والهنود والفُرس والعرب إلخ.. فإنَّ الصراع الّذي خاضه المُجتمع الجزائري في مواجهة الاِستعمار لكفيلٌ بدوره أن يصنع الروايات -الملاحم العظيمة التي لا تقلّ قيمة عن الروايات- الملاحم عند الأمريكان الشماليين والجنوبيين (أمريكا اللاتينيّة) وغيرهم من الآسيويين والأوروبيين في العصور الحديثة. المجتمع الجزائريّ خلال الفترة الاِستعمارية كان شفويّا وكانت الكتابة فيه اِستثناءً ومحدودة الاِنتشار هل الرواية الجزائرية على مدى تاريخها وتجربتها عالجت موضوع الثورة التحريرية وكتبتها وقاربتها كما ينبغي فنيًا وجماليًا ودراميًا وبمستويات مختلفة. هل أجادت في تناولها للموضوع، هل الجانب الروائي فيها، حقق المرجو والمنشود في هذا الشأن؟ عبد الحميد بورايو: يظلّ عدد الروايات التي تناولت الثورة من داخل المُجتمع قليلاً، بالنظر لعدد الروايات المنشورة، وأيضًا بالنظر إلى زخم وقائع الثورة وشمولها حياة المُجتمع الجزائري وتأثيرها العميق في الشخصيّة الجزائريّة وفي مُختلف الشرائح الاِجتماعيّة. لقد كان المجتمع الجزائريّ شفويّا خلال الفترة الاِستعمارية، وكانت الكتابة فيه اِستثناءً ومحدودة الاِنتشار، لأسباب تاريخية وثقافيّة يضيق المجال هنا عن الحديث عنها، لذلك فإنّ الرواية كفنّ مكتوب لم تؤدّ دورها كاملاً في التعبير عن أحوال المجتمع. ما كُتبَ بالفرنسيّة قليل رغم قيمته الفنّية العالية مثل روايات محمّد ديب وكاتب ياسين ومولود معمري وغيرهم، أمّا بالعربيّة فلم تُتّخذ كقالب فني يُعبّر عن الثورة إلاّ بعد عقد من الاِستقلال، بالنظر إلى طبيعة اللّغة العربيّة المكتوبة والمُحافِظة التي سعت الحركة الإصلاحيّة لأن تجعل منها تعبيراً عن المجتمع، وكان ذلك من خلال الشِّعر، ولم تكن الرواية في متناول النخبة المُعرّبة بسبب نزوعها الثقافي المُحافظ والتقليديّ بحكم علاقة اللّغة بالعقيدة التي اتخذَتْ كحامل أساسيّ للفكرة الإصلاحيّة، مِمَّا أخّر اِنخراطها في الممارسة الثقافية الحداثيّة، والتي تندرج فيها الكتابة الروائيّة. التعبير عن الثورة كان من نصيب الحركة الشِّعريّة بصفة خاصّة ولم تتناوله الرواية إلاّ بصفة محدودة هل تأملت الرواية الثورة، هل اِستنطقتها، هل اِستثمرتها، هل تمثلتها، ووظفتها بكلّ ما تحمله هذه المحمولات من زخم ومعاني، هل رواية الثورة كُتبت حقًا، أم لم تكتب بعد، أم أنّ الشّعر هو الّذي كتب الثورة أكثر؟ عبد الحميد بورايو: أعتقد أنّ التعبير عن الثورة في الجزائر كان من نصيب الحركة الشِّعريّة بصفة خاصّة، ولم تتناوله الرواية إلاّ بصفة محدودة ينقصها الشمول والعُمق. تمثّل فترة الثورة حالة اِستثنائيّة عاشها المجتمع كلّه بجميع شرائحه، تظل في حاجة إلى الاِستنطاق والتأريخ الاِجتماعي المستعين بالأساليب الجماليّة. يتطلّب ذلك اِحترافًا في الكتابة الروائيّة، وهو ما لم يتيسّر خاصّة بالنسبة للكُتّاب المعرّبين، إلاّ أخيراً وبصفة نسبيّة –بالنسبة للقليل من الكُتّاب من أمثال رشيد بوجدرة والأعرج واسيني والحبيب السايح وأمين الزاوي ومحمّد ساري- والذين وجدوا أنفسهم مشدودين للحظة الراهنة لتصويرها والتعبير عنها، أكثر من التفكير في فترة الثورة التي لم يكونوا قد عاشوها في فترة نضجهم وتشكّل وعيهم الثقافي. تحدّيّات الراهن شغلت الكُتّاب المعاصرين عن العودة إلى الثورة التي أصبحت من الماضي هل يعني هذا أنّ الأدب الجزائري بشكلٍ عام لم يرقَ إلى ما كان مأمولاً منه التعبير عنه، هل عجز الكُتّاب عن ملامسة قيمة الثورة وعن كتابتها، وعن تمثلها روائيًا وفنيًا؟