الرئيس تبّون يشرف على مراسم أداء اليمين    اللواء سماعلي قائداً جديداً للقوات البريّة    هذه حقيقة دفع رسم المرور عبر الطريق السيّار    سوناطراك تجري محادثات مع جون كوكريل    تقليد المنتجات الصيدلانية مِحور ملتقى    عطاف يتلقى اتصالا من عراقجي    مكتسبات كبيرة للجزائر في مجال حقوق الطفل    حوادث المرور: وفاة 11 شخصا وإصابة 418 آخرين بجروح بالمناطق الحضرية خلال أسبوع    توقيف 4 أشخاص متورطين في قضية سرقة    أكثر من 500 مشاركاً في سباق الدرب 2024    الجزائر العاصمة.. وجهة لا يمكن تفويتها    التأكيد على ضرورة تحسين الخدمات الصحية بالجنوب    اجتماع تنسيقي لأعضاء الوفد البرلماني لمجلس الأمة تحضيرا للمشاركة في الندوة ال48 للتنسيقية الأوروبية للجان التضامن مع الشعب الصحراوي    فلاحة: التمور الجزائرية تصدر إلى أكثر من 90 دولة    رئيس الجمهورية يتلقى رسالة خطية من نظيره الصومالي    وزير الصحة يبرز التقدم الذي أحرزته الجزائر في مجال مكافحة مقاومة مضادات الميكروبات    المجلس الأعلى للشباب ينظم الأحد المقبل يوما دراسيا إحياء للأسبوع العالمي للمقاولاتية    رفع دعوى قضائية ضد الكاتب كمال داود    غزة: ارتفاع حصيلة الضحايا إلى 44056 شهيدا و 104268 جريحا    الأسبوع العالمي للمقاولاتية بورقلة:عرض نماذج ناجحة لمؤسسات ناشئة في مجال المقاولاتية    صناعة غذائية: التكنولوجيا في خدمة الأمن الغذائي وصحة الإنسان    عميد جامع الجزائر يستقبل رئيس جامعة شمال القوقاز الروسية    منظمة "اليونسكو" تحذر من المساس بالمواقع المشمولة بالحماية المعززة في لبنان    غزة: 66 شهيدا و100 جريح في قصف الاحتلال مربعا سكنيا ببيت لاهيا شمال القطاع    كرة القدم/ سيدات: نسعى للحفاظ على نفس الديناميكية من اجل التحضير جيدا لكان 2025    حملات مُكثّفة للحد من انتشار السكّري    الجزائر تتابع بقلق عميق الأزمة في ليبيا    الملفات التي تمس انشغالات المواطن أولوية    الرئيس تبون يمنح حصة اضافية من دفاتر الحج للمسجلين في قرعة 2025    الجزائر متمسّكة بالدفاع عن القضايا العادلة والحقوق المشروعة للشعوب    "صفعة قانونية وسياسية" للاحتلال المغربي وحلفائه    إحباط إدخال 4 قناطير من الكيف عبر الحدود مع المغرب    90 رخصة جديدة لحفر الآبار    خارطة طريق لتحسين الحضري بالخروب    قمة مثيرة في قسنطينة و"الوفاق" يتحدى "أقبو"    بين تعويض شايل وتأكيد حجار    40 مليارا لتجسيد 30 مشروعا بابن باديس    طبعة ثالثة للأيام السينمائية للفيلم القصير الأحد المقبل    3233 مؤسسة وفرت 30 ألف منصب شغل جديد    مجلس الأمن يخفق في التصويت على مشروع قرار وقف إطلاق النار ..