التفكير بوصفه تساؤلا إنقذاف"نا" المفاجئ غير المحسوب ضمن ما يسمى ب"الأزمنة الحديثة"، وانوجادنا كنوابت في حقل حداثي رمى بثقله التاريخي الثقافي السياسي اللغوي والتقني على صحرائنا، وَضع الثقافة العربية (الكسولة) النكوصية في لحظة دهشة غير مسبوقة، لحظة الانكشاف على العقل (الفاعل/النشط) الغربي، الذي انبجس عنه من جهة نظام الزمن:التاريخ /التقدم وما صاحبه من تغيرات في المفاهيم كمفهوم الإنسان والعالم. نُسيبة مزواد قبالة ثقافة استيقظت من سباتها العميق فوجدت نفسها خارجه، منكفئة على براديغم الأخروية متوجسة من الراهنية. كما انبجس عنه من جهة تالية نظام المكان الذي لم تسطع ثقافتنا الصحراوية ذات الهوية المرتبطة آليا بالنص، المقدسة المتوارثة أن تستوعبه. فمعاصرتنا للحداثة كما يقول المسكيني لا تعني أننا حداثيون، فالحداثة هي تلك الولادة الطبيعية الناتجة عن سيرورة ديناميكية لهوية عملت على تفكيك ذاتها وإعادة بنائها بصورة متتالية وسَلِسة، وفق مراحل كانت بدايتها التقريبية مع القرن الخامس عشر وحتى القرن التاسع عشر. معاصرتنا للحداثة دون التماهي الهووي بها ومعها أدى إلى انتعاظ ثقافتنا العربية بالأزمات والمآزق الانطولوجية والابستمولوجية، فكان أن حدث استمناءٌ ذهني في شكل مشاريع نهضوية وصلت بالعقل العربي الخامل إلى رعشة فكرية عنيفة. نص "العرب ومسألة الاختلاف" لصاحبه الباحث الجزائري إسماعيل مهنانة هو "عودة" لابستيميات ثقافتنا المؤسطرة، محاولة جادة لإخراج العقل المسجون في كليشيهات القديم، وإزالة التكلسات الفكرية التي خلفها السبات الثقافي العميق بتفعيل آليات البحث واستحداث أخرى، نص نحته السؤال والمساءلة التي اجترحها الباحث، راهن عليها واعتبرها مطرقته، وجه من خلالها ضربات محكمة رأسا للمفاهيم المركزية المتعالية والكيانات المتافيزيقية الناظمة لثقافتنا العربية/الاسلامية التي قامت بتأليهها، فخلقت تكلسات تلو التكلسات قتلت الحس الإبداعي ابتداءً. تمخض عن القتل جملة من المشاريع الرجراجة التي تلوك تلك المفاهيم والمصطلحات الفارغة باعتماد طرق تقليدية لم تعد قادرة على الصمود أمام العقل السؤول الذي سيحطم بمطرقته رطانتها. رطانة شكلها اختراق السياسي/الديني الذي صنع قوالب من قوانين ومسلمات ومعتقدات جاهزة، صُبت فيها الذات وفرضت عليها السباحة في حدودها، فنتج ما يسمونه تأصيلا وتأسيسا وتأثيلا. قوالب في هيئة لغة مسرطنة بأحكام مسبقة جاهزة تسجن الفكر في هوّة المعتقدات، التي لم يبذل رائدوها ومريدوها عناء تفكيكها وخلخلتها. عمل يؤسس لفكر متيقظ واليقظة ماهية الفكر، والتي تصونه من الانزلاق والسقوط في مأزق المعتقد والمعتقد قتل الفكر، عمل يحاول جاهدا مواجهة هم ثقافتنا العربية وبؤسها، بأسئلة جريئة عنيفة أسئلة جذرية حول أحقيتنا التاريخية لفعل "التفكير"، باعتباره تعليق "الحكم المسبق حول كل ما ترثه من داخل عصرك من أحكام مسبقة وعقائد جاهزة" هل حقيقة علّقنا كل ما ورثناه من معتقدات؟ وهل ما قمنا به لحد الآن هو تفكير؟؟، نحن إذن أمام مساءلة فينيومينولوجية تقوم على التفكيك العنيف والجذري للمعتقدات المؤسطرة وإعادتها لطبيعتها التاريخية بضخ الحياة في مفاهيمها المقتولة، والتي ظهرت نتيجة لحياد الفكر عن دروبه ونسيانه لسؤاله ولمساراته التاريخية، فتحولت على إثرها الأفكار إلى أحكام قطعية سرعان ما وضعتها اللغة في تابوت الاعتقادات الراسخة. هنا يتموضع جهد الباحث في إعادة الفكر أو كما يسميه الفكر السؤول لمساراته واستنفاذ بل استنزاف كل امكانتها انطلاقا من الحرية كمبدأ في الاختيار. استدعى الباحث في عملة مشاريع يرى انها محاولات جادة ودروب مختلفة كان لزاما شقها، نجده وقد تناول مقاربة عبد الله العروي التاريخانية القائلة بأن الحضارة الاسلامية/العربية هي حلقة من الحلقات التاريخية في سيرورتها الديناميكية، وحسب العروي لا يمكننا بأي حال من الأحوال فصل الحضارة الاسلامية عن سياقها