، وأنّ هذه الثورة التي تُعتبر من أعظم الثورات في العالم، لم تجد لها مُعادِلات جمالية في النصوص الروائية الجزائرية؟ وأنّ التعبير عنها بقيّ سطحيًا؟ عبد الحميد بورايو: يُعتبر الأدب الجزائري المكتوب باللّغة العربيّة حديث الاِنفتاح على الشكل الروائيّ (ظهرت الروايات الأولى في مطلع السبعينيّات من القرن الماضي) لذلك فإنّ التجربة الأدبيّة الروائيّة الجزائريّة مازالت في طور الطفولة؛ فالتراكم والتطوّر النوعيّ لم يسمح لها بعد بأن تكون في مستوى التعبير عن حدث ملحمي جمعيّ خارق للعادة مثل ثورة التحرير. بالإضافة إلى ذلك فإنّ تحدّيّات الراهن شغلت الكُتّاب المعاصرين عن العودة إلى الثورة التي أصبحت من الماضي، رغم حضور آثارها في واقع المجتمع. لعلّ تطور الفنّ الروائيّ يُتيح في المُستقبل معالجة حصيفة، والمؤمّل أن تكون في مستوى ثورة مجتمع بأكمله، وتغييره لمصيره بإمكانيات اِعتمدت على الجوانب الروحية والمعنويّة أكثر من اِعتمادها على الوسائل المادّيّة، وهو البُعد الإنساني الّذي يُمثل مادةً خصبة للكتابة الروائيّة. الجيل الجديد من كُتّاب الرواية اِتجه في غالبيّته للتعبير عن البُعد الفردي وكيف هي علاقة الجيل الجديد من الكُتّاب بالثورة التحريرية؟، هل اِستفاد من تيمة الثورة في كتاباته، هل اِستلهم منها، هل قاربها وكتب عنها في رواياته وإبداعاته؟ عبد الحميد بورايو: اِتجهَ الجيل الجديد من كُتّاب الرواية في غالبيّته، أساسًا للتعبير عن البُعد الفردي أكثر من التعبير عن البًعد الجمعي، وعن اللحظة الراهنة أكثر من الوقائع التاريخيّة، وازدادت عناية الكُتّاب بِمَا تُعانيه الذات في نطاق التحوّلات الجارية في المجتمع. هناك بعض الكُتّاب قدموا روايات اِستندت الى البحث التاريخي مثل عبد الوهاب عيساوي وهاجر قويدري، وأرى أنّ أمثال هؤلاء الكُتّاب مؤهلون لأن يكتبوا عن الثورة اِنطلاقًا من شهادات ومعالجات سوسيولوجية لوقائعها (كما فعل مؤرخ الثورة التحريريّة محمّد حربي في مذكراته السمعية البصريّة، التي أشرتُ إليها أعلاه)، –إذا ما سمحت لهم ظروفهم باِحتراف كتابة الرواية- بالنظر لتجربتهم الجديرة بالتنويه في تقديم لحظات تاريخيّة تمت العودة لوثائق متعلّقة بها، وارتكزت رواياتهم على ما اِستخلصوه منها. بإمكانهم أن يفعلوا نفس الشيء فيتقصون وقائع ثورة التحرير ليصوّروها بمنظور روائيّ مُختلف عن المنظور التاريخيّ. كتابة رواية الثورة تتطلّب توفر دراسات سوسيولوجيّة وأنثروبولوجيّة وهل تجاوزها وتخطاها بذكاء إلى موضوعات وتيمات أخرى يراها أكثر راهنية وأكثر أحقية في التناول والطرق والطرح والمكاشفة مثل الذات والهوية والوجود وصراعات الحياة وغيرها؟ عبد الحميد بورايو: مسألة تخطّي الكتابة عن الثورة وتجاوزها أمر غير وارد؛ لأنّ المشهد الروائي الجزائري –كما ذكرنا سابقًا- لم ينجز الشيء الكثير بخصوص الكتابة عن وقائع الثورة، لعدة أسباب ذكرنا بعضها سابقًا، مثل حداثة الفنّ الروائي في الأدب الجزائري المكتوب باللّغة العربيّة، وعنايته بالراهن على حساب التاريخ. وهناك أسباب أخرى تتعلّق بِمَا عرفه تاريخ الثورة من تجاهل أو اِنتقائية بفعل الإيديولوجيا السياسيّة السائدة عن طريق الوسائل الرسميّة، وكذلك قلّة الدراسات التاريخية العميقة التي توفّر المادّة الضروريّة للعمل الروائيّ، والاِفتقار لنقاشات حرّة غير خاضعة للرقابة وللمصادرة والتجريم والمنع في الفضاءات الثقافيّة العامّة وفي وسائل التواصل. يمكن القول أنّنا أمام مادّة خام لم تتمّ بلورتها بمنهجية علميّة؛ تستند لعدد قليل من المذكرات والشهادات والمنشورات والبرامج التلفزيونية المناسباتيّة، لا تغري الروائي بالتعامل معها واتخاذها قاعدة للكتابة الروائيّة. إنّ كتابة رواية الثورة تتطلّب توفر دراسات سوسيولوجيّة وأنثروبولوجيّة يمكنها أن تُساعد الكاتب على فهم وقائع الثورة والتعرّف العميق على شخصية الفاعلين فيها ومن عانى من ظروفها. يمكن تناول موضوعات الهوية والذات الجمعية والبُعد الفردي من خلال كلّ ذلك، ويمكن حتّى إسقاط المعاناة الوجوديّة الراهنة عليها، وبالتالي نكون أمام خطاب روائيّ ينبثق من أحداث الثورة ويُعبّر في نفس الوقت عن واقع المجتمع والحساسيّات الفرديّة الواعية وغير الواعية المستمرّة في حياتنا والمُؤثرة على أساليب عيشنا ومواقفنا الراهنة. تطور الثقافة البشريّة هو مسار متواصل ولا يمكن نفض اليدين من المراحل التاريخية الماضية هل يمكن القول أنّ هناك ما يُشبه القطيعة بين الجيل الجديد من الكُتّاب والثورة ورموزها وتاريخها وبطولاتها؟ وبالتالي يعتقد نفسه معفيًا من الخوض في هذا الشأن أدبيًا وفنيًا، ومن جهة لأنّه يرى أنّ هذا الدور قام به الجيل الّذي سبقه وبالتالي نفض هو يديه الإبداعيتين من الثورة في كتاباته؟ عبد الحميد بورايو: إنّ الغموض وحالات التغيّيب التي شابت التعامل مع تاريخ الثورة في الوسائط الرسميّة بسبب موقف الإيديولوجيا المُهيمنة في الوسائط الرسميّة منذ بداية الاِستقلال له دورٌ كبير في عزوف الأجيال الجديدة عن العناية بها واستعمالها كمادة للكتابة الروائيّة. كما أنّ الخطاب الرامي لاِستثارة العواطف من أجل تبرير أوضاع سياسية واِجتماعيّة والمُحافظة على مقولات إيديولوجية سائدة، وكذلك الخطاب التمجيدي الأجوف أحيانًا وغير العلمي حول الثورة، قد ساهم كل منهما في مثل هذا العزوف وهذا الوهم بإمكانية الفصل بين الأجيال، وتخطّي المراحل التاريخيّة. إنّ تطور الثقافة البشريّة هو مسار متواصل ولا يمكن نفض اليدين من المراحل التاريخية الماضية، لأنّها تظل تشتغل ولو بشكل غير واع في حياتنا الاِجتماعيّة والسياسيّة وحتّى في سلوكاتنا اليومية، وهي قوام كلّ مجتمع. لم تستنفذ الثورة كلّ أسرارها بل بالعكس مناطق الظل فيها كثيرة وما قد غُيّب منها يُمثل الكثير أيضا بعد مرور كلّ هذه السنوات على الاِستقلال هل يمكن القول، أنّ الثورة اِستنفذت كلّ وهجها وألقها في روايات الجيل السابق من المؤسسين للرواية الجزائرية وإن بتفاوت في المستوى والتقنية والإبداعية، وأنّ هذا الجيل مفلس منها ولا يجد ما يقوله فنيًا وإبداعيًا وجماليًا؟ عبد الحميد بورايو: مرت على الثورة الجزائرية حوالي ستّة عقود، وهي تُعَدُّ فترة قصيرة جدّا بالنسبة لتاريخ الأُمم والشعوب. لم تستنفذ الثورة كلّ أسرارها، بل بالعكس مناطق الظل فيها كثيرة، وما قد غُيّب منها سواء عن جهل أو بصفة مقصودة يُمثل الكثير، وما نعرفه عنها يكاد يكون أحداثًا معزولة منزوعة من سياقاتها النفسية والاِجتماعية والسياسيّة؛ هي في حاجة إلى التحليل والفحص المُتأنّي لمعرفة ما تدلّ عليه من حقائق. يمكنني هنا على سبيل التبسيط ضرب المثل بمعالجة حياة أبطال الثورة في المنشورات السردية وفي المذكرات أو في الكتابات الموجهة للأطفال، لا يعدو كلامنا عن الشهداء وزعماء الثورة أن يكون ترديداً لأسمائهم ومواقفهم، بينما ما يمكن أن يكشف عنه الروائي من جوانب نفسيّة واجتماعيّة وبيئويّة يتجاوز ذلك بكثير، وقد ظلّ إلى اليوم مجهولاً ينتظر الرصد والتجسيد في أعمال فنّيّة.