اكتشفن بأنهن أنجبن أطفالا "منغوليين" نجحن في تحويل شعورهن بخيبة الأمل و الخوف لحد الرفض و الإنكار أحيانا، والانكسار و الإنهيار في أغلب الأحيان إلى قوة و تحد و شجاعة ،عندما قررن أن يتسلحن بأمومتهن المتدفقة و يحاربن في كل الجبهات الأسرية و الاجتماعية و البيداغوجية و الطبية... من أجل ضمان حياة أسهل و أفضل لفلذات أكباد اكتشفن بعد ميلادهم ،بأنهم مختلفون عن باقي اخوتهم من حيث الشكل و البنية و الاستعدادات و القدرات و الخصائص النفسية و العقلية ... فهم مصابون ب "متلازمة داون" أو "تريزوميا 21 " ، وهو نوع من التخلف الذهني ناجم عن خلل في انقسام الكروموزوم رقم 21 الحامل للصفات الوراثية للوالدين. إلهام .ط التقت النصر بهن ، فأبين إلا أن يعتقلن "المعركة "الأولى من حربهن ضد صدمة المرض و صعوبات التكفل و نظرة المجتمع القاسية، مع التركيز على لحظات إخبارهن بأنهن أنجبن "أطفالا منغوليين" لعل باقي أمهات الأطفال المرضى يقتدين بتجربتهن و لا يستسلمن لليأس و الفشل . أغمي علي زوجي عندما علم بأن مولودنا الرابع غير طبيعي لم تستطع أسماء أن تتحكم في دموعها و هي تعود بذاكرتها إلى سبع سنوات خلت، فقالت بنبرة حزينة:"أنا أم لتوأمين يدرسان بالجامعة و طفلة تدرس في الطور المتوسط لا أحد منهم يعاني من مشاكل صحية و الحمد لله.فوجئت بحملي الثالث و أنا في ال41 من عمري ، و كنت أتابع كافة الفحوصات الدورية و كم شعرت بالإطمئنان و الفرح عندما خضعت للتصوير بالصدى (إيكوغرافيا) و أخبرتني الطبيبة بأن كل شيء على ما يرام و سأنجب طفلا ذكرا . و جاء موعد الوضع و خضعت لعملية قيصرية.و عندما اطمأن زوجي على حالتي الصحية ، هرع لمشاهدة ابننا ،فأخبروه بأنه لن يكون طبيعيا كباقي أبنائنا ، فأغمي عليه . و أول شيء قام به عندما استعاد وعيه التوجه إلى سريري بقاعة الإنعاش، لنقل هذا الخبر المؤلم إلي،لم أصدق ما سمعت في البداية و اعتقدت أنه يمزح، لكن لا مفر من الحقيقة مهما كانت قاسية و مرة. عشت آنذاك أصعب لحظات حياتي تحت وقع الصدمة و تقاذفتني الكثير من المشاعر المتناقضة و الشكوك و أنا أنظر إلى زوجي المنهار و أبنائي الحائرين و إلى ملامح مولودي الأشقر ذي العينين الزرقاوين الذي أطلقنا عليه اسم أمير. كان يبدو كالملاك في براءته و وسامته الملفتة ،و لم ألاحظ أي شيء غير عادي في الشهور الأولى التي تلت ولادته ،كان ينمو بنفس وتيرة نمو بقية إخوته عندما كانوا في مثل سنه على الأقل عضويا و جسديا من حيث الطول و الوزن ، حتى أنني كنت أشك و أنكر تشخيص الأطباء. لكن الأجواء السائدة بالبيت ظلت جد متوترة و كانت علاقتي بزوجي تهتز على سلم مخاوفه حتى أنني اعتقدت أن هذا الزلزال سيدمرها . استقلت من وظيفتي و استجمعت شجاعتي و قررت أن أسير شؤون بيتي و انفعالات أفراد أسرتي بحكمة و روية. لم أبال بتعليقات أهلنا و جيراننا و قلصت علاقاتي بهم و زياراتي لهم. شحذت كل أسلحة الأمومة، إذ أدركت أنني أم لخمسة من بينهم زوجي، الذي لم يتقبل مرض ابنه الأصغر، و قررت أن أتكفل بالجميع في البداية من الناحية النفسية و الأسرية. لم أتوقع أن يساعدني أمير نفسه الذي قلب حياتنا رأسا على عقب، في هذه المهمة لكنه فعل،لقد فرض نفسه بيننا و نقش مكانة خاصة في قلوبنا و يومياتنا، بتصرفاته البريئة العفوية ومرحه و خفة دمه و ابتسامته الدائمة و حبه و اهتمامه الدائمين بنا فردا، فردا، أول مشكلة صادفتني هي معاناته من صعوبات و اضطرابات في النطق و