رحيل شاهد أساسي على نجم شمال أفريقيا بقي وفيا لمصالي توفي أمس المجاهد و المناضل المثير للجدل رابح بلعيد إثر جلطة دماغية عن عمر بلغ 86 سنة. الراحل عمل كأستاذ للعلوم السياسية في جامعة باتنة، التي كان له فيها مواقف مشهورة و مثيرة للجدل خاصة ما تعلق بخصومته التاريخية مع منظمة المجاهدين لولاية باتنة. و هي الخصومة التي بلغت أروقة العدالة و كادت تكلف المؤرخ و المناضل و المجاهد منصبه كأستاذ للعلوم السياسية في جامعة الحاج لخضر بباتنة، و على مر السنوات عبر بلعيد عن مواقفه المؤيدة لزعيم الحركة الوطنية الجزائرية حاج مصالي ، و الذي بقي وفيا له حتى آخر عمره، حيث شارك قبل أشهر في احتفالية مئوية رفيق مصالي المناضل عبد الله فيلالي في قسنطينة، و قال أن نجم شمال أفريقيا كان له برنامج متكامل لبناء إتحاد شمال افريقيا بعد الاستقلال. أذكر أنه في تلك المرة الأخيرة التي التقيته فيها قبل أشهر من وفاته كان حريصا على تذكير مستمعيه بكافة مكونات تاريخ الحركة الوطنية، و قال مباشرة بعد أداء نشيد قسما أنه كان لحزب نجم شمال أفريقيا نشيد بعنوان فداء الجزائر و كان المناضلون يؤدونه في الجبال قبل اعتماد نشيد قسما، و قام مساعد له بتوزيع نسخ من النشيد على الحاضرين في مئوية فيلالي. سافر بلعيد كثيرا عبر العالم بفضل عمله في السفن التجارية و قادته الرحلة إلى إيطاليا ثم إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية و إلى أطراف المعمورة عبر السفن التجارية ، و خاض تجربة تعليمية مثيرة توجت بالحصول على الليسانس في العلوم السياسية من جامعة سان فرانسيسكو سنة 1957. ثم قام برحلة إلى القاهرة و انضم كإطار إلى الحكومة الجزائرية المؤقتة بعد إنشائها في سبتمبر 1958. و كان قد تولى مهمة تمثيل جبهة التحرير الوطني في نيويورك لفترة قصيرة للتعريف بحقيقة الثورة الجزائرية في أمريكا، و قام بالمهمة بعده الوجه التاريخي زعيم جبهة القوى الاشتراكية حسين أيت أحمد. الفقيد رابح بلعيد من مواليد 20 نوفمبر 1927 من أسرة فقيرة في وادي السبت التابعة لبلدية بومدفع دائرة مليانة بولاية عين الدفلى عانت ويلات الفقر و الحرمان في جزائر الاستعمار الفرنسي بدأ حياته يرعى ماعز و بقرات جده في الجبل، ثم انتقلت أسرته إلى حمر العين و العفرون بالمتيجة و هناك عمل كفلاح صغير لم يتجاوز من العمر 12 سنة لدى الكولون و هي المرحلة التي أثرت في تكوين شخصيته، مثلما كانت سلوكات الجندرمة الفرنسية عاملا ساعده على اكتشاف هويته و بناء شخصيته كجزائري يقول عنها في مذكراته "كان عملنا في المتيجة موسمياً مقسما بين جني العنب صيفاً وتقليم أشجاره شتاءً ونزع الأعشاب الضارة ربيعاً، وقد كان فصل الشتاء أشد إيلاماً، لأننا كنا نضطر إلى النوم في الحقول؛ نفترش الأرض ونلتحف السماء، ليس بيننا وبين برد الليل وصقيع الصباح ما يحمينا. في الوقت ذاته الذي كانت أحصنة المعمرين تأوي هانئة إلى إصطبلات دافئة ومريحة. فغير ما مرة حاولت مع أخي التسرب إليها تحت لسع الصقيع لننعم معها بالنوم فوق التبن الدافئ الوثير". عمل أيضا كماسح أحذية في العاصمة بعد فترة و قال في مقطع آخر من مذكراته "انتابني شعور مخيف بالوحدة وأنا جالس على الرصيف، فرحت بعدها أسير في الشوارع الضيقة، ثم قررت العودة إلى جدار مبنى البريد أين قضيت أياماً كثيرة أتعهد أحذية الفرنسيين بالمسح، فقد شعرت بأن الأضواء المتلألأة والشوارع النظيفة الواسعة في أحياء الأوربيين تستخف بشعوري بالوحدة والحزن. وهكذا بقيت أمشي على غير هدى إلى أن انتصف الليل ونال مني التعب، رحت أبحث من شارع إلى شارع عن مكان أريح فيه جسدي وأقضي به ليلتي، ولكن دون جدوى فقد كانت كل أبواب العمارات مغلقة، إلى أن ولجت زقاقاً ضيقاً حوالي الواحدة صباحاً وجدت به باب عمارة مفتوحاً، نظرت حولي لأتأكد من خلو المكان، ثم دخلت المبنى واختبأت تحت سلالمه الملتوية. كانت فرائصي ترتجف من شدة البرد، ولكنني رغم ذلك تمددت على الأرض منكمشاً على نفسي ومتوسداً صندوق الخشب، غير أنني لم أغمض عيني حتى لمحت رجلاً في منتصف العمر يطل من الطابق الأول، ويصب علي ماء بارداً مثل الثلج وهو يصرخ بأعلى صوته" أخرج أيها الخنزير"، وهنا تعجز الكلمات عن وصف موقفي وشعوري لحظتها، ولكن يكفي أن أقول بأنني كنت أشبه الديك الذي ألقي به في بركة ماء متجمدة". من مواقفه و هو في سان فرانسيسكو بالولاياتالمتحدةالأمريكية أنه كان على علاقة بإحدى الأمريكيات لورين لاتروب التي جمعته بها قصة حب جارفة، و في 27 جويلية 1956 بعد يوم واحد من تأميم قناة السويس في مصر من طرف جمال عبد الناصر و ما تلى ذلك من حرب. بعث لها رسالة يعلن فيها عن قطع علاقتهما بسبب ما اعتقد أنه صراع ثقافي حضاري، و قال في مقاطع من رسالته إلى حبيبته بلغة شاعرية رهيفة و حس عميق "يجب أن لا نحمل على عاتقنا القسط الأكبر من اللوم، لأننا لسنا من ينسج خيوط قدرنا الغامض و لكنه المجتمع برمته، إننا كفردين ننتمي إلى ثقافتين مختلفتين حاولنا بكل شجاعة أن نتحدى المفهوم القديم : ( الشرق شرق ، و الغرب غرب و كلاهما لا يلتقيان أبدا ) و لكننا فشلنا. فمن نحن حتى نرجو أو نلتمس من المنطق الإنساني أن يعيننا على مواجهة النفاق و التعصب المسيطرين على ثقافتينا ؟ كم هو محزن عندما نحاول في أحلامنا أن نمسك بآمالنا ، و لكننا نستيقظ لكي نجد أنها قد اختفت، فذلك هو الثمن الذي يدفعه الحالمون".