الجزائر ستواصل في المطالبة بوقف فوري للحرب على غزة    ارتفاع عروض العمل ب40% في 2024    الشريعة تحتضن سباق الأبطال    الوكالة الوطنية للأمن الصحي ومنظمة الصحة العالمية : التوقيع على مخطط عمل مشترك    دعوة إلى تجديد دور النشر لسبل ترويج كُتّابها    مصادرة 3750 قرص مهلوس    فنانون يستذكرون الراحلة وردة هذا الأحد    رياضة (منشطات/ ملتقى دولي): الجزائر تطابق تشريعاتها مع اللوائح والقوانين الدولية    خلال المهرجان الثقافي الدولي للفن المعاصر : لقاء "فن المقاومة الفلسطينية" بمشاركة فنانين فلسطينيين مرموقين    الملتقى الوطني" أدب المقاومة في الجزائر " : إبراز أهمية أدب المقاومة في مواجهة الاستعمار وأثره في إثراء الثقافة الوطنية    ارتفاع عدد الضايا إلى 43.972 شهيدا    ماندي الأكثر مشاركة    الجزائر ثانيةً في أولمبياد الرياضيات    هتافات باسم القذافي!    هكذا ناظر الشافعي أهل العلم في طفولته    الاسْتِخارة.. سُنَّة نبَوية    الأمل في الله.. إيمان وحياة    المخدرات وراء ضياع الدين والأعمار والجرائم    نوفمبر زلزال ضرب فرنسا..!؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ماسينسيا.. المفكر الثائر موحد نوميديا والإفريقيين
نشر في النصر يوم 29 - 09 - 2014

حين كان القائد الأمازيغي ماسينسيا يخوض حربا ضروسا على جبهات القتال حليفا لروما وهو في ريعان الشباب ويقض مضاجع سيفاقس وحلفائه القرطاجينيين، كانت بصيرته تتجه نحو المستقبل وعينه ممتدة بعيدة على إفريقيا ككل بشعار رفعه لأول مرة وهو إفريقيا للإفريقيين وإن لم تكن إفريقيا وقتها بهذا الحجم والاسم، وعلى شعب نوميديا بشطريها وشعبهما، كيف يجعل منه شعبا واحدا موجدا فوق أرضه مستقلا عن غيره من القرطاجينيين وغيرهم، خادما لنفسه وليس مسخرا لغيره، ويتوج نفسه ملكا على هذا الشعب، وكيف يحول الأرض الجرداء إلى أرض خصبة معطاء، ويشيد في ربوعها مدنا عامرة،.على الرغم من انغماسه المبكر في أتون الحروب والتحالفات وتشبعه بالثقافة العسكرية، جنديا وقائدا إلا أن القائد الأمازيغي ماسينيسا وببعد نظر وقوة بصيرة لم يكن يرى في قوة السلاح وسيلة بناء حضارة أو عمران واستقرار، فلا تعدو عنده إلا وسيلة مرحلية، أما بناء الدول وتشييد الحضارات فيحتاج مع قوة السلاح إلى قوة القلم والفكر والساعد، وقوة الهمة والرغبة في التحرر والعمل والاستقرار.
لذلك يسجل له التاريخ أنه صاحب الثورة الأمازيغية الكبرى المكللة بالنجاح، حين حارب على جبهات كثيرة: الجبهة السياسية التي تمكن بموجبها من نسج تحالفات وخوض معارك كثيرة في خضم الصراعات الجيوسياسية تمكن بموجبها من تحقيق حلم أمازيغي قديم في الاستقلال بنوميديا وبناء دولة ذات سيادة على ربوعها. والجبهة الحضارية حين رسخ فكرة المدنية لدى الشعب الأمازيغي حين نقله من البداوة إلى المدينة وبنى له سرتا التي جعلها عاصمة له بحصونها الطبيعية مدينة ودولة، واختط عمرانها وفق نمط حديث عصرئد انتقل بموجبه من النمط العمراني غير المستقر الذي فرضه الواقع التاريخي على الأمازيغيين الذين أنهتكهم حروب لم يكونوا بالضرورة معنيين بها أو مستفيدين من غنائمها وأهدافها، فعاشوا رحلا بين بادية وبادية، ودولة وأخرى، تتقاذفهم الحضارات والأيام حتى بدا وأنهم غرباء فوق أرضهم، فعلى سواعدهم تقوم دول وتنهار أخرى، وهم قابعون في دائرة حضارية وجغرافية واحدة. والجبهة الثالثة هي جبهة الثقافة والفكر، حيث حول سرتا إلى عاصمة ثقافية حقيقة تنتشر فيها العلوم والفنون ويحج إليها أهل الفن والأدب من روما واليونان، وأقحم الثقافة الفينيقية والبونيقية في الثقافة الأمازيغية ليلد من رحم ذلك حرف التيفيناغ الذي خطت بها الأمازيغية القديمة، متأثرا في ذلك باللغة والحروف البونيقية القرطاجنية.