نشرت جريدة النصر في العدد 13725 من كراس الثقافة الصادر بتاريخ 20 مارس 2012 ملفا ممتازا حول أدب الشهيد مولود فرعون بمناسبة مرور خمسين عاما على اغتياله على يد الأيادي الفرنسية الغادرة التابعة للمنظمة السرية الحاقدة. وقد عودتنا النصر وأنا أحد تلاميذها على جدية الطرح وحرارة الملفات الأدبية. وأريد بالمناسبة أن أفتح نقاشا حول الأدب الجزائري المكتوب بالفرنسية، وأتحدث فقط عن مسألة الريادة لهذا الأدب لأؤكد أن الفيلسوف والأديب مالك بن نبي هو رائد الأدب الجزائري المكتوب بالفرنسية وليس مولود فرعون كما يظن الكثير. ويعد مالك بن نبي من أبرز المفكرين والفلاسفة الذين أنجبتهم الجزائر والأمة الإسلامية في القرن العشرين، ولا تزال آراؤه وأبحاثه تشغل الناس من حيث قيمتها الفكرية وأبعادها الإنسانية خاصة تلك التي تناولت مظاهر التخلف وأضرار الاستعمار على الشعوب المتطلعة إلى الحرية. إلا أن كثيرا من الباحثين لا يعرف أن مالك بن نبي أديب فذ، بل روائي متميز. ولم تذكر الأبحاث والدراسات الأدبية التي أنجزت منذ الاستقلال أن مالكا اهتم بالأدب، وبالمقابل نجد عند التأريخ للأدب الجزائري أسماء ربما كتبت قصيدة صغيرة أو قصة واحدة مكنتها من الدخول إلى تاريخ الأدب الجزائري، فضلا أن بعضها لا يرقى إلى مستوى الذكر. فكثير من تلك الكتابات لا يرقى « إلى المستوى الفني أو الفكري الناضج حتى نعدها نماذج قادرة على أن تكون تأسيسا حقيقيا «1 خاصة للأدب المكتوب باللغة الفرنسية. إن بدايات الأدب الجزائري عموما والمكتوب باللغة الفرنسية خصوصا تولّد بعد تراكم كبير للأوضاع الاجتماعية والسياسية الصعبة التي عاشها الشعب الجزائري أثناء الاحتلال. “ ففي عام 1930 كان الاستعمار الفرنسي يحتفل بمرور قرن على احتلاله الجزائر، وواقع الأمر أنه كان يظن بأنه قد قضى نهائيا على الشخصية الجزائرية وأن احتفاله إنما هو احتفال بفرنسة الجزائر وإدماجها تماما “2. ولكن كانت الطبقة السياسية آنذاك قد نضجت، وصاحب هذا النضوج وعي كبير بالوضع الحقيقي للإنسان الجزائري، وفهم دقيق لنوايا الاستعمار الجشعة، مما مهد لظهور البواكير الإبداعية الأولى في الشعر والقصة. لمن ريادة الرواية في الأدب الجزائري؟ نود هنا أن نقف لحظة للحديث عن البدايات الفنية الحقيقية الأولى للأدب الجزائري، ونقصد العمل النثري المتكامل شكلا ومضمونا، سواء ما كتب بالعربية أو الفرنسية. بالنسبة للرواية الجزائرية المكتوبة باللغة العربية فالكل يتفق أنها بدأت مع أحمد رضا حوحو بقصته غادة أم القرى التي ظهرت سنة 1947. بينما الرواية الجزائرية المكتوبة باللغة الفرنسية فقد ذكر بعض الباحثين أنها ظهرت مع مولود فرعون سنة 1952 برواية (ابن الفقير)، أو (نجل الفقير)، وهي عبارة عن سيرة ذاتية للمؤلف نفسه3، ثم ظهرت رواية (نجمة) لكاتب ياسين سنة (1956). أما القصة القصيرة الفنية فلم تتضح معالمها وسماتها إلا بعد قيام الثورة بحيث اتجهت إلى واقع الشعب، ومن هؤلاء محمد ديب في مجموعته الأولى في (المقهى) و(الطلسم)4. ومسألة الريادة التي حضي بها مولود فرعون ناتجة عن مساهمة بعض الأدباء والكتاب الفرنسيين الذين أشادوا بهذا العمل، منهم جون دوجو jean de jeux الذي قال في كتابه عن تاريخ الأدب الجزائري المعاصر “إن الأدب الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية ولد في واقع الأمر مع ظهور ابن الفقير سنة 1952”5. وكل الدراسات الأدبية