في هذا اليوم 2 أفريل 2013، تحل الذكرى الأولى لرحيل وغياب الشاعر مالك بوذيبة، مالك الذي غادر باكرا، تاركا خلفه شعرا يصف دمه ولونه ونبضه، وكذا حياته التي كانت قصيرة أكثر مما يجب. كراس الثقافة يستحضر اليوم الشاعر في هذه الوقفة الخجولة مع بعض إخوته الشعراء والكُتاب، الذين يستحضرونه بكثير من الود والذكريات. لا نحتاج إلى تحليل ADN كي نثبت قرابة الدم بين الشعراء في ذكرى رحيل الشاعر مالك، تقول الشاعرة والروائية ربيعة جلطي: "كلما فقَدت الأرضُ شاعرا آخر، يتجدد شعوري باليتم أكثر، تتحرك شوكة اليتم من جديد بعد أن تنحني وترأف أحيانا، عنوة، لتترك الغفوة تتسلل قليلا إلى الجفن، كي يتغاضى ولو مؤقتا عن الأسئلة الموجعة. ولأن الشعر هو الحضن البديل الرحيم، الذي نزل منه أشقائي الشعراء، أجل الشعراء إخوتي. فدم قرابة الشعر وحده لا يحتاج إلى عروق وأوردة ولا يحتاج إلى تحليل ال (أ.د.ن) لإثبات شرعية الانتماء إلى قبيلة الشعراء. فقدنا الكثير منهم زمن الحرب وزمن الإرهاب، ونفقد ما بقي منهم في زمن الصمت، أو الزمن الأصمّ. وفي كل مرة بكينا لمرارة الفقد كما يبكي الرُضع لقسوة الفطام، ولم نُفطم بعد". وتضيف صاحبة ديوان "كيف الحال": "حين نزل عليّ خبر رحيل مالك بوذيبة شقيقي في قبيلة الشعر، كانت الفاجعة فاجعتين، فاجعة الفقد وفاجعة المباغتة، إذ لم يكن مالك، وهو مَلِك الصبر، لم يكن يشكو ولم يكن من الواقفين أمام حائط المبكى، وما أكثرهم!! كانت عيناه، وقصائده، وقامته وجسده النحيل، أناقته، وهدوِءه، جميعها كانت تقول ما يفيض على المعنى". ثم تستطرد قائلة: "جاء نبأ رحيله مثل جرْم مباغت بسرعة الضوء، لم تلتقطه أجهزة التنصّت على الفضاء ولم تلمحه نباهة علماء الفلك، ليسقط على الأرض تاركا جرحا بليغا عليها، وارتدادا هائجا في جسد البحر. حتى وإن لم تجمعنا سوى لقاءات قليلة مما جادت به مدن في أزمنة متفاوتة تُغالب بشجاعة شح اللقاء الثقافي والإبداعي والأدبي، مثل قسنطينة ووهران والعاصمة وباتنة وغيرها لكني كنت أشعر بالطمأنينة بأن مالك الشاعر المرهف هناك وأنه هنا، يقرأ لي فيبتسم أو يهز رأسه أو يعلق بمنتهى الذكاء والشفافية. وأقرأ قصائده، تصل إلي عبر رحمة الوسائط التكنولوجية الحديثة مثل سرب من حمام زاجل، أستشف فيها لهفته للحياة، ونشيده المتواصل لها، ونشر ضيائه عليها، مثل عنوانه -القمر لأزمنة الرماد-. لقد استطاع قلمه قول الكثير على الرغم من سرعة الحياة التي عبرها والتي استعجلها موت غيور، ف (ما الذي تستطيع الفراشة) يا مالك". وتختم الكاتبة ربيعة جلطي شهادتها في الراحل بقولها: "في أربعينية مالك، قرأتُ في العاصمة بعضا من مقاطع قصائده بحضور ابنه الصغير/ الكبير، وأمام جمهرة من محبيه وأصدقائه الأوفياء من الأدباء جمعتهم جمعية الكلمة للثقافة والإعلام، كأنها البارحة. يا إلهي كم أمْسَت الحياة عطشى من مالك ومن شعره، فكلما رحل شاعر وارتفع إلى السماء، إلا ونقصت الأرض نهرا وازدادت السماء نجما.. رحمةُ مالكِ المُلكِ عليك.. يا مالكُ الشاعرُ". كيف ندّعي أننا كنا أصدقاءه أما الشاعر والناقد يوسف وغليسي فيقول: "ما أشرف أن تكون صديقا لمالك بوذيبة (طيّب الله ثراه)، وما أصعب أن تجد إلى ذلك