والجبهة الاقتصادية التي استطاع بموجبها أن يحول الأرض الجرداء إلى أرض معطاء وينشط الحركة التجارية ويعطيها بعده الإقليمي الذي تخطى حدود نوميديا، حتى قال بعض المؤرخين: (هذا أعظم وأعجب ما قام به مسينيسا، كانت نوميديا قبله لافائدة ترجى منها، وكانت تعتبر بحكم طبيعتها قاحلة لاتنتج شيئا، فهو الأول الوحيد الذي أبان بالكاشف أن بإمكانها أن تدر جميع الخيرات مثل أية مقاطعة أخرى، لأنه أحيى أراضي شاسعة فأخصبت إخصابا).و يبقى أهم ما قام به وقتها ضرب السكة باسمه، وهو إجراء خطير في تاريخ العلاقات السياسية والاقتصادية، لأنه يعبر بحق عن الاستقلال السياسي الاقتصادي والمالي. لأن السكة ورمزها السيميائي يرمز للولاء المطلق للجهة التي تصدرها إلى جانب الضرائب التي أصبح الأمازيغيون يؤدونها للمكلة الجديدة مملكتهم.
لقد احتاج ابن تومرت لتوحيد المغرب العربي بعد ماسينسيا بقرابة ال13قرنا إلى قوة عبد المؤمن بن علي العسكرية التي سارت مع قوته الفكرية والدينية، لكن وحده ماسينسيا استطاع أن يكون المفكر والثائر، السياسي والعسكري، صاحب السيف والقلم، بل إنه، ولأن التدين حاجة اجتماعية فقد رسخ فكرة الدين وطور الفكرة الوثنية المعاصرة له، حين أظهر فكرة الإله الملك، فجعل من نفسه (ماس نسا) أي سيد الكل. وهي عقيدة دينية راقية وقتها مقارنه يما درج عليه الأمازيغ قبل المسيحية والإسلام من وثنية موزعة بين عبادة الأشياء والحيوانات.
لم تعمر سرتا ووحدة نوميديا كثيرا بعده رغم العمر الطويل الذي عاشه ملكا عليه، والذي ربا على الستين عاما، فقد قسمت المملكة على أبنائه الثلاث ليكون هذا التقسيم بداية النهاية لدولة كان يمكن أن تكون دولة الأمازيغ، بل دولة الأفارقة الذين لما ينعتقوا بعد ومند عهد ماسينسيا بقارة مستقلة عن التبعية لغيرها من القارات، فما تزال إفريقيا الأوسع مجرد بقرة حلوب وأرض تستغل خيراتها لغير
أهلها.
ع/خلفة
ماسينيسا كان يريد أن يجعل قرطاج عاصمة لإفريقيا الموحدة لكن الرومان منعوه.
ماسينيسا سليل العائلة الملكية الماسيلية (Dynastie Massyle) العريقة التي أسست مملكة في تاريخ غير محدّد ولكنه أقدم بكثير من تأسيس المصرف التجاري الفينيقي الذي حمل اسم قرطاج (Karthago) ذلك أن أسطورة تأسيس قرطاج تتحدّث عن ملك اسمه يارباس (Hiarbas) هو الذي منح امتياز تأسيسها لسيدة من مدينة صور (TYR) اسمها إليسّا (Elissa) لتكون قاعدة تجارية لها وللجماعة التي رافقتها في فرارها ... والدليل على أن هذا الملك من العائلة الملكية الماسيلية هو أن اسمه سيتكرر ضمن سلسلة الملوك الماسيل وهي عادة لا تزال عندنا إلى اليوم حيث تحرص العائلات على تسمية ابنائها بأسماء أسلافهم وأجدادهم إحياءً لذكراهم وهذا له دلالة بالغة.
