المغارة المتفجرة.. رواية العالم بنشوة وهذيان رفعت الباحثة الجامعية بوشريط ميساء إكرام رهان فك الرموز في رواية "المغارة المتفجرّة" ليمينة مشاكرة التي غيّبها الموت أمس الأول بالعاصمة و التي أكدت الباحثة بوشريط بأن بحثها عبارة عن محاولة قراءة نشوة و هذيان مشاكرة الأديبة، خاصة الجانب الخرافي الأسطوري بكل دلالاته الثقافية و السياسية و الاجتماعية. الباحثة وجهت دراستها التي هي رسالة ماستر 2 بعنوان" قراءة انتروبولوجية (تحليل ميتولوجي ونقد- اجتماعي) حول رواية المغارة المتفجرة ليمينة مشاكرة" منذ البداية نحو الثقافة العربية الإسلامية لما احتواه نصها الروائي من دلالات متعلّقة بهذه الثقافة من جهة، و تأكيد الأديبة نفسها على ذلك خلال اللقاء الذي جمعها بالباحثة، مما ضاعف رغبتها في إبراز هذا الجانب. و كان لقاء الباحثة بالأديبة يمينة مشاكرة بمستشفى الأمراض العقلية قرين حسين بحسين داي بالعاصمة. حيث كانت تمارس عملها كطبيبة مختصة في الامراض العقلية و شاءت الأقدار أن ترقد فيه هي نفسها و تعالج هناك فترة من الزمن قبل إصابتها بمرض عضال وضع نقطة نهاية لقصة لم يقرأها الكثيرون عنوانها يمينة مشاكرة التي ترك الأديب كاتب ياسين بصمته على أول رواية لها كادت أن تبقى رواية يتيمة في حياة أديبة متميّزة لولا ازديان رصيدها الأدبي برواية ثانية تعد تكملة للأولى اختارت لها عنوان"آريس" لم تحظ هي الأخرى باهتمام النقاد و الباحثين الجامعيين تماما ك"المغارة المتفجرّة "التي قالت عنها الباحثة بوشريط بأنها تخفي ذكاء أديبة تأثرت جدا ب"نجمة" كاتب ياسين الذي ترك بصمته على مقدمة أول باكورة تكتبها أديبة شابة في سن الثلاثين آنذاك. و ترى الباحثة بأنه مثل "نجمة" كانت بطلة "المغارة المتفجرة" شخصية غير محددة المعالم، لكن بدلالات كثيرة و رموز تحتاج إلى تأمل كبير لفكها، مؤكدة بأن القارئ قد يجد مجاورة بين "نجمة" كاتب و بطلة "المغارة المتفجرة" التي لم تمنحها الكاتبة اسما ربما وفقا لفلسفتها في الحياة والأدب، باعتبار أن الأسماء لا معنى لها كما المكان و الزمان حيث فضلت مشاكرة تركها مجهولة، لولا الإيماءات القليلة التي تشير إلى أنَ أحداث الرواية وقعت في زمن الاحتلال الفرنسي و إن كانت صالحة لكل زمان و مكان، لاعتمادها أسلوبا خاصا في تقديم معلومات تاريخية كثيرة بشكل فوضوي أشبه بحالة من الهذيان الذي يخفي ذكاء أديبة حاولت الإلمام بكل الأحداث القديمة و الجديدة و تصوير واقع جزائر لم تتخلص من معاناتها الكثيرة و تواصل نضالها من أجل انتزاع حقها و فر ض احترامها على الجميع بفرض ثقافتها و الحث على احترامها و هي الرسالة التي ترى الباحثة أن يمينة مشاكرة أرادت إيصالها للعالم. و إذا كان الارتباط العميق بقسنطينة نقطة تجاور أخرى مع "نجمة" كاتب ياسين، فإنه عكس بطلته التي لم تأخذ أبدا الكلمة، كانت بطلة "المغارة المتفجرة" المولودة بقسنطينة و العاشقة لآريس، رغم إخفاء هويتها، لها كلمتها باعتبارها مجاهدة صعدت إلى الجبل و هو ما أرادت الكاتبة من خلاله أن ترمز للتغيير الجذري للوضعية الاجتماعية للمرأة بعد الاستقلال و هو ما برز من خلال ضمير المتكلم "أنا" الأنثوي الذي طغى على الرواية. و تعتقد الباحثة أن قسما من السرد في "المغارة المتفجرّة" قد تكون له علاقة بالكاتبة يمينة مشاكرة نفسها، معتبرة طريقة السرد في هذه الرواية كحدث لغوي قائم في جزء كبير منه على خدمة الاستعارة. و توقفت الباحثة عند دلالة المغارة في رواية يمينة مشاكرة التي وجدت فيها رمزية المأوى، الحماية و اليأس أيضا. حيث تقول بأن "المغارة"هذا الفضاء الطبيعي الموجود منذ خلقت الأرض و من عليها ، كان دائما مكانا للمأوى