من الصعب الحديث عن الأدب الجزائري المعاصر، دون التصادم بإشكالية اللغة التي يعبر بها هذا الأديب أو ذاك، وتزداد الإشكالية تعقيدا حين يتعلق الأمر ب ''شرعية'' تمثيل النص الأدبي للهوية الثقافية للجزائر، في بلد تتنازعه لغتان: الفرنسية والعربية.. ومن السهل القول إن المسألة لا تطرح ''أزمة'' في المفاهيم، انطلاقا من أن اللغة ''حيادية'' وأن الفكرة التي يزفر بها قلم الأديب، هي الأساس، والجوهر، وبالتالي ''الهوية'' لدى الكاتب والمبدع، لا يمكن تحديدها وحصرها في جنسية اللغة التي يكتب بها المؤلف روائعه الإبداعية، إن شعرا، أو نثرا... غير أن هذه ''الحيادية'' اللغوية، سرعان ما تصبح موضع شك، حين يكتشف القارئ العربي، أن الاهتمام بالإبداع الأدبي المكتوب باللغة العربية لا يكاد يلتفت إليه من قبل الكتاب ومن مؤرخي الأدب في الضفة الشمالية للمتوسط، بل وفي أحيان كثيرة من قبل الأدباء والنقاد الجزائريين أنفسهم ممن يتعاطون مهنة الكتابة بلغة ''فولتير''، بحيث لا نجد في مرجعياتهم ومدوّناتهم سوى أسماء الأدباء الذين لمعت كتاباتهم ونصوصهم الأدبية بالفرنسية.. فإن ذكرت نماذج من تلك الأسماء الأدبية على سبيل التمثيل لا الحصر، فسوف تطالعنا بصورة آلية أسماء كاتب ياسين ومحمد ديب ومولود فرعون وآسيا جبار ومالك حداد ورشيد ميموني... وغيرهم من دون ذكر الأدباء الذين يكتبون باللغة العربية.. وبالمقابل، فإن أغلب الذين يؤرخون للإبداع الجزائري المعاصر، من قبل الأدباء والنقاد العرب (خاصة المشارقة)، لا تكاد مرجعياتهم النقدية تتوفر إلا على النصوص والمتون المكتوبة باللغة العربية، من كتاب ومبدعين جزائريين ارتبطوا إبداعيا باللغة الأم العربية من أمثال مفدي زكريا والبشير الابراهيمي والطاهر وطار وزهور ونيسي وعبد الحميد بن هدوقة... وغيرهم. في هذا الصدد، أذكر أنني قد طرحت سؤالا في هذا المعنى، على الأستاذ الروائي إبراهيم سعدي في إحدى الملتقيات الأدبية بمدينة العلمة في أعقاب محاضرة له حول الأدب الجزائري. من يمثل الأدب الجزائري.. المتن المكتوب باللغة العربية؟ أم المكتوب باللغة الفرنسية'' وكان سبب طرحي هذا السؤال نابعا من إحساسي العميق أن الأدب الجزائري المعاصر يعيش حالة ازدواجية معقدة يتم تجاهلها والسكوت عليها، بحيث صرنا نقدم لأشقائنا في المشرق العربي ما يعجبهم من الإبداع المكتوب بالعربية، وبالموازاة مع هذه الصورة القائمة، نحاول تصدير إبداعنا بالفرنسية لمن يعنيهم الأمر بالضفة الشمالية للمتوسط.. وما زادني ألما وإحساسا بالمرارة وسوء الفهم، أن الأستاذ المحاضر إبراهيم سعدي، لم يعط رأيه الواضح في المسألة، بل إنه امتنع عن الخوض في هذه الإشكالية، مكتفيا بالقول: ليست لديّ إجابة عن سؤالك.. معذرة... وكانت إجابته يشوبها ارتباك واضطراب وكأنه أمام ''طابو'' لا يجوز الاقتراب منه، فضلا عن كشفه... أو... وقد كررت المحاولة في طرح هذه الإشكالية بالصيغة ذاتها على مجموع الأدباء الجزائريين الذين احتضنهم المخيم الوطني للمبدعين ببلدية ''شطايبي'' ولاية عنابة (صيف 2008)، فكان النقاش محتدما جدا، ولم يتوصل الجميع إلى اتفاق بشأن الموضوع، بل إن الأمر وصل إلى مستوى من المشادات الكلامية، بما يعني أن الإشكالية حقيقة، ولا ينبغي تجاهلها، لأنها تتعلق بالهوية الثقافية، ولا تستوجب كل هذا الطمس والتجاهل!! ترى