الكلام، فأخذته إلى أخصائية في" الأرطوفونيا "و في عيادتها التقيت بالعديد من الأمهات اللائي رافقن أبناءهن الذين يعانون من نفس مرض أمير و تبادلنا الخبرات و المواساة . عندما بلغ السادسة من عمره، رفعت التحدي وقررت أن أدمجه مع باقي الأطفال لكن ليس في مؤسسة للتكفل بالمتخلفين ذهنيا، فقد شرح لي الأطباء و النفسانيين بأن إعاقته خفيفة ويمكن أن تتطور قدراته. قدمت التقارير الطبية حول وضعيته الصحية لإدارة مدرسة ابتدائية من أجل تسجيله بالقسم التحضيري. اصطدمت ببعض العراقيل، و نجحت في تجاوزها و شعرت بالفخر و أنا أرى طفلي الحبيب يدخل إلى المدرسة، و يحتك بباقي الأطفال و يحاول أن يتعلم ، لكنني كنت أعلم بأنه بحاجة إلى تقنيات خاصة للاستيعاب غير متوفرة في تلك المدرسة و فكرت في حل آخر ...وجدته لاحقا عندما انخرطت في جمعية "تريزوميا 21" بمدرسة هاجر بحي الأمير عبد القادر بقسنطينة ،التي تخصص قسمين للتكفل البيداغوجي و النفسي بشريحة الأطفال المصابين بهذا المرض الذين تتراوح أعمارهم بين 5 و 14 عاما على يد أخصائيين . أنا راضية بهذه التجربة ، لكنني خائفة على مستقبل صغيري و لن أبقى على قيد الحياة دائما لأحميه من الأخطار في مجتمع قاس لا يرحم مثله و يتعمد تهميشهم." الأنترنيت ساعدني على تقبل مرض ابني أيوب و التكفل به "الحديث ذو شجون "استهلت ليلى ، أستاذة اللغة الانجليزية ،حديثها حول حالة ابنها أيوب ابن السابعة و النصف موضحة:"كنت و زوجي في قمة السعادة عندما حان موعد ميلاد ابننا البكر ، لم يقل لي الأطباء شيئا حول حالته الصحية و لم أشك في أي شيء في الشهور الأولى من ميلاده و هنا تكمن الخدعة أو فلأقل الصدمة الحقيقية .عندما بلغ الشهر السادس و أثناء إخضاعه لفحوص عادية لدى طبيب الأطفال قال لي بأنه يعاني من خلع الورك و أجرينا له عملية جراحية كللت بالنجاح . و بحكم ابتعادي عن أهلي و إقامتي مع زوجي الذي يعمل ببلدة صغيرة ، كنت أقضي الكثير من الوقت في الإبحار عبر مواقع الأنترنيت التي تسلط الضوء على أعراض أمراض الرضع و طرق علاجها و أنجع الطرق لرعايتهم و تربيتهم . و بدأت أقارن بين ما أقرأه عبر الشبكة العنكبوتية حول مراحل نموهم خصائصهم الفيزيولوجية و العضوية و النفسية و الحركية و خصائص أيوب المختلفة . تعمقت أكثر و أدركت أنه يعاني من تخلف ،ثم شخصت المرض الذي قد ينجم عن زواج الأقارب و الإنجاب بعد الأربعين . لكن زوجي ليس قريبي و أنجبت ابني و أنا في ال35 من عمري . قضيت ثلاثة أشهر في صراع نفسي أتخبط في شكوكي و مخاوفي و أرجح دوما كفة الإنكار و الرفض في ميزان الواقع لكي أتمكن من الفوز ببعض الراحة. و عندما تدهورت صحة ابني ، انتقلت إلى قسنطينة لمعالجته على يد مختصين . تصوروا بلغ شهره التاسع ، عندما اكتشفت بأن أختي القابلة كانت تعرف بأن أيوب مصاب ب"تريزوميا 21 "منذ ولادته و أخبرت كل أفراد أسرتنا و طلبت منهم الإحتفاظ بالسر . و فوق ذلك أوصت طبيب الأطفال الذي فحصه بعدم إخباري .غضبت و بكيت و صرخت، ثم لمتها و وبختها و شعرت و كأن العالم ينهار أمامي . كم تحسرت على كل الأشياء التي لم أفعلها من أجل ابني طيلة الشهور الماضية . ربما كانت حالته أفضل لو تم التكفل به كما يجب من النواحي العضوية و الحركية و النفسية و ..و.. على يد أخصائيين . استبد بي الندم و تأنيب الضمير و الإكتئاب و اقتربت من الانهيار العصبي . وحده الإنترنيت ساعدني على اجتياز هذه المرحلة و تقبل مرض ابني و تحديد معالم الطريق الطويل و الصعب الذي سنمشي فيه دون أن نتخلى عن الأمل في غد أفضل .