الماسيل هم أحد فرعي الشعب النوميدي، الذي لا نملك اليوم معلومات عن متى ولماذا انقسم إلى ماسيل وماسيسيل (Masaessyle) والنوميد هم الشعب الأكبر بإقليمه و يتكوّن من عديد الأحلاف والكنفدراليات القبَلية أبرزها الماسيل شرقي الجزائر إلى تونس وطرابلس والماسيسيل في الوسط والغرب الجزائري إلى شرقي المغرب.
كانت منجزات الأقلّيذ (Aguellid الملك في اللغة الليبية) في المجال الاجتماعي والسياسي عظيمة على غرار أعماله العسكرية، فقد وحّد شعبه وحثّه على الاستقرار، وأقام دولة نوميدية قوية واستمرّ في إصدار عملة وطنية وأقر النظام وأنشأ أسطولا يضمن حسن العلاقات التجارية بين مملكته وباقي بلدان البحر المتوسط.
كان ماسينيسا محاربا مقداما، شجّع الآداب والفنون وأرسل أبناءه إلى بلاد الإغريق للتعلم، واستقدم إلي بلاطه عددا من الكتاب والفنانين الأجانب كان رجلا شجاعا احتفظ إلى آخر سني حياته بالصلابة والصرامة، يمكن أن يبقى على صهوة جواده يوما كاملا كأي واحد من جنده متحملا كل أشكال العناء، كان في الثامنة والثمانين من عمره عندما قاد معركة ضدّ أشفاط (*) قرطاج وفي الغداة وجده سيبيون الإيميلي واقفا أمام خيمته يأكل كسرة خبز هي كل وجبته !
لكنه يعرف كيف يعيش حياة الملوك في الوقت المناسب، حيث يرتدي أفخر الملابس ويضع التاج على رأسه ويقيم المآدب في قصره بسيرتا أين تنصب الموائد وعليها أوانٍ ذهبية وفضية، في حفل بهيج يعزف فيه الفنانون الإغريق ألحانهم.
كان يحب الأطفال، وكان يعيش وسط أبنائه وأحفاده، وفي حديثه إلى تاجر إغريقي قدم إلى مملكته لشراء قردة للترفيه على الأثرياء قال له الملك : أليس لديكم نساء ينجبن أطفالا !!
عمّت شهرته كل بلاد البحر المتوسط، وعلى الخصوص بلاد الإغريق : جزيرة ديلوس التي أقامت له ثلاثة تماثيل، وفي آخر أيام حكمه كان يطمح إلى جعْل قرطاج عاصمة لأفريقيا الموحّدة لكن الرومان رأوا فيه خطرا يمكن أن ينقلب عليهم، فهذا كاتون (Caton) يلفت انتباه مجلس الشيوخ الروماني إلى الخطر الذي يمثله ماسينيسا بعبارته الشهيرة : فلتدمّر قرطاج delenda Karthago ، توفي ماسينيسا (148 ق.م.) قبل سقوط قرطاج بسنتين (146 ق.م.) ولم يشهد سقوطها، فأقام له رعاياه الذين أحبوه قبرا فخما (معلم الصومعة قرب لخروب) غير بعيد عن عاصمته سيرتا وضريحا في ثوقة Thugga (دوقة الحالية في تونس).
الاقتصاد النوميدي يقوم أساسا على الفلاحة، وتكون قد ظهرت احتمالا منذ نهاية عصور ما قبل التاريخ، دلت على ذلك أدوات وكذلك آثار تعكس وجود نظام للزراعة وللسقي الزراعي نموذجها آثار تاسبنت (Tazbent) جنوب غربي تبسة فالزراعة النوميدية قديمة جدّا ، لا تدين بشيء في أدواتها ومفرداتها وبذورها للفينيقيين ، ويبدو أنّ الاقتصاد الزراعي كان مختلطا يتكون من زراعة محاصيل مختلفة ومن تربية الأغنام والأبقار.