التاريخي وعن مؤثرات وتأثيرات الحقب السابقة لها، وبالأخص المرحلة الميتافيزيقية الهلنتستية بما تحويه من تعددية هووية والتي انتهت بأفول الامبراطورية الرومانية وما صاحبها من "سقوط" وتفكك سياسي أدخل العالم في ذهول، فكانت "العودة" عودة لعمل الذاكرة، عودة للتوحيد كبديل ينتشل التاريخ من مأزقه الأنطولوجي والابستيمي. كما استحضر مقاربة الاسلام من زاوية التحليل النفسي واستدعى هنا فتحي بن سلامة الذي حاول فتح دروب جديدة بوضع الظاهرة الدينية على أريكة التحليل النفسي، محاولا استخراج الكبت الذي انبنت عليه ثقافة بأكملها، الكامن في سردياتنا الكبرى، والتي رصد من خلالها الآليات اللاواعية التي صنعت "الأصل" المتمثلة في:الهبة، الترك، التسمية المستعيدة، آليات تحاول تحريك العقل لتعويض ما خلفته تلك التجارب، فحياة "النبي محمد مؤسس الاسلام مثخنة بتجارب الترك" فقد توفيت والدته صغيرا، وقبله والده وهو لم يولد، ثم أعهد إلى مرضعة سرعان ما توفيت وهكذا توالت تجارب الترك" وقبله ترك ابراهيم لهاجر (أم العرب والتي طمس دورها في التاريخ، كما طمس دور شهرزاد وكل دور نسوي بسب الكبت العميق الساكن في ثقافتنا القضيبية) وابنها اسماعيل أبو العرب. تتبع المكبوتات المبثوثة في ثقافتنا سمح لخط التحليل نفسي أن يجمع كل ما قيل عن حقيقة الأصل ويضعها في خانة الادب الذي يستحيل القبض على حقيقة له. ينتقل الباحث لفينومينولوجية محمد أركون المنادية باجتراح الأسئلة الكبرى والخطيرة من قلب ثقافتنا، والتي ربط من خلالها بين الفكر السياسي الاسلامي وما تخلله من صراعات، وبين النص الذي قسمه إلى ثلاث مستويات، فهو أولا وحي بمعنى علم الله بالأشياء قبل أن يتجلى في أي لغة بشرية محفوظ في اللوح، وهو ثانيا القرآن وهو الوحي وقد نزل متقطعا على النبي محمد من خلال جبريل وقد أعاد النبي نطقه، وهو ثالثا المصحف "النص الممكن الوحيد" قام عثمان بجمعه بعد سنوات من وفاة النبي انطلاقا مما تم حفظه وتدوينه، وبترتيب في السور مختلف تماما عن ذلك الذي نزل على الرسول ونطق به في ظل صراعات وظروف سياسية حساسة. فالمصحف هو تعبير كتابي ومحاولة لمطابقة مضمون القرآن،كونها محاولة خاضعة يرتبط كمالها بالجهد البشري. يغوص صاحب الكتاب في اجتراح الأسئلة الحاسمة، إذ فرض عليه الفكر السؤول "التجاوز" لمكان خطير لطالما كان طابو محرما، متحررا من الخوف والرقابة السياسية والفقهية اللتان صادرتا السؤال، مترفعا عن أي تمذهب أو طائفية. مسددا سؤاله مباشرة إلى ذلك "الشيء" الذي اكتفى من سبقوه من مفكرين بالدوران حوله دون طرقه طرقا مباشرا، مفكرين استشراقيو المرجعية كانت انطلاقتهم الابستمولوجية معطىً اجتمعت تفاصيله بعد القرن الثالث للهجرة بما فيه جمع المصحف، هذا الأخير الذي لم يأخذ ما يستحقه من المساءلة فيما يخص ظروف جمعه وتدوينه. يتناول الباحث السيرة النبوية ، أين دلل على توظيف السيرة النبوية توظيفا سياسيا، ويتجلى ذلك في استغلال مختلف الفرق لها بوضع أحاديث ومرويات عن النبي تتناسب ومواقف زعمائها السياسية، وهو ما يفسر تناقض بعض الأحاديث فحدث أن لجأوا لاختراع بعض أو ربما معظم القصص عن شخص النبي وعن واقعة النبوة في حد ذاتها، ، لذا يجب أن نوجه أسهم السؤال صوب السيرة حتى نفرز الخيال والتلفيق عن الواقعة الأصلية. ما كان للفكر السؤول أن يستنفذ دروبه في هذا العمل، وما كان للباحث أن يضع مطرقته آنيا ويختم نصه دون تبيان لفضائل الاختلاف في مجابهة الشمولية، وبالأخص في مسألة "الفن" باعتباره ابداع ثوري مبتكر لأنماط حياة متجددة، انتقل بعدها لمشكلة الانوثة بغرض اعادة طرح السؤال من جديد بعيدا عن الانجراف وراء المطالبة. لو وضع الباحث خاتمة للكتاب لهدم كل فرضياته ووقع في فخ الانغلاق والمفاهيم النهائية، فالفكر السؤول هو محاولة لاستنفاذ الدروب التي لا يمكن استنفاذها كليا، هي مسائل عالقة مفتوحة، هي ورشة بحث لم تقل بعد ما يجب أن يقال....