خصصت كل وقتي وجهدي و حبي لأيوب و اطلعت على كل المواقع و الدراسات الخاصة بالتكفل به . و تضاعفت ارادتي و شجاعتي عندما التقيت بأمهات لأطفال "تريزوميين"أنشأن جمعية ذات أهداف بيداغوجية .و كل ما أتمناه خاصة و أنني أنجبت طفلة سليمة و معافاة عمرها الآن سنتين و نصف ، أن تتغير نظرة المجتمع لأيوب و من في نفس وضعيته فهم أبرياء وودودين و اجتماعيين و لطفاء و بإمكانهم تعلم أشياء كثيرة و التفوق في النشاطات اليدوية و الحرف لكنهم بحاجة أكثر من غيرهم إلى الرعاية و الحب . " درست بفرنسا لأتكفل بابني و أساعد باقي الأمهات "أنا أرملة و أم لثلاثة أبناء أسوياء و الرابع و هو الأصغر يعاني من تريزوميا 21 و أتحمل بمفردي مسؤولية رعاية و حماية أبنائي ، متحدية كل الصعوبات و العراقيل" . قالت الدكتورة ليندة فتوي بفخر .و شرحت :"أنجبت جواد و أنا في الأربعين من عمري ، عندما رأيته في عيادة التوليد ، لاحظت بأن لديه ملامح تشبه ملامح الأطفال المصابين بذلك النوع من التخلف الذهني (تريزوميا 21) مثل العيون الضيقة المائلة و الرأس المسطح ..و أخفيت شكوكي و مخاوفي ،خاصة و أن زوجي رحمه الله كان يعاني من مرض في القلب و خشيت عليه من الصدمة . و ظللت رهينة التكذيب و الرغبة في الإنكار طويلا ثم قررت أن أستشير زميلتي طبيبة الأطفال ، فلم تؤكد و لم تنف إصابته و نصحتني بإخضاعه لفحوصات و تحاليل خاصة . لم أستطع المماطلة و التهرب أكثر ،فواجهت أصعب حقيقة بحياتي بصبر و إيمان بقضاء الله و قدره . و قبل أن أنطق بكلمة لدى عودتي إلى البيت ،قال لي زوجي بأنه و كل أفراد عائلتنا يعلمون بأن جواد بحاجة إلى رعاية خاصة . قررت أن أبدأ صفحة مختلفة في حياتي كأم ، مستعينة بدراستي للطب . قرأت كل المراجع و زرت كل مواقع الأنترنيت التي تتطرق للتكفل بهذه الشريحة من الصغار . و شجعني زوجي على متابعة تكوين متخصص بفرنسا لمدة سنتين و حصلت على الديبلوم و عدت لأطبق كل ما تعلمته على ابني الصغير من أجل تطوير قدراته و تحسين نمط حياته ليتمكن من الاعتماد على نفسه في أشياء كثيرة وتحضيره ليندمج لاحقا في المجتمع و لا يكون عالة على أحد .. مجتمع تألمت كثيرا لنظرته لإبني و أمثاله . فعندما يخرج معي تحاصره نظرات الشفقة و بعض التعليقات الجارحة و أشدها إيلاما :" منغولي مسكين ..." . تصوروا احدى السيدات وهي شابة أنيقة سألتني عندما كان يجلس أمامي في سيارتي كيف لا أشعر بالخجل ؟ فأجبتها بأنني أفتخر به فهو هبة من الله.توفي زوجي في سنة 2008 و لم يتجاوز جواد ربيعه الرابع . لم يهزمني الحزن و الحداد و قررت مواصلة الرسالة ، بالموازاة مع عملي لإعالة صغاري و رعايتهم ، كرست الكثير من الوقت لجمع شمل العديد من أمهات الأطفال المصابين بنفس مرض ابني من أجل تبادل الخبرات و الآراء و الاستعانة بالأخصائيين في علم النطق و الكلام و إعادة التأهيل الحركي والنفسانيين و التربويين و السوسيولوجيين و الأطباء لضمان تكفل شامل و أفضل بفلذات أكبادنا . و لأن المراكز النفسية البيداغوجية الموجودة بالولاية مكتظة و لم تعد تكفي للتكفل بالأعداد المتزايدة من الأطفال المتخلفين ذهنيا ، فكرنا بالاعتماد على امكانياتنا الخاصة و المحدودة و دعم مديرية التربية و بلدية قسنطينة في إنشاء جمعية "تريزوميا 21".ذات الطابع البيداغوجي ..إنها رهاننا الأكبر كأمهات مكافحات ." إلهام .ط /تصوير :ع. عمور