"العشابة" و"العزابة" يتخلفون عن موسم الهجرة إلى الشمال غابت الأعداد الكبيرة للرحل عن أرياف عين عبيد وغابت معها خيامهم عن روابيها ولم يعد يسمع صوتهم في مقاهيها وشوارعها بلكنتهم المميزة كما غابوا عن موسم الفريك الذي كانوا أكثر الفاعلين فيه حصادا وإنتاجا وبذلك يغيب عن المنطقة نمط من الحياة طالما كان أحد مظاهر الصيف منذ مئات السنين ومؤشر بداية موسم الحصاد وقد استغنت الفلاحة عن خدماتهم بالمكننة بعد أن عوضتهم الآلة في حصاد الفريك. وفي جولة في أرياف عين عبيد التي تشهد هذه الأيام موسم سيد أطباق رمضان الفريك لاحظنا عددا محدودا جدا "للصيافة" الذين كانوا يبدأون في التوافد مع نهاية شهر ماي بحثا عن فرص عمل معلنين عن بداية موسم الهجرة إلى الشمال هربا من حرارة الصيف في منطقة الزيبان إلى أعالي قسنطينة المتاخمة لولاية أم البواقي أين كانوا يضربون أوتاد خيامهم بأعداد كبيرة قريبا من منابع الماء ، ليبعثوا الحركة في وهاد كان يعشش فيها طيلة مواسم ثلاث الصمت . وقد أبدى لنا بعض سكان تلك المناطق الذين جمعتهم بهم صداقة حميمة منذ زمن طويل أسفهم على هذا الغياب ، وأخذ كل واحد منهم يذكر أسماء من عرفهم وشب معهم وكيف تغير حالهم بدورهم في إطار شتى برامج الدعم الفلاحي ، فلم يعودوا يحتاجون لتلك الأنشطة المضنية ومن بقي منهم وفيا لتلك الرحلة ولمضاربها فقد أصبح يفد سائحا طلبا لنسيم المنطقة وهوائها الذي مازال عدد منهم يحن إليه، ومنهم من يأتي فقط خلال السنوات الماضية لصيام شهر رمضان في أجواء معتدلة الحرارة مقارنة بحرارة الصحراء التي لا تطاق. وأضاف آخر أن برنامج الدعم الفلاحي الذي يشترط الحرث الربيعي العميق حال دون وجود أراض معطلة كان يكتريها مربو الأغنام الذين يمثلون طلائع الرحل فأصبحوا يعسكرون في الجبال المتاخمة لعين عبيد والمعروفة "بالسواحل" في انتظار وقت الحصاد فينزلون لنصب خيامهم في مساحات "الحصيدة" أين يرابطون إلى نهاية فصل الخريف في رحلة العودة إلى المناطق الدافئة في الصحراء. هذا واندثرت حرف وأنشطة كانت مرافقة لهذه الموسم متمثلة في صناعة المناجل اليدوية وألبسة الواقية من ذوائب السنابل وعرض المضلات في السوق الأسبوعية إضافة إلى نشاط مقايضة التمر وعجينته بالقمح والشعير وقبلها بزمن طويل جدا الملح الذي كانت تحمله الجمال في آخر موسم الحصاد فيقايض السكان المحليين ما يكفي الحول منه. هذا ونجمت في السنوات الأخيرة عن الظاهرة علاقات مصاهرة بعد أن أصبح الكثير من أبناء الصحراء يرغبون في الزواج من بنات التل على حد تعبيرهم، هذا عن رأي العامة من الناس في الظاهرة فيما يراها أهل الاختصاص من دارسي الانتربولوجيا بمنظار آخر كما يقول الأستاذ الباحث في الظاهرة من مركز الأبحاث في التاريخ القديم بعين مليلة فوزي مجماج أن حقيقة ظاهرة تواجد البدو الرحل في التل خلال فصل الصيف تعود إلى حركة تقليدية جد قديمة عرفت بحركة العشابة والعزابة فقبل الاحتلال الفرنسي للجزائر كان الرحل الذين يمثلون نسبة 69 بالمائة من سكان الجزائر آنذاك ينتقلون مع نهاية فصل الربيع إلى الشمال طلبا للكلأ وتجنبا لحرارة الصحراء الشديدة التي تفتك بأغنامهم لكن الفرنسيين بعد الاحتلال اضطروا لوضع حد لهذه الحركة لأنهم وجدوا صعوبات جمة في السيطرة على مجتمع يتحرك فأدى ذلك بشكل مباشر إلى تراجع الترحال في الجزائر إلى ما دون 4 بالمائة من السكان غداة الاستقلال واستمر هذا التراجع بعد ذلك إلى 2بالمائة سنة 1972 و1 بالمائة فقط سنة 1985 لأن إرادة الدولة الحديثة كانت تهدف إلى التخلص النهائي من هذا النمط من العيش الذي كان ينظر إليه بمنظار التخلف والوجه القبيح لبقايا الحضارة الرعوية. وكان بعض المختصين يرون أن هذا الشكل من الحياة لن يتخطى عتبة الألفية الثالثة ومع ذلك فنحن لا نزال نجد اليوم فسيفساء لخيم هؤلاء الرحل بألوانها التي وكما في القديم تعبر عن انتمائهم القبلي فنجد الخيمة الحمراء النايلية والخيمة السوداء السامعية ولكن ترحال اليوم لا يمت بصلة لذلك الذي ساد منذ مئات السنين إن لم نقل آلاف السنين في شمال إفريقيا فما نراه اليوم هو ترحال احترافي استطاع البقاء عن طريق التأقلم مع المعطيات الجديدة لمبادئ السوق واستعمال وسائل النقل الحديثة كالشاحنة وأيضا التعامل بإيجابية مع التغيرات التي طرأت منذ الاستقلال على نوعية ملكية الأرض ومعظم هؤلاء الرحل لا يمارسون ترحالا دائما بل هم يستثمرون في المدن الصحراوية كبسكرة والمسيلة ويمارسون فقط ترحالا موسميا،هذا مع أننا قد نجد كذلك في بعض الأماكن أنواع أخرى غير الرعوي حيث يصعد سكان الصحراء للعمل في حقول الشمال وهم لا يملكون قطعان الماشية كما يمكن أن نجد آخرون يطلق عليهم الآن "الصيافة"وهم يأتون لمجرد الاستجمام والتمتع بهواء صروات عين عبيد علي سبيل المثال لا أكثر. حجم الظاهرة حاليا من الناحية الكمية غير محصورة إطلاقا بسبب نقص عمليات الإحصاء وتباعدها ولكن من الناحية الكيفية الظاهرة مستمرة وملحوظة بشكل كبير.