وإلى ذلك وُجِدت حياة حضرية نوميدية حقيقية، في عصر مملكتي الماسيل والماسيسيل، يتضح هذا في علاقاتها الخارجية وفي تجارتها، وأهم المدن الداخلية المعروفة : تبسة (تيفست Théveste )، قالمة (كالمة Calama)، امداوروش (ماداوروس Madauros)، طاورة (تاقورا Thagura ) سيقا قرب تموشنت (Siga)، تضاف إليها العاصمة سيرتا (Cirta) أما المدن الساحلية فهي عنابة (هيبو ريجيوس Hippo regius) وروسيكاد (Rusicade) سكيكدة، وصلدا (Saldae) بجاية، وايكوسيوم (Icosium) الجزائر ، وقونوقو (Gunugu) بالقرب من قورايا (شرشال). هذه المدن إما مستقلة ذاتيا أو أنّها كانت تدار تحت سلطة الملوك ، وإلى جانب العاصمة سيرتا هناك مدن يقيم بها الملوك مثل هيبو ريجيوس وبولاّ ريجيا وأخرى تشكل مقرا لدائرة جبائية مثل مولوشا وقالمة، وقد أدّى التطور الاقتصادي في المملكة النوميدية إلى تداول كبير للعملة.
بلغ الاقتصاد النقدي أوجه في عهد ماسينيسا ومكيبسا، تدل على ذلك الإصدارات العديدة في عهديهما ، ويبدو أن المدن كذلك كانت لها عملتها الخاصة وهو مؤشر على تنامي دور المدن في اقتصاد وإدارة المملكة النوميدية، وكانت مدن سيرتا وهيبو وصلدا نموذجا للمدن التي أصدرت عملتها الخاصّة.
الحبوب هي الإنتاج الزراعي الأساسي وأقدم محصول زراعي هو القمح وخاصة القمح الصلب الذي يأتي في الدرجة الأولى وكانت زراعته تمارَس في كلّ أنحاء البلاد، إلى جانب محاصيل أخرى كالشعير والحبوب الثانوية مثل السورغو، كما تمثل الزراعة الشجرية جزءا من النشاط الفلاحي، وتتمثل على الخصوص في بساتين الزيتون والنخيل والكروم إلى جانب شجر التين.
تمثل تربية الأبقار من طرف الريفيين المستقرين والأغنام من طرف الرحّل النشاط الفلاحي الثاني من حيث الأهمية لدى النوميد (Numides) ، ويبدو أنّ إنتاج وتسويق القمح كان النشاط الرئيسي في نوميديا وخاصة في عهد ماسينيسا حيث كانت العائلة الملكية الماسيلية تتوفر على مزارع كبرى (Domaines) ليس فقط في تراب المملكة ولكن في إقليم قرطاج أيضا .
كانت الفلاحة وخاصة محصول القمح المزود الرئيسي للتجارة الخارجية النشطة، كما أن المدن الساحلية مكنت الملك ماسينيسا من تنمية قوته البحرية وكانت موانئها تؤمّن تصدير القمح باتجاه رودس وأثينة وديلوس في العالم الإغريقي كما وفرت المملكة الماسيلية للرومان أيضا وبكميات هامة طيلة القرن الثاني ق.م. على الخصوص.
إذا كان البحث الأثري لم يكشف الغطاء بعد عن العمارة المدنية النوميدية فإنّ وجود عمارة جنائزية فخمة على غرار المدغاسن والصومعة يفترض وجود عمارة مدنية تضاهيها في الفخامة والأصالة، فالمدغاسن متطور عن شكل بدائي هو البازينا وهو أكثر أصالة أما صومعة لخروب فقد امتزجت بها عناصر معمارية إغريقية.
يكشف الأثاث الجنائزي المكوّن أساسا من أواني خزفية، أشكالا من التعبير الفني النوميدي التي تقوم على تحكم في الهندسة، أما النصب فإنّ المتوفر منها سواء منها التي تعود إلى تاريخ متأخر أي إلى ما بعد فترات حكم الملوك الكبار فتظهر نمطا معينا من النحت وتقدم لنا صورة عن لباس عصرها.