و الاحتماء و الاختباء من المخاطر، مثلما برز ذلك في مختلف الروايات و الأساطير على مر الزمان و حتى في الكتب السماوية المقدسة و التي ورد فيها قصص عن احتماء الأنبياء و الصالحين في المغارة، و خصت بالذكر أهل الكهف و قصة النبي محمد في غار حراء. و ترى الباحثة بأن بطلة القصة التي كانت هي الأخرى يتيمة الأب و الأم ، اختارت اللجوء و الاختباء في المغارة لمقاومة كذبة "الجزائر فرنسية"مستمدة قوة تحملها و مقاومتها من أسلافها البربر و النوميديين. كما كانت المغارة مكان لنهضتها، و موقع أهم الأحداث التي غيّرت مجرى حياتها "قمت بمئات الخطوات أمام المغارة...و في الوقت الذي كانت الثعالب تضبح من شدة البرد...كنت أشعر بأنني أقوى من الحياة، من المجهول، من القدر" تقول البطلة التي بإنجابها لطفلها "آريس"تصبح أكثر قوة و تحاول أن تفرض وجودها بالانتقال إلى الحديث باستعمال ضمير المتكلم "أنا"بعد أن بقيت منذ بداية القصة مجهولة. و تضيف الباحثة بأن الأديبة وجدت في المغارة الحماية الفعالة للثورة الجزائرية و مكنتها من إيصال ذاكرتها إلى الأجيال و هو ما عبرت عنه يمينة شخصيا في حوار سجله معها الإعلامي رشيد مختاري بالقول" أكتب بقلبي ...نصوصي...عبارة عن ولادات عسيرة و مؤلمة. وحدها الأم قادرة على أن تسمح...لكن أمي الصغيرة هي الوطن ، هي صورة لنساء خنشلة اللائي ثرن عام 1916 و قاومن فرنسا التي كانت تأخذ أبناءهن لتجنيدهم في الحرب العالمية ، و في ثقافتنا الأم حارسة للذاكرة و مركز المجموعة ، المجتمع ، المغارة.." و بالاستناد إلى الأسطورة دائما، تستخرج الباحثة الصورة المزدوجة التي تخفيها مغارة مشاكرة و المتمثلة في الأمل و اليأس في آن واحد. حيث اعتبرت الكهف المأوى الوحيد الذي يعكس في ذات الوقت خوف المجاهدين من البقاء مسجونين داخله و ما يطبع ذلك من تشاؤم و يأس كبير ،كما جاء على لسان إحدى شخصيات روايتها، الطفل صالح: "نحن محكوم علينا ، أنظر، من كل هذه الأرض لم يتركوا لنا سوى مغارة لن تلدنا أبدا."في إشارة إلى استمرار احتلال الجزائر لمدة تجاوزت القرن من الزمن. لكن سرعان ما تعود صور الأمل لتشع من جديد من خلال أماني البطلة و تفاؤلها بأن معجزة ستحدث"أطفال ينامون تحت سماء السلام، فوق أرض الحلم". عبارات التفاؤل و الأمل كانت أقوى من كل المخاطر و المغامرات الصعبة و المفاجآت غير لسارة التي يبقى معنى المغارة عبر الأزمنة يعكسها. كما رأت فيها تأثير الفلسفة الصوفية على الكاتبة التي لم تخف اقتناعها بأن الجبال و المغارات كانت دائما مأوى الباحثين عن الطمأنينة و السلام الداخلي. و لم تغفل بوشريط التي تعد الباحثة الأولى على مستوى جامعة قسنطينة التي درست كتابات الأديبة التي غيّبها الموت أمس الأول، التنوّع الثقافي داخل الوطن الواحد و حلمها في إقرار المساواة بين الجميع مهما كانت انتماءاتهم و ثقافاتهم و معتقداتهم ملخصة ذلك في فقرة جاء فيها: "حملوني من السويقة القسنطينية، و نقلت من ميتم إلى آخر، و من عائلة محسنة إلى أخرى...يوم السبت، كنت أتخلى عن فستاني و تاج الإسلام من أجل الفستان و التاج اليهودي...بالنسبة لي، السماء تضم ثلاثة عوالم أين لم تكن تقيّدني حدود و هو عالم موسى، عالم عيسى و عالم سيدنا محمد...". و لم تتوّقف قدسية المغارة عند حدود الدين و المعتقدات، في نظر الباحثة التي راحت تستعين بمكانتها في الميثولوجيا اليونانية و كيف استغلها هوميروس في ملحمته "أوديسة" أين وجد بطله يوليس المأوى و واجه المفاجآت و المخاطر و وجد مصدر الثروة أيضا. و حمل الجزء الثاني من رسالتها "قراءة انثروبولوجية لرواية المغارة المتفجرّة" دراسة نقدية اجتماعية ل "المغارة المتفجرة" فكان