هل حان الوقت لكشف بعض الملابسات عن أحداث بقت غامضة من تاريخنا؟ وما الذي لا نعرفه عن ثورتنا؟ أو ما الذي لم يُقل لنا بعد؟ أو هل نحن مُضطرّين أن نٌبقي هذه الثورة، وحقائق عن الشخصيات التي صنعتها، وبعض الأحداث التي وقعت خلالها، نبقي كل ذلك حبيس الأدراج إلى حين؟ لا شكّ أننا لن نجيب على كلّ هذه الأسئلة في حوارنا هذا، ولو أنّ ضيفنا سيصدر كتابا تحت عنوان:"الحقائق التراجيدية التي لم تُقل بعد!" إلاّ أننا سنحاول أن نتطرق معه إلى بعض المواضيع، والتي، وإن لم تكن يقينيات، فإنها من دون شك ستفتح ابوابا أخرى للبحث. أمّا ضيفنا فهو ارزقي باسطا، أحد صنّاع تلك الثورة، التحق بحزب الشعب سنة 1945، ثمّ حركة إنتصار الحريات الديمقراطية سنة 1946، وكان على رأس أوّل كوموندو مسلح بالقصبة، عاش الثورة، والغربة، والسجن، والتعذيب، والخيانة، والمأساة، واستشهد اثنا عشرة فردا من عائلته، ورغم ذلك كله بقي محافظا على مبادئه، وأهدافه التي من أجلها التحق بالنضال وسنّه لا تتجاوز الخمسة عشرة سنة، كان صريحا معنا، وهو يتحدث عن حقائق قال لنا عنها أنها عبء يثقل حمله، وأنّ الأجيال من حقّها أن تلم بكلّ تاريخها، وخاصّة ثورة بحجم ثورتنا، ولأننا بدأنا مقدمتنا هذه بسؤال ننهيها بسؤال آخر، فهل ستشجع، أو تضطّر هذه الشهادة الآخرين إلى الحديث؟ حوار وتصوير:مصطفى مهدي. سيدي سيصدر لك كتابك "الحقائق التراجيدية التي لم يتم التحدث عنها" باللغة الفرنسية بعد أن صدر بالعربية قبل أربعة عشرة شهرا، فلماذا هذه التسمية؟ المنتج إقترح هذا العنوان الذي رآه مناسبا، وأقول لك أنّ هذا الكتاب أصدرته بعد أن أدركت الحاجة الماسّة إلى ذلك، خاصّة بعد الذي عشته.. بعدما ما رأيت في السجون... والصحاري... والجبال... والمناضلين الذين تمّت تصفيتهم ظلما، وصاروا مجرمين وحركى، فقط لأنّ الجبهة هي من أمرت بتصفيتهم... ومُناضلين آخرين يأتون إلى تونس لكي يأخذوا السلاح، فيُقبض عليهم، ويتمّ قتلهم... وشخصيات تاريخية هُمشت، وأخرى لعنها التاريخ والبشر أجمعين. صرنا نترقب الكتب التي تتناول التاريخ بحذر وخوف، والبعص صار يحسب أنها تحوّلت إلى وسيلة لتصفية الحسابات؟ لا، لم يأت كتابيّ هذا لتصفية حسابات، أو النفخ في رماد الفتنة، ولكن قلت ما قلت للأمانة التاريخية، ورسولنا عليه الصلاة والسلام يقول أنه ليس هناك أسوأ ممن يعرف شيئا ولا يقول، وممن يقول ولا يفعل. بالعكس سمحت للكثيرين ممن ظلموني، ولقد جاءني يوسف بن خدة، رحمه الله، وطلب مني الصفح، فصفحت له، لأنه كان ضحية، حاولت في كتابي هذا أن أُزيل بعض الغموض على بعض الأحداث، وأفيّ بعض الشخصيات حقّها، وأذكر شهادتي عما عشته بصدق. الكتب كان قد تقرر إصداره قبل هذا التاريخ؟ أجل، كان سيصدر سنة 1968، ولكنه توقف، أرسلت نسخة منه في ذلك الوقت إلى الرئيس الراحل هواري بومدين، كان ذلك سنة 1972، وأرسلت نسختين إلى عقيدين سنة 1974، ووزيرين، سعيد لعزوزي، وعبد المجيد اوشيش، وأرسلته كذلك للمخابرات سنة 1986. (نقاطعه قائلين) وكانت الإجابة فيما كلّ مرّة أنه لم يحن الوقت بعد للتعرض لهذه القضايا؟ (يجيب مبتسما) أجل هكذا يقولون. حسنا، ولو أننا لن نستطيع التعرض في حوارنا هذا إلى كلّ تلك الحقائق التي لم يتمّ التطرق لها، إلاّ أننا سنتحدث قليلا عن بعض المُلابسات، ولكن قبل ذلك ماذا لو عدنا إلى قراركم بالإلتحاق بالعمل الثوري؟ كان ذلك سنة 1945، أي بعد الحرب العالية الثانية، وكان في عمري خمسة عشرة سنة عندما، التحقت بالحركة الوطنية، وكنت فرحا بوجود حزب الشعب، خاصّة بعد أن تعرض أبي لإعتقال من طرف قوات الإستعمار، إذ كان يملك مطعما، فجاءه بعض الشرطة الجزائريين، من الذين يعملون مع فرنسا، وفي ذلك الوقت كانت الوجبات تباع بالتذاكر، ولكن شرطيا من هؤلاء أراد أن يأخذ منه الزيت مجانا، فلم يوافق أبي، فأخذ منه الشرطي كيس بطاطا، متهما إيّاه بأنه إشتراه من السوق السوداء، فتمّ إعتقاله وأُخذ إلى مركز الشرطة، الدائرة الأولى بساحة الشهداء. أمّا أنا فكنت في الثالثة عشرة سنة، وكانت تلك الحادثة بمثابة الصدمة التي جعلتني أعي على حقيقة الإستعمار، والظلم المُمارس علينا كجزائريين من المحتّل، وعندما دخلت إلى ذلك المركز لكي أسأل عن أبي، أوّل من وجدت كان محافظ الشرطة، والذي يُسمى "باييه" سألته عن أبي، فطردني، ولكنني لم أشأ الذهاب، فصفعني، وكانت أوّل صفعة أتلقاها من الإستعمار الغاشم، فشتمتهم جميعا، إلى أن جاء أبي فصفعني هو الآخر، ولم أفهم كثيرا، ولكني لم أفكر حينها إلاّ في شيء واحد، وهو أنّ ظلما مُورس علي، وأنه يجب أن نعثر