كانت اللغة الليبية (الأمازيغية القديمة) العنصر الذي يميّز تفرّد العالم الأمازيغي ويبين خصوصيته إزاء المجموعات الثقافية المتوسطية الأخرى، وهو دون ريب عنصر اللغة المدعومة بالكتابة، إنها اللغة الليبية، اللغة الأقدم قدم الناطقين بها وأبجديتها المتطورة عن الرسوم الصخرية تبقى متفردة ، فقد كانت الكتابة الليبية معروفة منذ نشأة الممالك النوميدية وخاصة في القرن الثالث ق.م. وثمّة أمثلة من هذه الكتابة عبارة عن نقوش جنائزية على الخصوص ، وتتميز بأشكالها الهندسية المستقيمة والمزواة.
مع هذا لم يزدرِ ماسينيسا الحضارة القرطاجية بل عرف كيف يستفيد منها على اعتبار أنها حضارة أفريقية، وإلى جانب اللغة النوميدية (اللغة الليبية التي تنحدر منها لهجات اللغة الأمازيغية) كانت لغات أخرى متداوَلة لدى النخبة النوميدية كاللاتينية والإغريقية وخاصّة البونية.
نستخلص في هذه العجالة أنّ الحضارة النوميدية حقيقة تؤكّدها المصادر المادية والأدبية وهي نتاج جهد وإبداع الشعب النوميدي:
"... الليبيون المزارعون (الذين) يقيمون في مساكن ..." ويسكنون في منطقة " ... جبلية تغطيها الغابات .... " (هيرودت) . النوميد فلاحون ولكن فيهم الكثير من الرحّل شكّلوا مجتمعا منظّما أفرز عناصر مكوّنة لحضارة تقوم على ثقافة روحية أصيلة، رمزها المملكة الماسيلية على الخصوص، وهي حضارة منفتحة على مؤثرات متوسطية ولكن انتهى بها الأمر إلى التهميش بسبب التوسع الروماني.
وبعد استعراضنا لهذه النقاط المضيئة في حياة الملك وفي حياة المملكة النوميدية وشعبها نودّ الإشارة إلى ما يثار عن هذا الملك وعن المملكة وعن هوية الجزائر والشمال الأفريقي عموما من قضايا هي أقرب إلى الأيديولوجيا منها إلى التاريخ فقد اكتشفنا تاريخنا القديم على أيدي مؤرخي الفترة الكولونيالية فهم الذين استخرجوه من المواقع الأثرية ومن أرشيف الأديِرة ومكتبات الكنائس التي حفظت عموم التراث القديم وهؤلاء المؤرخون هم الذين صاغوه وفق رؤاهم ووفق السياسة التي رسمتها حكومات بلدانهم الاستعمارية وفي الجزائر كان هؤلاء المؤرخون يشكّلون فريقين هما :
1. الفرنسيون وكانوا يمجدون روما وآثارها على غرار اقزال وبرتيي (Gsell et Bertier)
2. اليهود وقد اهتموا بتاريخ الفينيقيين وقرطاج وعميدهم اليوم هو موريس سنيسر Maurice Sznycer وقد أصدروا في باريس دورية سيميتيكا Sémitica- المستمرة إلى الأن - سنة 1948 وهي الدورية التي تعنى بتاريخ الساميين وهؤلاء يعتبرن التاريخ الفينيقي الكنعاني هو تاريخهم وفي هذه النقطة بالذات يلتقي منظّرو القومية العربية والقومية الإسرائيلية الذين يدّعي كل طرف منهما أحقيته بالتراث السامي.
