صرف الملايير على ملتقيات جامعية تنظم في قاعات خاوية تشهد جامعات قسنطينة على مدار العام العشرات من الملتقيات العلمية، التي تُصرف عليها أموالا طائلة و تستضيف باحثين كبار، لكن هذه الملتقيات تلقى في الغالب إقبالا ضعيفا جدا، يُرجعه البعض إلى تناقص اهتمام فئة الطلبة بمثل هذه التظاهرات، بينما يُبرره آخرون بسوء البرمجة و اختيار مواضيع لا تهم طالب اليوم. تحقيق: ياسمين بوالجدري لم يعُد مشهد القاعات الخاوية في الملتقيات الوطنية و حتى الدولية، أمرا غريبا بجامعات قسنطينة، بحيث يصطدم المشاركون بغياب الطلبة عن مثل هذه التظاهرات و بشغور عشرات المقاعد التي كان يفترض أن تمتلئ عن آخرها، بالنظر لأهمية مداخلات لم تعد تسترعي اهتمام طالب اليوم، و تُعدّ قاعة المحاضرات الكبرى محمد الصديق بن يحيى بجامعة قسنطينة 1، أقوى مثال على العزوف الكبير لفئة الطلبة عن الملتقيات، فهذه الصالة التي غصّت في السابق بحشود قدمت فقط من أجل رؤية المشاهير كالروائية أحلام مستغانمي و الشيخ عائض القرني و حتى بعض الإعلاميين، تظهر في الملتقيات العلمية شبه خاوية و لا يقتصر التواجد بها، إلا على أساتذة و طلبة يُعدّون على أصابع اليد، في وقت تعجّ ساحات و أروقة الجامعة بمئات من الطلبة، الذين يفضل الكثير منهم الجلوس خارجا عوض حضور الملتقيات. النصر وقفت على أمثلة كثيرة تعكس واقع الملتقيات العلمية بالجامعة الجزائرية، و قد كان آخرها الصالون الدولي لتبسيط العلوم، الذي نظم في ذكرى عيد الطالب و شهد لدى افتتاحه من قبل الأمين العام لوزارة التعليم العالي حضورا كبيرا، سرعان ما بدأ بالتناقص بمجرد إنهاء مراسيم الافتتاح، بحيث بدأت القاعة تخلو شيئا فشيئا، أما اليوم الثاني من التظاهرة فقد شهد «فضيحة» بحسب أساتذة مشاركين، إذ لم يتعد عدد الحضور العشرة، و اضطر المشاركون لإلقاء مداخلات على بعضهم البعض. أما الملتقى الوطني حول مهن البيئة المُنظّم؛ المنظم قبل أسابيع قليلة بمجمع 500 مقعد، فقد عرف "انسحابا جماعيا" للطلبة بعد الساعة الحادية عشرة صباحا و هو سلوك وضع المحاضرين في موقع المتفرج و سبب لهم إحراجا كبيرا، رغم أن الطلبة برروا سلوكهم بتنظيم الملتقى في فترة الامتحانات و يوم الخميس، الذي يفضل فيه أغلب المقيمين العودة إلى منازلهم. طلبة يرون التظاهرات العلمية "مضْيعة للوقت" لدى تجولنا بجامعات قسنطينة اقتربنا من بعض الطلبة و حاولنا معرفة رأيهم في الموضوع، بحيث تباينت وجهات النظر لكن النتيجة كانت واحدة، فأغلب من تحدثنا إليهم أكدوا بأنهم لم يحضروا أي ملتقى علمي طيلة السنة الجامعية، و ساق بعضهم أعذارا تتعلق بسوء البرمجة و اختيار فترة الامتحانات لتنظيم هذه التظاهرات، بينما أعاب آخرون على الإدارة غياب الإشهار للملتقيات و وضع ملصقات قليلة، في حين قال عدد من الطلبة بأن مواضيع بعض الملتقيات لا تتماشى مع تخصصاتهم العلمية، ما يعني، حسبهم، أنها لن تفيدهم في مسارهم الجامعي. كما اتهم آخرون الأساتذة و الإدارة ب «عدم تشجيعهم" على ذلك، و هو ما يجعل التظاهرات العلمية مجرد "هدر" لأموال طائلة، كان يمكن استغلالها بحسب المتابعين، في تنظيم ورشات "الوورك شوب" التي تجذب الطلبة كونها تعتمد على استراتيجية التعليم القائم على الدماغ «براين بايزد». و قد مسّ استطلاعنا عينة عشوائية لطلبة و طالبات في تخصصات العلوم الاجتماعية، التسويق، الأدب، الحقوق، الطب و البيولوجيا، و من أبرز الآراء التي حصلنا