لقسنطينة، تونس و آريس حضورا ملفتا بها لا يمكن المرور عليه دون التوقف عند تأثيرات المدينة و ممارساتها بتمثيلاتها العقلية التي لا يمكن فصلها عن روح و عمق وجدانية الكاتبة و انفعالاتها لما تمثله المدينة من تداخل ذاتي، هوية، بنية و دلالات وظيفية و رمزية تعكس مرجعية ذاتية. قد يكون من الصعب تحديدها، لقلة المعلومات عن الكاتبة التي وجدت الباحثة صعوبة في جمع المعلومات بخصوصها، بما فيها الرواية التي بحثت عنها طويلا قبل أن تتمكن من إيجاد نسخة و الانطلاق في دراستها. هو ما رأت فيه إجحافا في حق أديبة متميّزة باعتراف الأديب الشاعر كاتب ياسين. كل هذا حفّز ميساء إكرام بوشريط على العمل بجد لإبراز جوانب مهمة في رواية قالت أنه ليس من السهل قراءتها، و على القارئ إعادة قراءتها مرة و مرة لفهمها، لما تحتويه من دلالات كثيرة من الصعب تحديدها في قراءة واحدة و معاينة مختلف المستويات لما تحمله "المغارة المتفجرّة" من متحف خيالي صوري تتعايش فيه كل الثقافات و الأجيال المتعطشة للحرية و السلام و القبول و الاحترام. يمينة مشاكرة ركزت على العلاقة الموجودة بين الفضاء و المجتمع، لإيمانها بأن المجتمع الذي يريد الحرية، عليه اجتياز كل الحدود و الحواجز و هو ما بدا جليا من خلال تنقلات المجاهدين الذين تنقل كل منهم من منطقته المعيّنة لخدمة الجزائر، لكن المرأة الوحيدة بينهم غادرت قسنطينة الخالدة التي لا يمكنها نسيان قصتها، طقوسها، ثقافتها، جسورها."أنا، ولدت من أب و أم مجهولين في عمق قسنطينة الرطبة و القديمة"، إشارة إلى ماضيها و تاريخها العريق، لكن بأسلوب يجعل القارئ يشعر بصد الكاتبة لهذه المدينة لما تضمنه من كبت و لا وضوح، قبل أن تنتقل إلى تونس الفضاء الثاني بعد منطقة الغرب التي برزت من خلال شخصية الأمير عبد القادر، لكن تونس كانت بمثابة فضاء الخلاص و الراحة لكن راحة جهنمية بذكريات مفعمة بالمكبوتات و الأشياء التي لم تقال و التي لخصتها في إقامة بطلتها في مصح "منوبة العقلي". و يا لغرابة القدر و تشابه نهاية البطلة التي انتهى بها المطاف بمصح عقلي تماما كالكاتبة التي شاءت الأقدار أن ترقد بالمستشفى الذي طالما ساعدت و عالجت فيه مرضى عانوا الانهيارات و الأمراض العقلية. أنهت أيامها ببيت متواضع ارتأى زملاؤها وضعها فيه بدل إبقائها بعنابر المصح بعد تدهور صحتها و إصابتها بمرض عقلي ،أبعدها تدريجيا عن عملها الذي كرّست له كل حياتها. حيث مارست مهامها بمستشفى بولاية الشلف في ثمانينات القرن الماضي، ثم بقرية قريبة من مسقط رأسها مسكيانة بالأوراس سر اختيارها لامرأة شاوية لتمثيل نساء الجزائر في روايتها و نقل الذاكرة باعتبار الأم دائمة التواصل مع أبنائها. تماما كما اختارت الحديث عن آريس خلال رحلة سفرها من قسنطينة إلى تونس، مرورا بهذه المنطقة التي تمثل مكانة كبيرة في قلبها لا تختلف عن مكانة قسنطينة التي احتضنتها "سكنت تونس و فكرت في قسنطينة، سكنت تونس و فكرت في آريس"،إشارة إلى مكانة المنطقتين عند بطلة "المغارة المتفجرّة". و مثلما كانت لقسنطينةالمدينة دلالات كثيرة، كانت لآريس أيضا رمزية واسعة باعتبارها رمز البربرية "الشاوية"التي تعكس الجذور الحقيقية للكاتبة نفسها التي حتى لو أنها غابت عن الساحة الأدبية لم تتوّقف عن عشقها لآريس التي خلدتها في رواية ثانية و أخيرة موسومة باسم هذه المدينة، و التي هي عبارة عن تتمة لروايتها الأولى، باعتبار بطل القصة هو نفسه ابن بطلة القصة الأولى الشاوية المجهولة الاسم، و التي لا زالت هي الأخرى تترّقب إماطة الستار عنها و خصها بدراسات أدبية و نقدية من شأنها إنصاف كاتبة طالما عاشت في الظل قبل أن ترحل في هدوء. مريم بحشاشي