3. لماذا نورِد هذه الفكرة
في موضوعنا وما علاقتها بماسينيسا وبنوميديا ؟
الموضوع متشعب ولكن نحاول ايراده بايجاز وهو أنّ دعاة الاستلحاق والاستتباع للمشرق يريدون فرض الهوية التي يدْعون إليها بأثر رجعي لتشمل التاريخ القديم ووجدوا في الجالية المركانتيلية الفينيقية التي نالت امتيازات تجارية في سواحل المغرب القديم مرتكزا لفكرتهم التي تقوم على طمس الهوية الحقيقية للبلد وطمس كل المعالم الحضارية والهوياتية النوميدية ونسبة كل ما في البلد من معالم حضارية إلى الجالية الفينيقية وقد سبقهم إلى ذلك مؤرخو الفترة الكولونيالية لأن ذلك وافق هواهم فهم ضدّ أن تكون للبلد حضارة وهوية خاصة به ولا يتحرجون كثيرا من القول بوجود حضارة بونية لان الجميع: فينيقيون ورومان ... وفرنسيون... وافدون على البلد وعلى درب هؤلاء سار دعاة الاستلحاق والاستتباع للشرق الذين يزينون عقيدتهم الأيديولوجية بشعارات وطنية لا يقبلها التاريخ الذي يعتمد كعلم على منهجية صارمة تقوم على المعلومة المستقاة من وثائق تاريخية ذات مصداقية وكان سهلا على هؤلاء أن يفبركوا هوية الانتماء إلى جماعة وافدة إلى البلد تقودها امرأة فارّة من بلدها بل جعل هؤلاء من الجالية الفينيقية "بعثة علمية" أخرجت البلاد من ظلمات العصور الحجرية وجعلوا كل معْلمة حضارية على أرض الشمال الأفريقي ما قبل الرومان معلمة فينيقية مع أن هذه الجالية تحولت مع القرون إلى أوليغارشية مركانتيلية احتكارية بنزعة استعمارية استغلت ثروات البلاد كأيّ مستعمر وحاربت أعداءها الإغريق والرومان بمجندين نوميد ومور جعلتهم جندا مأجورا وموسميا تنتهي مهمته حال انتهاء الحاجة إليه - بل أبادوا في الحرب التي أطلق عليها بوليب عبارة الحرب التي لا تغتفر(Polybe, 1, 15) أربعين ألف مجنّد من النوميد والمور عندما طالبوا بأجورهم - عوض أن تمنحه المواطنة وتجعل منه جيشا "وطنيا" فعندما كان مجلس الشيوخ الروماني يبني الوحدة الإيطالية ويدمجها في الهوية والمواطنة الرومانية تدريجيا كان أشفاط قرطاج يمارسون سياسة فرق تسد باعتماد اسلوب التحالف والتحالف المضادّ فقد تحالفوا مع الملك غايا الذي أرسل ولده ماسينيسا على رأس جيش لنجدة جيوشهم في إسبانيا ثم انقلبوا عليه عند عودته من ساحة القتال وخلعوه من العرش في تفاصيل لا يتسع المجال لذكرها هنا (**)ثم عقدوا حلفا مع الملك سيفاكس الذي كان في حلف مع الرومان عندما كان ماسينيسا على راس جيشه إلى جانب البونيين.
كان اشفاط قرطاج لا يطمئنون لملك محارب ذي نزعة استقلالية ولذلك صمموا على الغدر به فأذكوا نار العداوة بينه وبين جاره سيفاكس ولأن الملك ماسينيسا كان صاحب نزعة استقلالية وكان يسعى للتخلص من أشفاط قرطاج ودسائسهم ويطمح إلى أفريقيا نوميدية موحّدة عاصمتها قرطاج إلى درجة أنه تكوّن حزب في مدينة قرطاج يدعو إلى تسليم السلطة للملك ماسينيسا الذي هو وحده من يستطيع الوقوف في وجه الأطماع الرومانية التي لا يمكن لقرطاج وهي دولة مدينة (Etat-cité) أن تواجهها إلا أنّ أولئك الأشفاط أجْلوا أنصار ماسينيسا عن قرطاج واستمروا في حبك المؤامرات ضدّ الملك.
ان الموقف العدائي الغادر من قبل الاشفاط ازاء ماسينيسا هو الذي جعل هذا الاخير يقبل مضطرّا التحالف مع القائد الروماني سيبيون وما ذا يمكن لعاقل ان ينتظر من ملك شريد طريد وجريح نجا من موت مؤكّد أن يفعل عندما اتصل به القائد الروماني وعرض عليه التحالف غير القبول ؟ ثم من هو الطرف المبادر بالغدر ؟ نطرح السؤال اليوم على من يتباكون على سقوط قرطاج ويحمّلون ماسينيسا ذلك بغير وجه حقّ ويخفون حقيقة الأحداث عن القارئ البسيط ويخفون الوقائع التي تدين أشفاط قرطاج الذين هم وحدهم المسؤولون عن فاجعة سقوط قرطاج وما حلّ بالبلاد بعد ذلك من نكبات.