في الجامعات الجزائرية وربما المغاربية والفرنسية تذهب هذا المذهب. لكن هذا الاتجاه وهذا التأريخ في ريادة الأدب المكتوب بالفرنسة يجب اليوم أن يتغير ويأخذ مساره الجديد بعد اكتشاف رواية كتبها الفيلسوف الأديب مالك بن نبي وعنوانها (لبيك حج الفقراء)، وقد نشرها سنة 1947 عن دار النهضة في الجزائر أي قبل رواية مولود فرعون (ابن الفقير) بخمس سنوات، وفي هذه الأثناء كان فرعون يشتغل مدرسا في المدرسة التي تمدرس فيها في قرية توريرت موسى بتيزي وزو. قصة ظهور رواية مالك بن نبي الفضل في ظهور هذه الرواية يعود للباحث الجزائري د/ زيدان خوليف الذي ناقش أطروحة دكتوراه في جامعة السوربون (باريس3) سنة 2006 تحت عنوان (حياة وأعمال مالك بن نبي من عام 1905 1973)، وقد أشرف على أطروحته المفكر العربي الدكتور برهان غليون. وقد عثر الباحث د/ زيدان خوليف على رواية مالك بن نبي مكتوبة بالفرنسية وترجمها مشكورا إلى العربية ونشرت لأول مرة سنة 2009 عن دار الفكر بدمشق، وتقع في 156صفحة من القطع المتوسط. الرواية قدم لها المفكر والأديب عمر كامل مسقاوي6 تلميذ وصديق ابن نبي. وذكر مسقاوي في مقدمة الرواية أن الباحث د/ زيدان خوليف زاره في طرابلس الشام سنة 2006 لغرض إتمام بحثه، وزوده برواية ابن نبي حيث قال “ كنت أسمع بقصة (لبيك) ولم يكن ابن نبي يحدثنا عنها ونحن من حوله طلابا سوى إشارة عابرة حول موضوعه... وقد قيل لنا تواردا بأنها إحدى إبداعات مالك بن نبي في الأدب الفرنسي “7. نعم إنها إحدى الإبداعات ليس في الأدب الفرنسي فحسب، بل في الأدب الجزائري المكتوب بالفرنسية، لكن أحدا لم يذكر أو لم ينتبه لذلك. نحن هنا بصدد التأكيد على أن هذه الرواية أولى الأعمال الأدبية في النثر الجزائري التي تحمل وعيا ونضجا فكريا وسياسيا وفلسفيا وإبداعا فنيا، وقد جاءت الرواية مباشرة بعد صدور كتاب (الظاهرة القرآنية) سنة 1946. ومعلوم أن (الظاهرة القرآنية) يعد من أقوى الكتب التي خلفها مالك فكرا وعلما وتحليلا وعمقا8، ونعتقد أن هذا الوعي كاف لكي يكتب مالك رواية بنفس المستوى الفني والتحليل العميق لما كان يراه جار في المجتمع الجزائري آنذاك. وذكر مالك بن نبي في مقدمة الرواية9 أنه كتبها في غرفة فندق بين سفرتين متقاربتين وذلك في مدينة عنابة. وفي رسالة قصيرة للناشر يتحدث مالك عن روايته وكيف صنعها بالرغم من أنه كتبها في عجالة. وذكر أن القصة واقعية خاصة ما تعلق بالشخصيتين المحوريتين اللتين قامت حولهما القصة، وهما الفحام والطفل اللذان عاشا في مدينة عنابة. أما الجانب الخيالي الوحيد فيتمثل في الصلة التي وضعها مالك بين الأشخاص في المكان والزمان.10 ويقصد الباخرة التي جرت فيها معظم أحداث الرواية. وظهر لنا هنا أن مالك بن نبي يعرف أنه خاض تجربة إبداعية جديدة تحتاج إلى وعي بهذا الفن، لذلك راح يشرح للناشر كيف جمع بين عناصر هذه الرواية والخطة التي اعتمدها لتقديم أبطاله حتى قال “ وإذا كانت هذه التفاصيل المادية للأحداث معروفة لديّ بمنتهى الإتقان، فليست بالمثل فيما يتعلق بمجراها العاطفي والروحي “11، فمالك بن نبي هنا ليس مثل أولئك الذين كتبوا خواطر ومروا، أو جربوا حرفة الأدب فدخلوا التاريخ، فنحن هنا أمام أديب يعرف معنى الأدب ويفهم في الرواية الشيء الكثير، وله دراية بأصول النشر والتوزيع. مظاهر التغيير والثورة عند الفرد الجزائري في رواية ابن نبي أحب هنا أن أقدم للقارئ نظرة خاطفة لأحداث