هل كان لابد من إثارة هذه الفكرة الإشكالية، ونحن نحاول تحريك الخيوط التي تتشكل منها لعبة الإبداع الأدبي الجزائري ضمن مرجعيته التراثية المعاصرة؟!.. أيا كان اختلافنا أو اتفاقنا في المسألة اللغوية، فإنه من باب أولى، أن نلتقي حول ما مدى ارتباط النص الإبداعي الجزائري بالأرض التي ولد فيها النص ذاته، ومدى ارتباط الأديب بمقومات شعبه ووطنه، بمعنى آخر، لابد من التزام هذا الأديب أو ذاك بالقضايا الجوهرية لأمته، انطلاقا من الإيمان النابع من ضميره، سواء كان هذا النص قد أبدعه صاحبه بالعربية، أو بالفرنسية.. لقد ظل مفهوم ''الالتزام'' لدى الأدباء الجزائريين قبل استعادة الاستقلال الوطني، لا يخرج عن نطاق تحرير الأرض من المحتل، والدعوة إلى الإصلاح الديني والاجتماعي.. وإذا كان الشعر المنظوم بلغة الضاد سبّاقا إلى مسايرة ركب التحرر والإصلاح إبان فترة الاحتلال الفرنسية، فإنه بالمقابل كان النص الروائي المكتوب باللغة الفرنسية، الأسبق والأكثر حضورا في الواقع الأدبي الجزائري أثناء مرحلة ما قبل الاستقلال، بل إن أول رواية جزائرية ظهرت سنة 1936 كانت باللغة الفرنسية بعنوان: MYRIEM DANS LES PALMES، لتتلوها روايات أخذت بُعدا عالميا في الخمسينيات من القرن الماضي، وأشهرها ''نجمة'' لكاتب ياسين و''الدار الكبيرة'' لمحمد ديب و''الأرض والدم'' لمولود فرعون''... وغيرها.. ورغم أن تلك النصوص الروائية قد كتبها مؤلفوها بلغة ''المستعمر''، فإنه لا أحد يشكك في وطنية أصحابها، بل إن تلك الأعمال الروائية ظل صيتها قائما حين يتعلق الأمر بارتباط الأديب الجزائري بنضالات شعبه في التحرر والانعتاق.. ولأسباب تاريخية و''سوسيوسياسية'' لم تعرف الجزائر كتابة الرواية باللغة العربية إلا بعد عهد الاستقلال الوطني على أيدي الطاهر وطار وعبد الحميد بن هدوقة وعرعار محمد العالي ومرزاق بقطاش ورشيد بوجدرة، قبل أن يأتي جيل الروائيين الجدد من أمثال واسيني لعرج وأحلام مستغانمي وأمين الزاوي... وغيرهم ممن يحتلون الساحة الأدبية بأعمالهم الروائية الجديدة.. وإذا كانت الكتابات الأدبية في العهد الاستعماري، لا تشكل عناء كبيرا أمام الناقد، للوصول إلى تحديد وحصر التزام الأديب الجزائري بقضايا التحرر والدعوة إلى الإصلاح، فإن النصوص الأدبية في مرحلة ما بعد الاستقلال، تعد نقلة نوعية جذرية، تستوجب من الدارس والناقد، الوقوف عند قضية الأدب الملتزم الذي يسعى إلى ''توجيه الجماهير إلى واقع اجتماعي وأدبي أفضل لمسايرة الثورة الاشتراكية، والخلاص الوحيد للأمة من الجهل والمرض والتخلف، على حد تعبير الدكتور محمد مصايف في كتابه ''فصول في النقد الأدبي الجزائري الحديث''.. وتبعا لذلك، سيطرت النصوص الروائية والقصصية الجزائرية في مرحلة ما يعرف بالبناء الاشتراكي، بالتزامها المفرط بالجانب الإيديولوجي أي ضمن ما يسمى ''الواقعية الاشتراكية''، ولعل أفضل نص روائي يمثل هذا الاتجاه هو رواية ''الزلزال'' للطاهر وطار، وقليل من الروائيين الذين كانت لهم رؤية نقدية وفنية مخالفة مثل الروائي عرعار محمد العالي في روايته ''مالا تذروه الرياح'' و''الطموح'' حيث اعتبره الدكتور محمد مصايف أب الرواية النفسية في الجزائر، لأنه نحا هذا النحو غير المسبوق في الكتابة الروائية العربية الجزائرية!! ومع الالتزام الذي وضع فيه نفسه الأديب الجزائري