سبيلا، فهل تسمحون لي أن أتحدى كلّ من يدّعي ذلك الشرف؟". ويسرد صاحب ديوان "تغريبة جعفر الطيار" بعض تفاصيل علاقته بمالك بوذيبة بنوع من الحميمية الحزينة، قائلا: "الأحوال الشاعرية النفسية للمرحوم كانت مضطربة على الدوام لأنّ ظروفه التاريخية والجغرافية والسيكولوجية كانت مختلفة تماما، وحده كان يكابد تلك الأوجاع العاتية في سرّية تامة وبهدوء ظاهري عجيب، يقترب منك اقترابا حميما، إلى درجة اعتقادك بأنّك صديقه الوحيد في هذا الكون، وحين يشعر أنّك لم تفهم ما يدور في أعماقه البهيمة، ينفضّ عنك دون سابق إشعار!، أمّا نحن فإنّ أشرفنا إنسانية وأكثرنا صبرا لم يكن يستطيع معه صبرا، فكيف ندّعي أننا كنا أصدقاءه؟ جميع الذين ادّعوا ذلك كان يسميهم (أصدقاء الريح) تارة، و(الأعدقاء) تارة أخرى، أي أنّهم أصدقاؤه وأعداؤه في الوقت ذاته. ويضيف وغليسي: "يشهد الله أنني كنت أحافظ –ما استطعت إلى قلبه سبيلا- على الحدّ الأدنى من مشاعر الصداقة بيننا بتجنّب لقائه لقاءات متكررة!، لأنني خبرت مزاجه الصعب المتقلب، نجحت في ذلك نسبيا لكنني أعترف بأنني أخفقت في الحفاظ على ربع قرن من المودّة، كان يلزمني قليل من التنازل فقط، لكنني كنت أنانيا". ويرجع وغليسي في حديثه عن مالك إلى بداية التعارف واللقاءات الأولى بينهما وما حدث بين سنوات الصداقة، إذ يقول: "عرفته في خريف 1982، وأجبرت على نسيانه في شتاء 2009، ثمّ ودّعته إلى الأبد في ربيع 2012، وأعيش الآن صيف فراقه القائظ.. لقد عشت معه كامل فصول العمر. لا أنسى أبدا السنوات التأسيسية للمودّة بيننا، فقد جمعنا اليتم والفقر والضياع والتشرّد في مناكب الجغرافيا الريفية القاسية، من أجل إثبات مواهبنا، ثمّ التقينا مرّة أخرى لقاء تاريخيا خالدا في محطّة القصيدة (1987)، عام حزننا/ فرحنا الشعري، مسقط قصيدته -وقصيدتي- الأولى، بدأنا نتبادل قراءة أشعارنا ونتناقدها، بعد عام نشرتُ دراسة طويلة حول قصائده الأولى في أسبوعية (أضواء)، أزعم أنّها شهادة ميلادي النقدية وبطاقة تعريفه الشعرية في الآن نفسه، كنّا لا نزال على مقاعد الثانوية نحلم بمعانقة البكالوريا التي ابتسمت لي (بعد مكيدة لا تنسى) وتنكّرت له رغم وفائه وإلحاحه وكفاءته، ففرّغتْه للشعر والبطالة وهموم الدنيا كلّها، ثمّ شرّفني بكتابة مقدّمة ديواني الأوّل عام 1995. وبعدها كان ما كان ممّا لست أذكره". وينهي وغليسي حديثه بقوله: "قد ظُنّ خيرا ولا تسأل عن الخبر، كما قال الشاعر. والسلام على مالك يوم ولد ويوم مات ويوم يبعث حيّا". عاش محاذيا لنفسه كلوركا صاحب ديوان "هيبة الهامش" الشاعر رضا ديداني يتحدث قائلا: "عرفته من خلال نشر نصوصه في جريدة النصر أواخر الثمانينات من القرن الماضي، كنا ننشر ولنا الرغبة في الحضور رغم أننا كنا تحت رحمة بريد الشعر الذي كان يشرف عليه المرحوم مصطفى نطور الذي مرة يشجعنا ومرة يحبطنا، وبداية التسعينات تخلصنا من البريد وأصبحنا ننشر بشكل متواصل، وبعد تأسيس نادي الإبداع الأدبي بعنابة كان من الأوائل الذين برمجناهم في الأيام الإبداعية، عندها عرفته عن كثب وكان من أعز اللقاءات وما أذكره في هذه اللحظة الكتابية ومرجعها الذاكرة، هو إصراره على الحضور للملتقيات الأدبية، إذ كان كلما يسمع بوجود ملتقى يذهب إليه للحضور حتى وإن لم يكن من المدعوين، حدث في إحدى اللقاءات الأدبية في عنابة إذ كان مقيم مع الأصدقاء في إحدى الأحياء الجامعية من أجل التقرب من الوسط الثقافي آنذاك وبشكل دائم لما كانت مدينة عنابة خلال الفترة تلك محطة هامة للشباب المبدع". رضا ديداني يستطرد في شهادته: "مالك رحمه الله، كان هادئا وقليل الكلام كما عرفته، كذلك كان سريع القلق وله مواقف ثائرة وموقفه من اتحاد الكُتاب دليل على ثورته خلال فترة التسعينات. مالك بوذيبة الشاعر، له تلك السيرة الوفية للغة، وهو كذلك وفيٌ للطبيعة التي ترعرع فيها، المنطقة التي منحتنا شاعرا اسمه مالك رسم الكلمات ونال جوائز عدة وعاش محاذيا لنفسه مثل لوركا الشاعر الذي خلدته الطبيعة". يضيف ديداني: "لما التقيته سنة 2012 بسكيكدة كان وفيا لصمته ولنظرته المستشيطة من الوضع الثقافي وكأنه يخاطب صحراء، إذ كان حنينه إلى فترة الثمانينات التي صنعت جيلا من الشعراء متميزين بشعرية عالية رغم سوء الوضع الذي ميز حياتهم الاجتماعية والثقافية ولم تُقَيَّم قُدراتهم الإبداعية. لما نذكر مالك بوذيبة الحي في ذاكرتنا نتذكر أسماء عديدة لفها الصمت والهروب والانكفاء على الذات". وفي ختام شهادته يتحدث ديداني عن شعرية مالك بوذيبة وعن ضرورة الإضاءة حولها وعليها، مضيفا: "شعرية مالك بوذيبة تحتاج منا جميعا الإضاءة والدراسة كصوت شعري متميز مثله مثل الشاعر الراحل عبد الله بوخالفة. وبهذه المناسبة أدعوا أصدقاء الشاعر وأخص بالذكر الشاعر الناقد يوسف وغليسي إلى إنجاز دراسة متفتحة لأعمال الشاعر". يغالب الموت بالقصائد الكاتب والناقد محمد كعوان، يقول وهو يستحضر مالك في ذكرى رحيله الأولى: "ونحن نعبر الوادي كنا نلتفت دوما إلى ذلك المنظر الأخاذ، منزل يختفي بين أشجار الدردار والزيتون يغمره طيلة أيام السنة ظل وارف أخضر، إنه بيت ملك بوذيبة ، ذلك الفتى الذي ظل يحيرنا كل مرة نلتقيه فيها –منتصف الثمانينيات– فقد كانت علاقته بالنشر والصحافة مبكرة جدا، حيث نشر صورته قصد التعارف وهو تلميذ في مرحلة المتوسط، كما كان سباقا لنشر محاولاته الشعرية الأولى، في عديد الجرائد الوطنية، فهو يتابع بفرح عارم تلك النصوص وقد وجدت طريقها إلى القُراء، مالك الشاعر الذي تفتقت قريحته الشعرية في وقت مبكر جدا، فتجاوز بذلك أقرانه، فقد رصد لنفسه مستوى شعريا متميزا، إنه الشاعر المثقف الفطن المطبوع حقا على قول الشعر". وبشيء من الحنين يضيف محمد كعوان: "وأنا اليوم أستجمع ذاكرتي لأعيد شتات ما علق بها من نصوص شعرية تعود إلى بدايات تجربته بنحو ربع قرن أرى بأن تلك النصوص لا زالت تصنع تميزها الشعري وكأن الذي كتبها قد عاش دهرا من التجارب واكتسب خبرة وأسلوبا شعريا خاصا به. كان مالك شديد الحساسية تجاه الأشياء والعالم من حوله، يفكر شعريا بعقل الخبير الكبير، لكنه ينفعل لأبسط الأشياء ويتصرف أحيانا بطريقة غريبة، فقد كان يعيش قلقا وجوديا، قلق الشاعر الثوري الذي لم يحقق أحلامه في واقع مأزوم يتجاوز رؤيته، حيث صار العالم ماديا لا ينظر إلى منتجي الأفكار بل إلى ممتلئ الجيوب والبطون. يقول دلتاي: -نحن نفسر الطبيعة، أما الإنسان فينبغي علينا