على حلّ ما لإيقاف هذا الظلم، ورغم أنهم أطلقوا أبي بعد ذلك، إلاّ أننا بقينا نُعاني من الإضطهاد، فإخوتي كذلك تعرضوا لحوادث مشابهة، ما جعل حقدي يتنامى إتجاه هذا العدو، ولكني لم أكن أعلم ما أفعل ولا كيف أرد، إلى أن إلتقيت مرّة بشاب مثلي، وهو علي حمزة، وكان منتميا إلى حزب الشعب، وقصصت عليه ما حدث لي، وما يحدث لنا جميعا، ورفبتي الشديدة في التحرك، فقال لي أنّ هناك رجال يُحاربون من أجل أن تستقلّ البلاد، وكان يقصد، طبعا، حزب الشعب، فإلتحقت به، وصرت أصغر مُناضل بينهم، حتى أنني في إجتماع الحزب السري كنت أصغر عضو، لكني كنت فرحا، لأنني عثرت على أشخاص لي معهم عدو مُشترك وهو فرنسا المستعمرة، ومن تلك الفترة إلى الفاتح من نوفمبر وأنا مُناضل، وعندما بلغت السادسة عشرة من العمر، صرت مسؤول خليّة، ثمّ مسؤول فوج، ثمّ صرت مسؤولا عن كلّ القصبة، إلى سنة 1954، حيث إنتفضت تونس من جهة، والمغرب من الجهة الثانية، وليبيا كانت حرّة، أي الحدود الشرقية والغربية للجزائر إنتفضت، فأرسل مصالي الحاج أمرا بأن يلتحق الحزب بهذا الحراك، وينتفض، ولو أنهما لم تكونا مستعمرتان، بل تحت الوصاية، ولكن لم يستمع إلى صوته أحد، ذلك أنه كان معزولا. ما الذي جعل المناضلون لا يستجيبون لدعوة مصالي الحاج للإنتفاض؟ أقول أنه بعد أن وضع مصالي الحاج تحت الإقامة الجبرية إنحرف بعض المُناضلين عن مسار النضال، وصار خطابهم ينحصر في جمع الأموال، وبيع جريدة "الجزائر حرّة" ولكننا، نحن مُناضلو القاعدة حينها، كنا ننتظر بفارغ الصبر مرحلة اللإنتقال إلى العمل والفعل، حتى أنّ بعض منا خرج من الحزب إحتجاجا. أي أنّ مصالي الحاج لم يكن يوما ضدّ العمل الثوري، وإنما إطارات الحزب هم من كانوا يتماطلون؟ بالفعل، وأناأردّ على كلّ هؤلاء الذي كانوا، ولا زالوا يدّعون أن مصالي ليس ثوريا. لقد ذهبت بنفسي لملاقاة هؤلاء المركزيين عندما سمعت بأنّ مشكلا يقع داخل الحزب، دخلت إلى شارع عمر القامة، حي شارت سابقا، حيث كان مقرّ الحزب، أوّل من التقيت به من المركزيين كان لحول حسين، سألته إن كان هناك إختلاف بينهم وبين مصالي، فأجاب أن نعم، وعندما سألته عن السبب قال أنّ مصالي يريد أن يُفجّر الثورة، فإستغربت من كلامه، وسألته عن سرّ رفضهم لهذه الفكرة، فتعذّر بقلّة الإمكانيات والأموال والمُناضلين، وغير ذلك، ثمّ إلتقيت بعدها بمزغنة، والمفروض أنه كان ممثلا لمصالي. ألم يكن كذلك؟ بلا، ولكن في الحقيقة هو وكلّ من إتبعه مثل مولاي مرباح، لم يفعلوا ذلك حبّا في مصالي، أو إيمانا بمبادئه، ولكن طمعا في المسؤولية، أي إدارة الحزب، والدليل سنة 1957 طرد مولاي مرباح. وكيف كان ردّ باقي المناضلين من الإنقسام؟ كان هناك مُناضلو القاعدة الذين كانوا يجهلون ما وقع، فقط الإدارة كانت على علم، وكانت تخشى من مناضلي القاعدة الذين كانوا مُتشبثين بفكر مصالي، وتوّاقين إلى المرور للعمل الثوري، ولهذا لم يقف أحد مع المركزيين في البداية، بل بقي الجميع مصاليا. وأنتم بحثتم عن حلّ بين الطرفين المتنازعين؟ أنا اجتمعت في العاصمة، بعد ما قاله لي لحول حسين، إجتمعت مع مساعداي:صادق طايبي، وعيساني عمر، إجتمعنا فقلت لهم أنه علينا أن نجمع مُمثلين من الطرفين، أي من اللجنة المركزية، ومن المصاليين، لكي نرى في الأمر، ونُحاول أن نجد حلا ما، وكان ذلك في شهر مارس، وحضر سيدعلي عبد الحميد من المركزيين، ومزغنة عن المصاليين، وقمنا بجمعهم، وكان هناك كلّ مُناضلي القصبة، ودام الإجتماع إلى الساعة الثالثة صباحا، ولم يتمّ الإتّفاق على شيء، لا حل ولا شيء. وكان هناك إجتماع ثاني في أواخر شهر ماي، ولكن المركزيين كانوا قد قاموا بإستدراج بعض مناضلي القاعدة الى صفهم، وتمنكنوا من ذلك، خاصّة وأنهم هم من كانوا يدفعون لهم أجرهم، فوقف، بالتالي كثيرون في صف المركزيين، ولكن في ذلك الإجتماع الثاني، والذي ضمّ مناضلي القصبة، وحضر طيبي الصادق، بلقاسمي، عميروش، حساني وغيرهم، إلى أن قام مناضل قديم في المنظمة السرية، وهو عمر حمزة، وكان صائغا مبدعا، وكان الجميع يقصدونه، وحتى يهود العاصمة كانوا يأتون إليه، وكان منظما لكوموندو"البربريست"... الكوموندو الذي تمّ ابعاده من الحزب؟ أجل، لكن كان ذلك ظلما. هلا توقفنا عند هذه النقطة؟ سنة 1950، بناي واعلي، آيت حمودة، وعمر أُوصديق، وآيت احسن، ساعدوا سعيد قلال للهروب من السجن، وذلك بعد أنّ طلبت إدارة الحزب حينها من السعيد أن يُسلم نفسه للشرطة حتى لا ينكشف أمر الحزب والمُنظمة السرّية، وأ،هم هم من أرسلوه، على أن يساعدوه على الهرب، فوافق، ولكنهم لم يفوا بوعدهم، ومرّ شهر، وتركوه مرميا في السجن، ينتظر حكم الاعدام، فقام كوموندو "البربريست" بالعملية لوحده، وفعلا، ساعدوه على الهرب من الشرطة ومن حكم الإعدام. وبعدها تم طرد الكوموندو من الحزب. نعود إلى المناضل عمر حمزة، ماذا قال لكم عندما قام؟ في البداية عرّف بنفسه من أنه من الشباب الذين التحقوا بالنضال بعد خطبة مصالي الحاج في ملعب عشرين أوت، وسرد علينا الكثير من الأسرار، قبل أن يقول لنا إتّبعوا مصالي لأنه إذا قرّر فعل، ولم يكتف بذلك بل حذّرنا من المركزيين، وقال أنّ صفوفهم مخترقة من العدو. تحدثتم عن الخطبة التي دعا فيها مصالي الحاج إلى الإستقلال التام؟ أجل، كان ذلك في 2 أوت سنة 1936، عندما أقاموا المُؤتمر الإسلامي، ومصالي الحاج جاء للمرّة الأولى إلى الجزائر، وطالب بالإستقلال التّام، وكان خطابا غريبا على الجميع. ...حتى على جمعية العلماء المسلمين؟ أجل، حتى الجمعية لم تكن تفكر في ذلك، لا هي ولا الشيوعيين، ولا غيرهم، ولو أنّ جمعية لم تكن يوما ضدّ الفكرة، أمّا الشبان المتحمسين فأعجبهم أن يقول لهم أحد لأوّل مرة أنّ هذه الأرض ليست للبيع، بل ولديها أصحابها، الذين يطالبون بالإستقلال التّام، في وقت كان فيه آخرون يُطالبون بالإندماج، مثل فرحات عباس الذي ذهب إلى القول بأنّ الجزائر ليس لها تاريخ ولا شيء. وما كان موقف الشيخ عبد الحميد بن باديس؟ قال لهم أن اتركوه يُعبر بكلّ حرّية عن رأيه، ومصالي الحاج، والشيخ ابن باديس هما رائدا الوطنية والإسلام في الجزائر، هما اللذان غرسا في الشعب والشباب الفكر الوطني، وهذا لا بدّ أن لا ننساه أبدا. ولكنّ البعض يقول أنّ أوّل من دعا إلى الإستقلال كان الأمير خالد، وليس مصالي الحاج؟ لا، لم أعثر على دليل واحد يقول هذا في التاريخ. لا بد من دليل، الأمير خالد طالب ببعض الحقوق فقط. حسنا بالعودة إلى الإجتماع، إخترتم المواصلة في المسار الذي سطره مصالي الحاج؟ بعدما سمعنا كلّ ذلك، وبعدما أزاح عمر حمزة الكثير من الغموض، كان علينا أن نختار إمّا أن نكون مصاليين، أو نكون مركزيين، وأنا طبّقت الديمقراطية مع جماعتي، ولطالما فعلت ذلك، ولهذا كانوا يثقون فيّ، تلك الثقة التي لم أستطع خيانتها يوما، وطلبت رأيهم وكانت الأغلبية مع مصالي الحاج، ولأنّ مصالي كان مع العمل الثوري، فقد قررنا أن نبقى مصاليين. وشكّلتم إدارة جديدة للمصاليين؟ أجل، بالفعل، إجتمعنا في بروكسل، نحن المصاليون، وكانت الإدارة الجديدة فيها فيلالي، وأنا أصبحت إطارا في اللجنة المركزية، ثمّ وقع الخلاف بيننا وبين بوضياف ورابح بيطاط. الإختلاف الذي جعلكم تعتدون على محمد بوضياف ورابح بيطاط بقضبان من حديد، مثلما ذهب إلى ذلك عبد الحميد مهري؟ لا، كان هذا ما زعمه مهري، ولكني أجبته بعدها بسنتين، ولو بقي هؤلاء المُناضلون الذين تحدث عنهم أحياء لما تدخلت، ولكن بما أنهم ماتوا شهداء، وقُطعت رؤوسهم في سركاجي، إضطررت لأن أُدافع عنهم، وهو ما يدلّ على أنهم مُناضلين، وفرنسا التي قتلتهم هم مصاليُون وليسوا من الجبهة، لو كان المصاليون يتعاملون مع فرنسا كيف تقتل مناضليها؟ ثلت الإعدامات في سركاجي ماتوا مصاليين، وأشير هنا إلى ما نشرته جريدة الوطن قبل شهر ونصف، في ذكرى المحكوم عليهم بالإعدام في سركاجي، كتبوا أنّ ثمانية وخمسين مناضلا كان محكوما عليهم بالإعدام في سركاجي، وإتّصلت بالجريدة، وتحدثت مع صاحبة المقال وقلت لها أنّ العدد الذي وضعته خاطيء، وأنّ العدد الصحيح هو سبعة وستون، وفي سركاجي هناك اللافتة التي تدلّ على ذلك، فقالت لي أنهم أعطوها ذلك العدد، فقلت لها أنها مخطئة، وأنّ الذين أعطوها ذلك العدد الخاطيء ليسوا فقط مُخطئين، ولكن ليسوا جزائريين، هذا ما أقوله على من يعترف بالشيوعيين، والملحدين، ولا يعترف ب المصاليين والملحدين أيضا...هذا ظلم ما بعده ظلم. حسنا، وبالعودة إلى إجتماع بروكسل، ماذا كانت قراراته؟ في مؤتمر بروكسل 13، 14، 15 جويلية قررنا تفجير الثورة، بعد شهرين، والقبائل كانت ممثلة من طرف زعموم علي، والذي قال أنّ من يفجر الثورة فهو والقبائل كلها معه، ولأنّ المؤتمر أُقيم في شهر أوت من سنة 1954 فإنه كان علينا التحرك في سبتمبر من نفس السنة، ولما عدنا إلى الجزائر، عقدنا إجتماعا عندي في البيت، في القصبة، كان ذلك في 19 جويلية، مع القيادة الجديدة للحركة الوطنية، أي مشاوي، مزغنة، رزقي لعجالي، كما حضر كريم بلقاسم واوعمران، وطلب كريم بلقاسم من مزغنة أن يتمّ تفجير الثورة، وقد إنقضى الشهران، أو كادا ينقضيان، لكن مزغنة تماطل، وتحجج بقلة الإمكانيات، والأموال، والمناضلين، لكن كريم بلقاسم قال أنه على أتمّ الإستعداد، وكذلك بالنسبة للعاصمة، أي الجماعات التي كنت أشرف عليها أنا، ولكن مزغنة بقي يتماطل. أي أنّ الحجج التي قدّمها مزغنة لم تكن السبب الحقيقي لتماطله؟ لا. وما خلفية تردده؟ أراد أن يبقى لأطول مدّة على رأس الإدارة، أعجبه الأمر، وراح يتعذر بقلة الإمكانيات. فماذا فعل كريم بلقاسم حينها؟ عندما جاء مصطفى بن بولعيد من طرف اللجنة الثوريّة للوحدة والعمل، إلتقى بكريم بلقاسم في القبة، بمنزل نذير قاصب، وأقنعه بنيّة اللجنة الثورية في تفجير الثورة، فأكّد كريم بلقاسم ما قاله زعموم علي من أنّ الذي يُفجر الثورة يسانده. وأشير هنا الى الخطأ التاريخي الجسيم الذي كان سيقع لولا أنّ مصطفى بن بولعيد تفاداه، حيث إقترح أحدهم أنّ يتمّ تفجير الثورة دون منطقة القبائل، فأجاب مصطفى بن بولعيد أنّ ذلك لا يمكن، وأنه يعرف كريم واوعمران، وأنهما مستعدان للعمل الثوري، فقيل له أنهما مصاليين، فأجاب بن بولعيد أنّ الجميع كان مصاليا. أي أنّ كريم بلقاسم كان ينسق معكم؟ كريم بقي على إتّصال بالجميع، بالمصاليين، وبمجموعة البربر، والذين كانوا مُستعدين هم كذلك، وباللجنة الثورية للوحدة والعمل أيضا. أي أنه لم يكن واضحا؟ لا، بالعكس، كان صريحا الى حد ما، وليس أوضح من قوله من أن الذي يُفجر الثورة فهو معه، وفعلا عندما فجّرتها اللجنة الثورية للوحدة والعمل كان معهم. قال بن يوسف بن خدة أنّهم كانوا سينطلقون في العمل الثوري لو لم تتسرع اللجنة الثورية للوحدة والعمل بتفجير الثورة؟ هذا خطأ، لقد كانوا في إدارة الحزب، وذلك من سنة 1952 إلى 1954، فماذا كانوا ينتظرون ليفعلوا؟! لو كانت لديهم النيّة فعلا للعمل المسلح، بل كان الجميع مُحضرا، أمّا مُناضلو القاعدة فكانوا متحمسين، وحتى الشعب كانوا ينتظرون فقط الإشارة لينتقلوا إلى العمل، وأوّل من يفجر الثورة كان الجميع سيلتفّ حوله، ولو فعلها جماعة البربر لكانوا السبّاقين، ولهذا سارعت اللجنة الثورية للوحدة والعمل إلى التحرك، وسبقت الجميع. أنتم تمّ إبعادكم في اخر لحظة؟ للأسف، أجل، حتى آخر لحظة كنّا مُحضرين، ومُستعدين، حتى أنني أنا من أعطيت السلاح لاوعمران، وسألني من أين جئت به؟ لم أجبه، ولقد أعطاه لنا بلقاسمي رزي وهو مناضل يقديم، يلقب ب"رزقي الماكي" احضره لنا لاننا اتخذنا موقفا مع مصالي الحاج، كان ذلك في الواحد والثلاثين من أكتوبر 1954، ولقد قال لبوضياف أنني وجماعتي مُستعدين، ولكنّ بوضياف قال له أنه يجب تركنا، نحن المصاليين، كقوات إحتياط، وفي نفس الليلة، وقبل أن يذهب اوعمران، نصحني بالحذر، فإستغربت الأمر، خاصّة وأنه هو من كان محكوما عليه بالإعدام، وليس أنا، لكنه، كان صريحا نوعا ما عندما قال هذا، كما لو أنّ ضميره كان يُؤنبه، ثم ذهب، وبعد ساعات انفجرت أوّل رصاصة معلنة بداية ثورة نوفمبر. كانت خيبة أمل كبيرة بالنسبة لكم؟ جدا، أقول لك أنني شعرت بصدمة قوية، خيانة عظمى، ستة أشهر كاملة ونحن نُحضر، وعندما أخبرت المُناضلين الذين كنت أشرف عليهم، شعروا بالإحباط هم كذلك. فهل تمّ القبض عليكم مثلما قال لكم اوعمران، خاصّة وأنّ فرنسا أطلقت في الأيام الاولى من إنطلاق الثورة حملة إعتقالات على كلّ المشبوه فيهم، ومن بينهم المناضلون القدامى لحركة إنتصار الحريات الديمقراطية، الحزب المُعترف به؟ بعدها قال لي بوجرودي السعيد، ومسؤول دائرة الجزائر، قال لي أن أذهب إلى فرنسا، خاصّة وأنّ الجماعة كان قد تمّ القبض عليها، منهم مولاي، وغيره، قال أذهب إلى فرنسا حتى أستطلع موقف الآخرين ومصالي الحاج أيضا. وفي الخامس من نوفمبر ذهبت، وفي مساء نفس اليوم كانت الشرطة تبحث عني في البيت، ولم أكن أعلم حينها. وهناك إلتقيت أخي، وهو طالب في الطب، إتخذ موقفا مع مصالي وباقي الطلبة، ثم إكتشف أنهم لم يكونوا مع التحرك، وبعد ثلاثة أيام جاءني عبدلي، وهو مسؤول من المصاليين، قلت له أنّ الذنب ذنبكم. عبدلي هذا من الإطارات التي كانت ت عطل المسير نحو العمل الثوري؟ لا، هذا لم أ:ن على إطلاع بموقفه، ولكن إطارات الحزب كانوا قبلا فعلا مناهضين للعمل الثوري. تقولون أنّ إطارات الحزب، أو المصاليين كانوا ضدّ رغبة مصالي الحاج في العمل الثوري، ولكن آخرون، ومن بينهم محمد مشا طي ذكر أنّ مصالي هو من كان ضدّ الثورة، وأنّ إطارات الحزب سئموا من تعطيل مصالي الحاج للثورة، وحبه للزعامة، وإعتماده على اطارات ضعيفة، وأنه طالب بتزكيته كرئيس حزب مدى الحياة، وقال آخرون أنّ تصرفات مصالي هي التي جعلت مفجري الثورة بعد ذلك يعتمدون على مبدأ الزعامة الجماعية حتى يتفادو أن يُخلق بينهم مصالي جديد، فبماذا تردّون على كلّ هذا؟ (يبتسم قبل أن يقول) للحديث لا بد من دلائل، وأنا قرأت كل ما كتب حول هذا الموضوع، و لم أجد دليلا واحدا على ما يزعمونه، بقيت مجرد أقوال فقط، في نوفمبر فرنسا قبضت على كل المركزيين والمصاليين معا، ولكنها أطلقت سراح المركزيين، وأبقت المصاليين سبعة سنوات، أي حتى وقف إطلاق النار، أو إلى 22 افريل 1962، فلم؟ أطلب جوابا على هذا السؤال. وكيف حتى إنتقلت جماعتك من المناضلين بأن ينتقلوا إلى العمل المسلح؟ عندما ذهبت إلى فرنسا، عندما تمّ إعلامي من الجزائر بأنّ الشرطة جاءت للبحث عني، فكّرت في أنّ أحد المناضلين التابعين لي قُبض عليه فأقرّ بإسمي، ولكن لم يكن هذا الحال، كان خطأ اوعمران، قبل الثورة، أي في ليلة الفاتح من نوفمبر أعطيت اوعمران كميائيا في صناعة المفجرات، أعطاه لي عمر حمزة الذي تحدثنا عنه قبل قليل، فاعطيته لعمران، هذا الأخير قام بعملية وتخلى عنه، فتمّ القبض عليه سريعا، وعمران قال لهم أيّ شيء يحدث قولوا أذكروا إسمي، ذلك أنه كان محكوما عليه بالاعدام، فمم يخاف؟ بل إنّ ذلك ساعد في الدعاية له ولإسمه، ولم يكن يفعل من خلال ذلك إلاّ أن يُشهر بنفسه، وعندما تمّ القبض على الكميائي أقرّ بأنّ عمر حمزة تركه لباسطا أرزقي وباسطا لاوعمران. أي أنه تمّ تحذيرك من العودة إلى الجزائر؟ أجل، وعندما حدث ذلك، أرسلت رابح واباد، وهومُناضل قديم، أرسلته لكي يرى المساعدين الثلاثة الذين كانوا تابعين لمجموعتي للإلتحاق بالثورة، وينتقلوا إلى الحركة، لأنه كان لدينا مخطط ثاني، فذهب إلى الجزائر وإتّصل بهم، وفعلا إنتقلت مجموعتي إلى العمل. لكن لماذا بقيت تحت لواء مصالي؟ لانها كانت البداية، مصالي طلب أن ننتقل إلى العمل قبل الجبهة، ثمّ إنّ الجبهة جاءت فيما بعد، عندما أطلقوها، ماذا حدث؟ شيء يجعله الكثيرون، أو يتجاهلونه، وهو أنّ عبان رمضان، رحمه الله، دعا الجميع للالتحاق بالجبهة، وحتى الشيوعيين، ومن كان ضدّ الثورة، وغيرهم، إلاّ المصاليين كانوا منبوذين. إذا كان بوضياف إتّخذ موقفا من المصاليين منذ الشجار الذي وقع بينه وبينهم، فما الذي جعل عبان رمضان هو الآخر يستبعد المصاليين؟ عبان رمضان أعذره نوعا ما، ففي سنة 1957 التقى مع أحمد بودة، هذا الأخير كان مركزيا، وحتى عبّان كان مركزيا قبل أن يدخل الى السجن، قال عبان لأحمد عندما خرج من السجن والتقاه:"لقد أوقعتموني في الخطأ في شخص مصالي الحاج" وفي القاهرة استدعوا مزغنة من الجزائر، فيلالي من فرنسا، وكانوا تابعين لمصالي، ولحول حسين، ومحمد يزيد من المركزيين، تم إستدعاؤهم حتى يجمعوا بينهم، ولكن عندما ذهبوا إلى القاهرة، إنفجرت الثورة، لأنه لم تكن هناك نيّة فعلا في أن يجمعوا بينهم، ولكن خشوا أن يكونوا في الجزائر عندما تنفجر الثورة، ويُصبحوا ضدّها. حتى انت ذهبت الى القاهرة؟ بالنسبة لي ذهبت الى القاهرة في17 ديمسبر، خاصّة وأنني لا أستطيع العودة إلى الجزائر، المُناضلين الذين كانوا تابعين لجماعتي كانوا قد بدؤوا في إنجاز عمليات، وأتحدى أيّ شخص من الجبهة قام بعملية منذ 6 نوفمبر 1954 في العاصمة، كلهم مصاليين، لم تكن هناك هيكلة للجبهة داخل العاصمة، أنا اذكر الأسماء، هناك من الجزائريين من قام بعمليات تحت إسمهم الشخصي، لا جبهة، ولا مصالي، ولا شيء، مثل تفروين من ازفون، قتل دركيا، ثم اعدم سنة 1956، ولكن المصاليين المناضلين الذين كانوا تحت مسؤوليتي، ماتوا والأسلحة بين ايايدهم في 24 اوت 1955 في الجزائر، وأوّل شهيد يُقتل وهو يحمل الأسلحة في يديه كان مصاليا، وكان ذلك في القصبة، وهناك باداش حمدي من بوسعادة الذي قام بعملية ضدّ رئيس المجالس البلدية على مستوى العاصمة امادي ايفروجي 28 ديسمبر 1956 في شارع ديدوش مراد، ميشلي سابقا، وكان مُبرمجا قبل الفاتح نوفمبر، ولكن لم يحدث إلاّ بعد سنتين. وهناك عملية أخرى قضينا فيها على مفتش الشرطة المدعو سي حميدي في أفريل 1955، وكان ذلك مقهى البهجة بالتحديد. العمليات الثلاثة كانت منجزة من طرف مناضلين مصاليين ، حرفوشي محمد هو من قام بها وتمّ إعدامه في سركاجي. يعني أن ياسف سعدي ليس هو من قام بالعملية كما يذكر في كتابه "معركة الجزائر"؟ كتاب معركة الجزائر عندما أحضروه لي وقرأته، وضعت أكثر من علامة حمراء على التناقضات الواردة فيه، ومن ذلك هذه القضيّة، فكيف يُعطي أوامرا لتنفيذ هذه العملية وقد قدم على رأس العاصمة بعد ستة عشرة شهرا، أي في شهر أوت من سنة 1956، والعملية نفذت في افريل 1955؟! الى أين بقيت العمليات تحت إسم مصالي في العاصمة؟ تقريبا الى سنة 1957 كلهم مصاليين. لكن رابح بيطاط هو من صار على رأس الولاية الرابعة، أي العاصمة بعد مؤتمر الصومام، أي منذ 1956؟ كان مكلفا بتنظيم العاصمة، ولكن تمّ إعتقاله مُبكرا، في 23 مارس من سنة 1955 بقهوة بسوسطارة، وبالتالي غيابه جعل العاصمة تخلو من مناضلي الجبهة. من الأحداث التي يعتقد البعض أنها تدلّ على أنّ مصالي الحاج كان محبا للزعامة دعوته إلى ثورة ديسمبر 1954 التي كان من شأنها أن تشوّش على ثورة نوفمبر؟ لا، ذلك غير صحيح، مصالي كان مع الثورة قبل ديسمبر ونوفمبر، منذ سنة1952 كان مع الحركة، خاصّة بعد أن إنتفضت تونس والمغرب، ونحن كنّا دائما مع المغرب العربي، وعندما أراد لمين دباغين أن يُؤسس إتحاد العمال المغاربة رفضت تونهس والمغرب، وتخليتا عن مسؤوليتيهما، بحجّة أنهما تحت الوصاية وأننا مُستعمرون. أي أنّ دور تونس والمغرب كانا ضئيلا في مُساعدة الجزائر؟ قالا أنّ الوضع يختلف، وأنّ فرنسا لا تستعمرهم ا ولكن تحميهما، وأنّ لديهما السلطان، والباي، يعني أنهما ليسا فرنسيتان، وعندما ذهب لمين دباغين لكي يؤسس لاتحاد المغرب العربي رفضتا، فمنذ ذلك الوقت كان علينا أن نُحارب لوحدنا، لأنّ المغرب وتونس، لم يريدا أبدا مُساعدتنا، إلاّ ربما التونسي صالح بن يوسف، والذي تمّت تصفيته على كلّ حال، ولكن الحديث في هذا يطول... حسنا، حتى سنة 1957 كانت جماعتكم تشتغل، وماذا حدث بعدها؟ بعض المناضلين التحق بالجبهة، آخرون توقفوا عن مبدأ، وآخرين إستشهدوا، أنا التحقت بالجبهة من القاهرة في فيفري 1955، ولكن بقيت مُهمشا، لأنّ بوضياف عندما أتى الى القاهرة لم يقل الحقيقة كاملة لبن بلة وآيت احمد، ولو أنّ هذا الاخير يعلم حقيقة ما وقع في العاصمة، ولكنّ بوضياف كان حقودا، وعلى كلّ حال لطالما كان كذلك، بعد الشجار الذي وقع قبل 1954. بوضياف لم يغفر لمصالي الحاج أن عيّن محمد بلوزداد على رأس المنظمة السرّية؟ ربم يكون هذا من الاسباب، لا ادري بالظبط، لكن ما استطيع قوله ان بوضياف حقود، هذا في طبعه، وليست توجد مقارنة بين بلوزداد وبوضياف، الفارق شاسع، كنا نتمنى أن يكون هناك الآلاف مثل بلوزداد. وهو ما جعله يحاول اغتيال مصالي الحاج في ماي من سنة 1955؟ لا يمكن أن أتحدث فيما ليس لي به علم، وقضية الإغتيال هذه أسمعها منك لأوّل مرّة، ربما حدث هذا، لا أدري. من بين المهام التي كلقتم بها بعد ذلك تحقيق المصالحة بين اوعمران، والمناهضين لمؤتمر الصومام... لكن قبل أن تكمل سؤالك أقول لك أنّ من كانوا ضدّ مؤتمر الصومام ليس ذنبهم. ذنب من؟ بن بلة من طلب منهم ألاّ يُشاركوا في المُؤتمر. لكن بن بلة تمّ إبعاده؟ لا هذا ليس صحيحا، هو من رفض أن يشارك، لأنه كان خائفا. مما؟ من أن يقتله الفرنسيون أو ربما الجزائريون. ولكنه لم يستطع الدخول إلى الجزائر؟ هذا ليس صحيحا أيضا، كان قادرا على ذلك، كانت توجد ألف طريقة ليفعل، في سنة 1955 تطوّعت لكي أدخل الأسلحة إلى صحراء تونس، والأوراس، في ماي 1955 وقبلا كان المرور سهلا، ولأيّ كان، هم إختار ألاّ يفعل. بما أنّ الحديث قادنا إلى بن بلة، ماذا تقول عن تصريحاته الأخيرة من أنّه الأوّل من نوفمبر؟ من المستحيل عليه، وعلى أيّ شخص سواه أن يُحدد تاريخ إنطلاق الثورة من الخارج، ولا أن يوقفها، لأنّ الأوضاع الداخلية لم تكن على أحسن ما يرام. كيف ذلك؟ كانت هناك مشاكل في الداخل، لم يكن بن بلة وأصحاب الخارج على علم بها، ولا قادرين على التحكم فيها، مثل الولاية الخامسة، مثلا، والتي كانت تعاني من مشاكل في التمويل والسلاح، وغيرها من المشا كل التي توجب على من يُحدد تاريخ إندلاع الثورة أن يكون على علم تام بالوضع، بوضياف هو من وقّع التاريخ، ثمّ ذهب إلى القاهرة. بعد الإستقلال جاءني بوتفليقة عبد العزيز، وأحمد مدغري، ودكتور مولاي، سألوني عن الذي حدّد تاريخ تفجير ثورة أوّل نوفمبر، فأجبت أنه من الداخل، وذكرت الأسباب، ومنها أنّ بن بلة وأصحاب الخارج لو حدّدوا الموعد ولم تنفجر، لأي سبب من الأسباب، ومنها نقص الذخيرة، أو غياب المسؤولين، أو أي شيء، لو حدث هذا لما وثق فينا أحد بعد ذلك، لا الشعب الذي كان ينتظر تلك اللحظة بفارغ الصبر، ولا الدول العربية الأخرى. وأذهب إلى أبعد من ذلك، وأقول أنهم عندما إجتمعوا ليضعوا إستراتيجية، ولاية الأوراس كانت الأكثر تسليحا، لأنّ سلاح 1945 إلى 1948، ثمّ سنة 1950 عندما إكتشف أمر المنظمة السرّية، محمد بلوزداد قال أنه لا يوجد مكان أحسن من الأوراس لإخفاء كلّ ذلك السلاح، وبقيت الولاية ثلاثة أشهر تقاوم، أي من نوفمبر إلى نهاية شهر جانفي 1955، بقيت صامدة، حتى تسمح