الرواية. ثم أحاول استخلاص بعضا من أفكار الرواية، وسأركز فقط على مظاهر حب التغيير عند الفرد الجزائري كما رآها مالك بن نبي آنذاك. من حيث المكان تدور أحداث الرواية في أحد الأحياء الشعبية لمدينة عنابة، ثم تنتقل الشخصيات إلى باخرة ستمر على ميناء عنابة لتحمل المسافرين إلى ميناء (جدة) لأداء فريضة الحج. في هذين الفضائين يقدم لنا ابن نبي شخوصه وهم عمي محمد، إبراهيم السكير، والطفل هادي. أما عمي محمد فهو ذلك الشيخ التقي الطاهر الأصيل ذو اللحية البيضاء، الذي يحمل السبحة دائما، والذي يقطع صلاته في جوف الليل ليفتح الباب (منزل جماعي) أمام إبراهيم السكير الذي أزعج الشيخ والجيران بصراخه... إبراهيم السكير والذي يشتغل فحاما يعيش ليلة رهيبة، حيث يقرر في صبيحة اليوم الموالي وفي لحظة عجيبة تغيير مسار حياته بالذهاب إلى الحج، ويدعو الله أن يخلصه من مرضه وضلاله. أما هادي فهو ذلك الطفل اليتيم الطائش المتشرد الذي قرر هو الآخر تغيير مسار حياته بالقيام بمغامرة عجيبة وهي الصعود خفية إلى باخرة الحجيج والذهاب إلى الحج. إبراهيم والطفل هادي يلتقيان مع حجاج كثيرين يعيشون مغامرة السفر البحرية بمرورهم على تونس ثم مصر ثم وصولهم إلى جدة أين تنتهي الرواية. هذا هو مسار الرواية الذي اختاره ابن نبي للتعبير عن الوضع الجزائري المزري آنذاك. إن الوضع الذي كان يعيشه المجتمع الجزائري أثناء الاحتلال لا يمكن وصف بشاعته جراء القهر والظلم والفقر والجهل، ولوصف هذا الوضع اختار مالك بن نبي مظهرين رئيسيين هما: 1 مظهر إبراهيم الذي يتميز بخاصيتين: الأولى أنه فحام، والثانية أنه سكير. 2 مظهر هادي ذلك الطفل المتشرد الذي يقتات من مهنة (مسح الأحذية). فعندما عاد إبراهيم تلك الليلة إلى بيته ثملا لا يقوى على الحراك، فتح له عمي محمد باب منزله الذي ما هو إلا دكان يصنع فيه الفحم “ كانت تتدلى خيوط العنكبوت من خشب السقف الذي لا يمكن التعرف من خلاله على طبقة كلس الجير الممسوحة لكثرة تراكم غبار الفحم الذي صبغ المكان هناك من الداخل، وفي ركن منه توجد كومة فحم بجانبها أكياس مملوءة لم تفتح بعد، أما الغربال وميزان الفحم فقد أكملا تأثيث هذا الجانب من المحل، وفي الجانب الآخر وضع صندوق فوقه الشمعة التي لا تكاد تضيء سريرا حقيرا وهو المتاع الشخصي الوحيد في هذا المتجر والذي يمثل حجرة نومه فقط، وكان إبراهيم وهو واقف وسط الغرفة بقميصه المدبوغ مع يديه بغبار الفحم؛ يجسد الروح السوداء لهذا المكان المعتم”12. بهذا الأسلوب الدقيق يصف لنا مالك بيت السكير، إنه باختصار شديد وضع الجزائر الأسود. ويروي لنا مالك بن نبي ببراعة ذلك التناقض الصارخ الذي يعيشه إبراهيم وانتقاله بين الثقافة الإسلامية والأوروبية، وكيف أن إبراهيم غلب عليه الإحساس بأنه ينتمي إلى المجتمع الأوروبي13 وهي إشارة واضحة لفكرة القابلية للاستعمار التي اشتهرت بها فلسفة ابن نبي. لكن إبراهيم الفحام والسكير يتغير بين عشية وضحاها إثر (حلم) رآه، حيث وجد نفسه يطوف بالكعبة، فقرر في الصباح أن يغتسل ويلتحق بسرعة بالباخرة المتوجهة إلى (جدة) على الساعة العاشرة صباحا. وبعد أدائه فريضة الغسل، غمره إحساس بأنه تخلص من ضيق كان يعيش في داخله...وفهم أنه كان يلعب “ دور شخص بغيض فرض عليه في مسرحية كوميدية بذيئة “14. هكذا فهم ابن نبي الاستعمار، إنه مخرج لمسرحية كوميدية بذيئة؟؟؟ لقد اتخذ إبراهيم قرارا خطيرا في تغيير حياته، ليتخلص من العبودية (الفحم)، والثقافة الدخيلة (الخمر)، ويقرر ركوب التاريخ (الباخرة) للعودة إلى الأصول (الحج) والطهارة. وإن كان هذا القرار يبدو للوهلة الأولى هروبا من الواقع، إلا انه يحمل في طياته أيضا قرار التغيير والثورة على النفس والمحيط، ورفض الواقع المرير. لقد شعر إبراهيم أنه تخلص من الماضي عندما تأمل براءة وجه زوجته التي طلقته جراء انحرافه وهو يختلط مع وجه أمه المشرق والممتلئ بالرضا، حيث “شكلا رمزا واحدا لطريق مضيء فتح أمامه فجأة، فأحس بأنه قد نفذ بجلده من إمبراطورية الظلام15. وهل الاستعمار غير إمبراطورية للظلام؟ وعندما يصعد إبراهيم إلى الباخرة يلتقي بحجيج كثر فيشعر أنه امتزج مع مجتمع جديد نقي يرغب في التطهير، وتتسارع الأحداث في الباخرة، وتلتقي الأفكار وتتلاقح الثقافات بين الحجيج وربان السفينة، وليحقق إبراهيم حلمه في تغيير نفسه وتطهيرها يقرر الاستقرار بالمدينةالمنورة، ومنها يرسل إبراهيم إلى زوجته فاطمة رسالة عن طريق عمي محمد قال فيها “ أحس وكأني إنسان جديد وأرى من حولي عالما جديدا أريد العيش فيه إن شاء الله.16 ثم قال “ لقد تركت الفحم ثم الخمر في بونه “17، وطلب من زوجته اللحاق به ليعبر لها عن حبه العميق. لا يهمنا نحن هنا هذا الموقف النهائي لهذا البطل الذي لم يبد استعدادا للعودة إلى أرض الوطن المحتل لتغييره أو التحريض على تغيره، والذي يهم الآن هو موقفه المبدئي في التغيير والرغبة في التخلص من كل مظاهر العبودية والقهر التي تمارسها النفس أو الثقافة أو الاستعمار، أهم شيء في هذا التغيير هو البحث عن المخرج، والتعبير عن عدم الرضا بالوضع، وقد وجده ابن نبي في العودة إلى الإسلام ومنابعه الصافية. هذا بالنسبة للشخصية الرئيسية في الرواية. أما الطفل هادي فقد كان “ شعره أشعث، ورجلاه حافيتين، يرتدي سروالا كثرت ثقوبه كغالبية أطفال بونه “18، وهو يمثل ذلك الفقر المدقع الذي تعرفه الأسرة الجزائرية حيث تدفع الأطفال إلى العمل القهري خاصة في (الحمالة) في الأسواق والموانئ، أو (مسح الأحذية) في الأماكن العمومية. هذا الطفل استطاع أن يختبئ في إحدى غرف الباخرة، لكن أحد العمال اكتشفه وقرر معاقبته “ سوف يوضع في الحبس حيث توجد فئران كبيرة، ولن يخرج منه حتى العودة إلى بونه “19. إلا أن إبراهيم وبعض الحجيج تدخلوا لإنقاذه، وقرر المحافظ الفرنسي أن يرسله إلى العمل في مطبخ الباخرة، ففرح الطفل لأنه حقق أمنيته في الذهاب إلى الحج. وقبل ذلك بليلة واحدة كان قد تراهن مع أصدقائه المتشردين حول ركوب الباخرة والذهاب إلى الحج، فقال لهم متحديا “ أنا استطيع أن أذهب دون أن أدفع أي شيء”20. وهكذا اتخذ هذا الولد قراره ليتخلص من اليتم والتشرد والفقر. لقد قرر الطفل تغيير حياته هو الآخر بعدم الانصياع للقهر والقبول به، وإنما باتخاذ أي قرار ولو الفرار في باخرة الحجاج نحو المجهول. وقد نشأت علاقة أسرية وطيدة بينه وبين إبراهيم الذي قبله كولد له. وقد علمه الوضوء والصلاة وراح يرشده ويدله على الخير. ففي الرسالة التي أرسلها إبراهيم إلى عمي محمد من المدينةالمنورة ذكر فيها الطفل قائلا “ وقد قبل أن يصبح بمنزلة ابني، إنه سعيد أيضا إذ ترك علبة مسح الأحذية “21. هذا هو الطفل الذي يحمل معه أمل العودة إلى أرض الوطن ويواصل رغبة التغيير نحو الأفضل، لقد طهر نفسه ويده من مسح الأحذية، وطهر قلبه من الأدران وتشبع بثقافة الأسرة مع إبراهيم،،، إنه الأمل وكفى.