إزاء وطنه وشعبه، نجد قاسما مشتركا يكاد يوحد الجميع، يتمثل في الجانب الجمالي، والبناء الفني والمعماري، كما هو مجسد في رواية ''الزلزال''، حيث يقف القارئ منبهرا بمقدرة الكاتب على التوظيف المعماري والفني لمدينة قسنطينة، تدعو إلى الإعجاب!!.. وبقدر ارتباط النص الأدبي الجزائري المعاصر بقضايا الالتزام الأدبي والفني، بقدر ما يفاجئنا هذا النص ذاته (أو على الأقل في جزء منه) بخروجه عن المألوف، وعن المعتاد عليه، مما عهد عن الأدب الجزائري، وجنوحه إلى جوهر القضية التي ترتبط بالالتزام، ما يشكل أحيانا لدى القارئ، عنصرا للمفاجأة والدهشة، ونقصد بذلك لجوء حامل القلم إلى الانتصار للجرأة الأدبية والمغامرة الإبداعية، بمعنى آخر، لجوء الأديب الجزائري إلى عملية ''تكسير'' لبعض ''الطابوهات'' التي تخص موضوعات الجنس والدين واللغة، وغيرها.. في هذا السياق، تفاجئنا الأديبة أحلام مستغانمي في سنوات السبعينيات من القرن المنصرم، بجرأة أدبية غير مسبوقة في المتن الأدبي الجزائري، من خلال إصدارها لمجموعة شعرية تحمل عنوانا في غاية من الجرأة ''الكتابة في لحظة عري''، وتتضمن نصوصا جريئة، تعتبر تكسيرا لما يعرف اليوم ب ''طابو'' لا يجوز الاقتراب منه، لاسيما وأن تلك المجموعة الشعرية، ولدت من رحم الإبداع الجزائري الذي كان ما يزال آنذاك أسيرا لروح الثورة والالتزام بقضايا التحرر من الاستعمار، وبموضوعات التنمية والبناء الاشتراكي، في بلد خرج لتوّه من حرب ضروس راح ضحيتها مليون ونصف مليون شهيد، ولعل الذين شهدوا صدور ''الكتابة في لحظة عري'' يذكرون ما أثارته من جدل وسط الأدباء والمثقفين... أما الروائي رشيد بوجدرة، فقد جعل من ''طابو'' الجنس، هاجسا مركزيا للعديد من نصوصه الروائية، خاصة روايته ''التفكك'' التي تعد من أكثر النصوص الروائية الجزائرية جرأة في تكسير هذا الطابو.. لأن الروائي لا يكتفي بالتلميح، بل يتعدى مباشرة إلى لغة التصريح، المنقولة من قاموس ويوميات المواطن العادي.. والروائي رشيد بوجدرة لا يلجأ إلى المواربة في تكسير طابو الجنس، بل إنه لا يجد غضاضة في التصريح للصحافة الأدبية في أكثر من لقاء صحفي معه، بأنه ''ملحد''، مفصحا بذلك عن المعسكر الإيديولوجي الذي ينتمي إليه، وهو أهم اسم روائي عربي في المغرب العربي، له الجرأة في تكسير طابو الجنس والدين.. ومن أغرب ما يبرزه المشهد الأدبي في الجزائر تكسير صورة أخرى مغايرة لتلك الطابوهات التي ما انفكت تخص النص الإبداعي الجزائري، النص الروائي بوجه خاص، ألا وهو ''طابو'' اللغة، أي انتقال بعض الأدباء الجزائريين الذين يكتبون باللغة العربية، إلى الكتابة باللغة الفرنسية، بصورة غير معهودة في ''بانوراما'' الإبداع الأدبي الجزائري، وتبرير ذلك، أن التحول من العربية إلى الفرنسية، يتيح لهم الشهرة والانتشار أكثر، ولا ندري هل الكتابة بلغة الضاد، قد منعت مثلا كاتبا معربا مثل نجيب محفوظ من الوصول إلى ''العالمية'' وافتكاكه لجائزة ''نوبل'' للآداب دون المرور إلى الكتابة باللغة الإنجليزية التي يجيدها كما يجيد أدباؤنا الكتابة باللغة الفرنسية.. وبالرغم من الآراء المتباينة بشأن خصوصية النص الأدبي الجزائري المعاصر، فإن واقع الحركة الإبداعية، تواصل تقدمها، وتجدد تألقها، وتحقق ذاتها، حتى وإن كان هذا النص يحلق بجناحين: العربية والفرنسية...