أن نفهمه-. كعوان استطرد أكثر في الحديث عن مالك الصديق، قائلا: "إن أكثر شيء مؤلم بالنسبة لنا كأصدقاء الشاعر الراحل مالك بوذيبة هو أننا لم نفهمه حق الفهم، رغم المسافة القريبة جدا بيننا وبينه، فإن لم نفهمه نحن أصدقاء طفولته وشبابه وكهولته، فكيف نلوم الآخر. لقد كان مالك كثيرا ما يردد العبارة الشهيرة (عاش جوعانا ولما مات علقوا له عرجونا)، وباستهزاء كبير وسخرية متعمدة وكثير من الألم الداخلي الدفين يردد مثل هذه العبارات الواضحة الدلالة لأنه أيقن أن الناس لا يفهمون رمزية الشعرية، فقد ظل لربع قرن يقول شعرا، معبرا عن ذاته، عن آلامه وآماله، كاشفا بلغة واضحة عن موقفه، بل مواقفه الثابتة التي لا تتغير، معريا إحساسه المأساوي تجاه الكون والحياة، غير أن الجميع لم يلتفت إليه، ظنا منهم أنه يبالغ كثيرا في تعبيره عن جوعه وحرمانه ورغبة الملحاحة دوما للموت، وقد مارست جسور قسنطينة غواياتها على شاعرنا، حيث كان حينما يزورنا بالجامعة في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن الماضي يحاول جاهدا الانفراد بتلك الجسور عله يحقق حلما ظل يسكنه لوقت طويل، إنه الخلاص من هذا العالم الموبوء المليء بالفوضى و اللاعدل، إنه عالم لا يستحق أن يُعاش على حد قوله، فقد عاش مالك بيننا غريبا، ليس غريبا في وطنه الكبير فحسب بل في قريته الصغيرة أيضا، وبين أفراد عائلته فقد عانى شتى أنواع التهميش، فالبطالة الطويلة أكسبته فقرا مدقعا، وهو الطموح السخي الذي لا يدخر شيئا لغده، فقد كان ينفق ما يحصده من الجوائز الوطنية في لحظات، أو أيام قلائل، وربما كان يعي جيدا أن الموت الذي حصد أفراد عائلته الواحد تلو الآخر سوف لن يرجئه إلى وقت بعيد". إن مالك يضيف كعوان: "هو شاعر الموت بامتياز، الشاعر الذي ظل يغالب الموت بالشعر، فقد عاش تجربة الموت، واكتسب حسه الجنائزي من خلال ما عايشه منذ طفولته –موت أفراد عائلته– هذا الموت الذي كان يزور بيته الصغير كل مرة ليأخذ عزيزا على قلبه، أمه، أخوه سعد، أخته، أخوه عمار ثم الأب، ليتركه حبيس وحشته المطلقة، لا القصائد باستطاعتها محو تلك الوحشة، ولا الأصدقاء ولا الأهل، إنها غربة الشاعر الوجودية، يُضاف إلى كل هذا ألمه الدفين والذي نعتقد أنه السبب الرئيس في تعاسته، إنه مرض فقر الدم، فقد أكسبه هذا المرض جسدا ضعيفا، وصوتا هامسا، ونظرة شاحبة، وهو الأشقر البهي الذي عاش وسط بيئة لا تشبهه في شيء، تراه وسط الجموع من بعيد فتميزه عن غيره، لكن هذا الاختلاف لم يرضه، بل كان مصدر إزعاج وقلق دائمين، أذكر أننا كنا نسبح يوما بشاطئ عين أم القصب بالقل، حيث انتابه شعور بأن العالم كله ينظر إليه، فقد كان يتحسس بشكل كبير من بياض بشرته، وبكونه ملفتا للانتباه، ورغم هذا القلق والنقمة تجاه جسده، كان يصنع النكت التي تُروِح عنه". وفي نهاية حديث كعوان عن الراحل مالك يؤكد قائلا: "إن مالك هو ظاهرة إبداعية تستحق كل تقدير، وإني أراه قد أبقى لنا ما يحفظ به تميزه شعرا ونقدا، ورسائل شعرية أيضا كان يبعث بها إلى أصدقائه في كل ربوع الجزائر. وسيظل مالك في قلوبنا رمزا للتحدي ومغالبة المجهول، فقد غالب الموت بقصائده الشعرية، وهي وسيلته المثلى للانتصار والبقاء".