عليها، أن طالبة ذكرت أنها حضرت ملتقى واحدا طيلة العام، لكنها نادمة على ذلك لأنها «أضاعت وقتها» في الاستماع لمحاضرات ليست في مجال تخصصها الدقيق، أما طالب آخر فقال "تنظيم هذه التظاهرات مثل عدمه" و ذهبت أخرى إلى التأكيد «علاه نعمر راسي بأمور تافهة»، في حين قال لنا طالب أنه «ينوي» أحيانا الدخول لكنه يقرر التراجع بمجرد رؤية عدد قليل داخل القاعة. و يرى بعض الطلبة الذين تحدثنا إليهم، بأنهم حرموا من ملتقيات هامة لأنها بُرمجت في فترة الامتحانات، التي ينشغلون خلالها بالتحضير و الحفظ، حيث يفضلون ضمان النجاح و تجنب إعادة السنة أو دخول الامتحانات الاستدراكية، على حضور ملتقى حتى لو كان مهما، في حين تحدث آخرون عن بُعد أماكن التنظيم و عن انشغال الكثير منهم بتحضير مذكرات التخرج أو الدراسة، خصوصا في الفروع الصعبة كالهندسة و الطب و العلوم الدقيقة. عزوف ينتهي بإلغاء العديد من الملتقيات عضو بالمكتب الولائي للاتحاد الوطني للطلبة الجزائريين، اعترف بعزوف الطلبة عن حضور الملتقيات العلمية، و أرجع ذلك إلى تنظيمها في نهاية الموسم الجامعي و في فترة الامتحانات الفصليّة الأخيرة و الاستدراكية، التي تحدد مصير نجاح الطالب، مستغربا عدم إجرائها شهري فيفري و مارس، أين يكون الطالب عادة متفرغا، أما مكتب الاتحاد الطلابي الحر فيرى بحسب أحد أعضائه، بأن حتى الأساتذة أصبحوا لا يحضرون هذه الملتقيات، إذ يُنظم أغلبها أواخر الموسم الجامعي، من أجل صرف الميزانية السنوية لوزارة التعليم العالي و البحث العلمي، و ذلك عوض وضع برنامج يراعي أوقات فراغ الطالب و يمتد طيلة العام، ما يجعل الحضور يقتصر على المتدخلين و المسؤولين، حيث قدم مثالا أن ملتقى نظمته «إيجال» و اضطر فيه المشاركون للعودة من المطار، لأن جميع الطلبة قرروا مغادرة القاعة باكرا، ليتم إلغاء التظاهرة نهائيا. و يتفق التنظيمان على أن طالب اليوم على العموم تغير كثيرا عن طالب السنوات الماضية، بحيث قلّ اهتمامه بالتظاهرات العلمية و أصبح همّه الوحيد هو تجميع أكبر عدد من النقاط من أجل النجاح، و ضمان الحصول على الشهادة العلمية، و هو ما يعكس حضور 40 طالبا، في أحسن الأحوال، داخل قاعة تتسع ل 400 شخص، حيث علق عضو الاتحاد الطلابي الحر، بأن حتى الملتقيات أصبحت تحضرها قلّة من الطلبة، مقابل الالتزام بدخول الدروس الموجهة، التي يُحتسب فيها الغياب و يمكن أن تتسبب في إقصائهم و إعادة السنة. ملتقيات هدفها الترقية و أخرى لإستهلاك الميزانيات يرى الأستاذ عبد الحميد بوشوشة من كلية الإعلام و الاتصال، بأن الملتقيات عموما أصبحت لا تنسجم مع أفكار الطلبة و لا تتماشى مع القضايا الراهنة، كما أنها تُنظم و على حساب نوعية المداخلات، بسرعة و في أوقات غير مناسبة، من أجل استفادة بعض الأساتذة من الترقية، كون المداخلات تُحسب لهم في سيرهم الذاتية، . لكن محدثنا اعترف بأن طالب اليوم يفتقر عموما لروح البحث و المعرفة، بحيث يأتي للجامعة من أجل تحصيل النقاط التي تضمن له النجاح، إلى درجة أن بعض الطلبة يحضرون بعض الملتقيات فقط ليسجلوا الحضور على مرأى أساتذتهم، ثم يغادرون كأن الأمر يتعلق بتأدية واجب، رغم أن المداخلات موجهة إليهم في الأساس، كما طرح الأستاذ مشكلة طول مدة المداخلات ما يتسبب في نفور طلبة الجامعة منها. أما البروفيسور جمال ميموني من قسم الفيزياء، فيعتبر أن القضية أعمق و لا تتوقف عند مسألة توقيت تنظيم التظاهرات، حيث قال بأن نشاطات