لباقي الولايات لكي تلتحق بها، لكنّ الخارج لم يفعلوا شيئا، لهذا القي القبض على مصطفى بن بولعيد، وأنا الوحيد الذي يذكر هذا، أو أنا الوحيد من بين الأربعة الذين يعرفون بعض التفاصيل الهامّة من حياة مصطفى بن بولعيد، ومن ذلك قضية مقتله، والقاء القبض عليه، حيث أنه خرج من الأوراس بطلب من عباس لغرور، وشهاني البشير، وعجول، الذين كانوا ينتظرون السلاح من الخارج ولم يأت، والأوراس كانت مُحاصرة، من طرف الجنرال "فارلوج" ولم تكن هناك ذخيرة كافية من السلاح في باقي الولايات، والولاية الخامسة لم تكن قد التحقت أصلا بالثورة، ولم تفعل إلاّ في اكتوبر 1955، وذلك عندما جاء محمد الخامس فإنتفضت الحدود المغربية. وهوما جعلك تنتقد فيلم مصطفى بن بولعيد، وتقول أنه جانب الواقع؟ أجل، رغم أنني أحترم المخرج راشدي، وأعماله، إلاّ أنه جانب الحقيقة في فيلمه عن مصطفى بن بولعيد، لأنّ هناك أربع رجال ممّن عاشوا قصّة بن بولعيد، هو نفسه، أي بن بولعيد، ومساعده عمار بريك، ومحمد شميني، وأنا. أمّا بن بولعيد فلقد مات، وسي عمار ربما يكون مات هو الآخر، وصرت الوحيد الذي يعرف قصّة القبض على بن بولعيد. كان ذلك عندما خرجوا للبحث عن السلاح، ثمّ ماذا حدث؟ إستقلّ مصطفى بن بولعيد، وعمّار بريك حافلة تُوصل إلى الحدود الليبية، وعندما وصلا إلى الحدود كان هناك حركي تونسي كان في الحافلة يرى ويُراقب الأشخاص الأجانب، فقام بإنزالهما، وبعد أن ذهبت الحافلة طلب منهما أن يتبعاه، فقالا له أنهما جزائريان يقصدان الحج، فبقي الحركي معاندا، حتى قتله عمار، ولكن لسوء الحظ فإنّهما كان في صحراء، بحيث رأت طائرات "الهيليكوبتر الجاسوسة" ما وقع، فأعطى مصطفى لعمار الوثائق التي كانت معه، وطلب منه أن يفر، فرفض عمار، وبينما هما يتحدثان تمّت مُحاصرة المكان. أخرج بن بولعيد الوثائق ليُحرقها، طلب مصطفى من عمار أن يقتله لأنه لا يستطيع أن يُجهز على نفسه بنفسه، فأطلق طلقات على الفرنسيين حتى يقتلونه، ولكنهم عندما سمعوا رصاص"6-36" ضحى مصطفى بن بولعيد بنفسه وإدّعى أنه من قتل الحركي، ذلك أنهم يعرفونه، حيث كان محكوما عليه في قستنطينة، عكس عمار الذي لم يكن معروفا، وقال بن بولعيد أنّ كان مجرد دليله في الرحلة وفقط، وفعلا حكموا على عمار سنة فقط. هل صحيح أنّ مؤتمر الصومام أبعد المُناضلين القدامى، وبالتالي يعتبر إنقلابا عليهم؟ عندما نعود الى حديث عبان رمضان، و الذي قال أوقعتموني في الخطأ فيما يخص شخصية مصالي الحاج، يعني أنه من ضمن "المجلس الوطني للثورة" وأنا أفضل ان أسميه "المجلس التأسيسي للثورة" من ضمنه عناصر لم يكونوا يريدون مُناضلين من الحركة الوطنية، حتى قتلوا فيلالي، في باريس. لم تمت تصفية فيلالي؟ لأنه كان قال أنه أقنع مصالي الحاج بالإنضمام إلى الجبهة، و أراد أن يصلح بينهما، وكانت هناك أطراف لا تريد عودة مصالي، كما أنّ فيلالي كان مسؤولا عنهم في ا لمنظمة السرية في قسنطينة، فلم يريدوا أن يعود هو الآخر، فقتلوه بستة رصاصات. وانت أيضا طُلب منك أن تُصفي مهساس؟ حدث ذلك عندما جاءني أمر بالذهاب الى سويسرا، ففعلت، ولم أُبلغ بنوع المهمة إلاّ عندما وصلت إلى هناك. ألم يزرع ذلك فيكم الشك؟ كان ذلك طبيعي، لأنّ المهمات كانت تتمّ في سريّة، وكان معي في الرحلة شخص يُدعى عبد القادر بن التومي، تلقيت بعدها هاتفا لكي آمره بالعودة إلى تونس، وذلك حتى لا يحضر التنفيذ، وعندها تمّ إبلاغي عبر إتّصال هاتفي، حيث إتّصلوا بي في البداية في الفندق الذي نزلت فيه، لكي أعاود الإتّصال بهم من مكتب البريد، فردّ عليّ عميروش، وحوّل لي اوعمران الذي قال لي أنّ مهساس في سويسرا، وأن عليّ قتله، ولم يمهلني عمران الوقت الكافي لأردّ عليه، وقال لي "دبر راسك" وأقفل الخط، والخلاف بينهما يعود الى أنّ مهساس وهو من جماعة القاهرة، أو ما يُسمى بالبنبليست: بن بلة، مهساس، يوسفي، أمّا يوسفي فأرادوا تصفيته عبر مصطفى لكحل، ولكنّ هذا الأخير لم يُوافق، فتمّ قتله. لم رفضت تصفيته؟ قلت للشخص الذي أرسلوه لمراقبتي، أنني لا أقتل رجلا مناضلا، ومن أوائل الحركة الوطنية، وعدت إلى تونس، رغم تحذيرات مهساس، ورغم أنني كنت أعلم أنهم قد لا يتسامحون معي، وما إن وصلت حتى ألقي عليّ القبض، وتمّ تعذيبي، وبقيت معتقلا 18 شهرا. مهساس يقول بأن عبان رمضان هو من أمر بقتله؟ لم أتلق أوامر من عبان رمضان، بل من اوعمران، هو كان في تونس وانا في سويسرا، عبان أمضى ثلاثة سنوات في السجن مع إبن عمي، ولكن لا أستطيع أن أقول شيئا أجهله، كيف يعلم مهساس ما هي الأوامر التي أعطيت لي وممّن، كان في تونس، ولكن بالمقابل رأيت قرارا من عبان كريم وعمران لتصفية كلّ من هو في الحركة الوطنية، اذا لم يلتحق بالجبهة. ألاّ تظنون أنّ من شوّه صورة المصاليين، وبالتالي شخص مصالي الحاج هو بلونيس، الملقب بالجنرال بلونيس؟ في الحقيقة لا أعرف بلونيس شخصيّا، لكن ما أعلمه انني لم ألتق شخصا مناصلا أو أسمع أنّ هناك من يدعي أنّ من المصاليين من تعامل مع فرنسا، مُناضل واحد فقط، يكون عاش الأحداث، ولا يتفوه بأحاديث يلتقطها من هنا وهناك، وأنا، مثلا، لا أتحدث إلاّ على ما عشته بنفسي، وبالنسبة لمصالي الحاج، إنتقدوا حتى لباسه، الذي ليس إلاّ رمز الإنتماء الديني والقومي، من الشاش الذي يرتديه، واللحية كذلك، حتى أنّ البعض قالوا أنه يتشبه بالأنبياء، هم الذين كانوا يُحبّون تقليد الغربيين، أمّا هو فلا، كان متمسكا بأصله، فهو رمز الوطنية، رجل هذه حاله لا يمكن أن يكون خائنا، ومن قال عن مصالي خائن هو من كان ضدّ حزب الشعب من قبل، من فرحات عباس والشيوعيين، وكلّ من كان ضدّ استقلال الجزائر، وحتى بين العلماء المسلمين من كان ضدّ الإستقلال، ويُطالب بالإندماج، مثل الشيخ كحول، الذي حكم عليه العلماء بالإعدام، عندما كان سيمضي وثيقة التحاق الجزائربفرنسا. وأعود لأذكر بقول عبان رمضان، والذي خرج من السجن ثلاثة أشهر بعد الفاتح من نوفمبر، وما إن خرج إحتووه معهم، وعندما رأى ما يحدث، قال أنكم دفعتموني للخطأ فيما يخصّ شخص مصالي الحاج، الرجل الذي خاطت زوجته علم الجزائر. تقولون أنكم لم تلتقوا يوما بمناضل عايش خيانة المصاليين، أو هكذا يقولون، لكن هناك الكثيرين أكدوا أنهم كانوا يحاربونهم، وأنّ مصاليي بلونيس، مثلا، كانوا يتعاملون مع فرنسا، بل ومع المنظمة المسلحة الخاصّة كذلك، وبعض القرى إلى الآن لا تزال تعتنق فكر المصاليين، فما هو تعليقكم؟ أجيب على سؤالك ببساطة، كيف لرجل يمضي 24 سنة من حياته بي السجن والمنفى يصبح خائنا، كيف له أن يصبح خائنا؟ حاولوا تشويه صورته، والصقوا به كل التهم، ولم يسمح له بدخول الجزائر حتى بعد الاستقلال، وزوجته هي من خاطت العلم الجزائري، حسنا كانوا لا يتّفقون معه بالأمس، فلماذا صاروا لا يتنفقون حتى بينهم؟ لولا الصراع المقيت على السلطة، حتى أنّ عميروش ألصقوا به كلّ التهم، قالوا عنه أنه قاتل، وخائن، والبعض يقول أنّ بوصوف خانه، هذه تفاهات، عميروش خانه أشخاص من داخل الولاية الثالثة بما أنه كان في الولاية الثالة لا أحد من الخارج كان يُمكنه قتله، ما إن خرج من الولاية الثالثة تمّت تصفيته، هناك شخص في الولاية الثالثة هو من تحدث عن مكان عميروش مع الحواس، وكان يجهل حتى أنّ الحواس كان معه. من هو هذا الشخص؟ يأتي الوقت الذي نتحدث فيه، هوعلى قيد الحياة، وليس الوحيد هناك كثيرين مثله، مع وقف إطلاق النار إكتشف أمره. قلت قبلا أنه يجب أن ننزع عن المجاهدين كلّ الشبهات، كيف ذلك؟ أجل المجاهدين الحقيقيين، ويجب أن نقف عند هذه النقطة لنُحدد قبلا ماذا تعني كلمة مجاهد؟ لا أحد يمكن أن نطلق عليه لقب مجاهد إلاّ إذا كانت كلمة الله هي العليا، وإلاّ فهو مكافح، أو محارب، أو أيّ شيء آخر، ولكن ليس مجاهدا، وإن مات فهو ليس شهيدا، إن لم يكن قصده أن يعود إلى كلام الله، فليس مجاهد، أنا حاربت لكي يعود الإسلام إلى هذه البلاد، وقلتهاسنة 1962 لمن خان العهد، كنا في الفاتح من نوفمبر نُحارب من أجل جزائر إسلامية ديمقراطية تحت لواء المباديء الإسلامية، وتمت خيانتها سنة 1962. ألم تتمّ خيانتها قبل ذلك التاريخ، أي في مؤتمر الصومام؟ الجهاد بقي في الجزائر حتى سنة 1962، بقي المُجاهد مجاهدا، أمّا على الحدود فصار جنديا، لم يعد لنا الحق أن نقول عنه مجاهد، وبما أنه جندي صار له الحقّ في أن يشرب الخمر ويدخن، أمّا في الجزائر فبقوا يجدعون أنف من يُدخن، لأنه خان المباديء الإسلامية، ولم نكن قادرين على إقتناص الإستقلال لولا تمسكنا بالدين، الرجال الذين انتفضوا في 1954 كانوا يُضحون في سبيل الله، هناك منهم أغنياء، مثل مصطفى بن بولعيد، ولكنّ حُبّ الجهاد من دفعه للموت. أطلق الرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة إسم مصالي الحاج على مطار تلمسان، ألاّ تعتقدون أنّ هذه الخطوة ستكون بداية الاعتراف بالرجل؟ أشكره، لأنّ مصالي الحاج غرس الوطنية في الجزائر، ولو أنّ الرجل يستحق أكثر من هذا، المطار هو قطرة فقط، مقارنة بالعمل الذي قام به مصالي الحاج من أجل الجزائر. هل من اضافة سيدي؟ أقول أننا، و في كلّ الأحوال ليس لدينا إلاّ عدو واحد في هذا العالم...وليس الجزائري... فمن يضرّ الجزائر فهو ليس جزائريا.