علمية مكثفة تُنظّم، لكن بدون إعلام مسبق، إلى درجة أن بعض المشاركين لا يُعلمون بتاريخ الملتقى و ببرنامجه إلا قبل ساعات، ما يمنع الطلبة من معرفة أسماء الأساتذة المحاضرين، و حوّل الملتقيات إلى "تظاهرات مجاملة"، كما حمّل البروفيسور المسؤولية في عزوف الطلبة، لبعض الأساتذة بسبب عدم اهتمامهم بتبسيط المحاضرات و تقديم مداخلات متخصصة جدا و بلغات أجنبية، و هي إشكالية قال أن طلبة العلوم الدقيقة يصادفونها أكثر. أما المنسق الولائي للنقابة الوطنية للأساتذة الجامعيين بقسنطينة الأستاذ ديب نبيل، فأكد بأنه لا يوجد نشاط حقيقي فيما يخص الملتقيات المنظمة، حيث قال بنهأ أنها صارت مرتبطة بالسنة المالية و ليس السنة الجامعية، إذ يجد المنظمون أنفسهم و بعد أن يداهمهم الوقت، مجبرين على تنظيم ملتقيات في آخر السنة لصرف كامل الميزانية، ما يجعل المحتوى ضعيفا، و دعت النقابة إلى ضرورة إعادة النظر في طريقة تنظيم هذه التظاهرات بوضع برنامج يتم استشارة الأساتذة فيه. كلفة تصل إلى مليار سنتيم و الإدارة تبحث عن "السبونسور" كشف عدد من المسؤولين و الأساتذة الباحثين ممن تحدثنا إليهم، بأن معدل تكلفة الملتقى العلمي الواحد تتراوح بين 200 و 300 مليون سنتيم، و هو رقم مرشح للارتفاع بحسب المشاركين، فإذا كان المدعوون من خارج الوطن تقفز المصاريف بارتفاع سعر تذكرة الطائرة، فضلا عن تكاليف الحجز في الفنادق و الأكل و العتاد و التجهيزات و غيرها، فجامعة قسنطينة 1 مثلا، استضافت منذ شهر جانفي الماضي، 52 باحثا قدموا من بلدان أوربية و عربية و من دول القارة الأمريكية، بحيث شاركوا في أزيد من 40 ملتقى علميا بمختلف التخصصات، و أكد من تحدثنا إليهم أن بعض الجامعات أصبحت تعمل بميزانيات مفتوحة، إذ يمكن أن تفوق تكلفة ملتقى واحد يدوم لأكثر من يوم، 1 مليار سنتيم. و قد اعترف السيد بن عباس شوقي نائب رئيس جامعة قسنطينة 3 المكلف بالنشاطات الثقافية و التعاون و العلاقات الخارجية، بأن مشاكل الميزانية أدت إلى تنظيم الملتقيات العلمية بعد شهر مارس، لأن الوزارة لا تصب الأموال إلا في هذا التوقيت، و هي مشكلة قال أنه سيتم تداركها بأخذ احتياطات سنتين كاملتين و محاولة تغطية بعض التكاليف بالتنسيق مع المخابر و الجامعات الأخرى، و أضاف المسؤول بأن التحضير لأي ملتقى، يتطلب الحصول على غلاف مالي و من ثم إجراء استشارات مع الشركات المختصة، و مع إنهاء هذه العمليات لا يمكن تنظيم التظاهرة قبل شهر ماي، كما يرجع المتحدث التأخر في تنظيم التظاهرات العلمية، لارتباط المحاضرين الأجانب في دولهم، إذ يفضل أغلبهم السفر بعد شهر مارس. من جهتها نائبة رئيس جامعة قسنطينة 1 المكلفة بالعلاقات الخارجية و التعاون و التظاهرات الثقافية و العلمية السيدة حوبار فريدة، قالت بأن جامعتها لديها تقاليد عريقة في تنظيم الملتقيات العلمية، سواء من قبل نيابة الجامعة أو الكليات و حتى المخابر، لكن المسؤولة اعترفت بضعف إقبال الطلبة و نقص اهتمام هذه الفئة، رغم أن أموالا باهظة تُصرف عليها و تستهلك مجهودا كبيرا، نافية أن يكون قلة الإشهار سببا في ذلك، بحيث أكدت بأن الإدارة تحرص على وضع الملصقات داخل الكليات و استغلال الموقع الالكتروني للجامعة. السيدة حوبار قالت أن وزارة التعليم العالي توفر سنويا ميزانية للملتقيات رفضت الإفصاح عن قيمتها، لكنها جعلت الجامعة تعمل براحة، فضلا عن الحرص على التعاقد مع راعين رسميين لتغطية بعض التكاليف.