إلى الذين يفاضلون بين سيفاكس وماسينيسا... هم لا يفضّلون سيفاكس لذاته ولكن يفضلونه بمقدار تبعيته وولائه لأشفاط قرطاج ، والحال أن الموضوعية تجعلنا لا نفاضل بين رموز الأمة وآبائها المؤسسين قديما وحديثا ونحن نقدّر اجتهاد الاثنين ولكن نرى أن الخط التحرري لدى ماسينيسا يمثل رؤية صائبة وأنّ الملك ماسينيسا لو استلم الحكم في قرطاج كان التاريخ سيغير مساره °180 لأنه هو القادر على ايقاف التوسع الروماني ووراءه مغرب موحّد ، وها هو سيفاكس الموالي لأشفاط قرطاج يلقى مصيره دون أن يفعلوا له شيئا لأنهم يتصرفون بذهنية التاجر الحسّيب في وجه الآلة العسكرية الرومانية فبعد أن رموا به في وجه روما تركوه وكان في إمكانهم أن يفتدوه خلال عقد معاهدة انهاء الحرب مع روما ولكنهم لم يفعلوا ذلك وطبعا لن يكون حاله أحسن من حال هانيبال الذي كانت نهايته مأساوية أيضا على يد تلك الأوليغارشية التي لا تحسن الا ما يحسنه التاجر وهو البيع والشراء فباعوا المواقف ورجال المواقف واشتروا ثمنا قليلا أخروا به سقوط قرطاج ردحا من الزمن ولكنهم لم يقضوا على شبح الموت الذي يهددها.
() في البوني Suffète وفي العبري Sophétim كلمة سامية تعني قاضي. كان يحكم قرطاج شفطان على غرار روما التي يحكمها قنصلان.
() للاطلاع على التفاصيل يمكن الرجوع إلى مقالنا المنشور في مجلة جامعة باتنة للعلوم الاجتماعية العدد 22 جوان 2010 ص ص 83-104.
تحدى الزمن و صمد أمام الإهمال و اعتداءات الإنسان
ضريح الصومعة بالخروب.. لغز تاريخي ينتظر من يفك رموزه
استطلاع: نور الهدى طابي
* تصوير: الشريف قليب
بين سيارات الباحثين عن المتعة المسروقة و زجاجات الخمر و القمامة المتناثرة حول محيطه الذي تحوّل كذلك إلى مرعى للأبقار، يقف ضريح الصومعة الأثري بالخروب أو قبر الملك النوميدي أغيلاد أكبر ماسينيسا (238 148 قبل الميلاد) شامخا متحديا عوامل الإنسان و الزمن، بعدما طاله التخريب و الإهمال لسنوات كان خلالها الحفاظ على التاريخ و استرجاعه آخر هم القائمين على التراث بقسنطينة، ولعوامل أمنية ساهمت هي الأخرى في بقائه نسيا منسيا و تركت الجدل القائم حول الهوية الحقيقية لمن يرقد داخله دائرا لا يجد من يضع له حدا.
الضريح عبارة عن برج مربع مبني على شكل هرم يرتفع عن الأرض بحوالي 8 أمتار مكوّن من مدرجات تضم ثلاثة صفوف من الحجارة الكبيرة، منحوتة بطريقة مستوحاة من الأسلوب الإغريقي، أو ما كان يعرف بالبونيقي، على طول حوالي 10 أمتار، و عرض يزيد قليلا عن 10.30متر.
يقع بأعالي المدينة الجديدة ماسينيسا التي تحمل إسمه، على بعد 4 كلم تقريبا من مركز الخروب و حوالي 16 كلم جنوب شرق قسنطينة، شيّد ليخلد ذكرى الملك ماسينيسا هازم قرطاج و موّحد مملكة نوميديا التي كانت عاصمتها سيرتا .
وقد ذكر لأول مرة كمعلم تاريخي أثري سنة 1838، و مسته أولى عمليات التنقيب و الحفر بين سنتي 1915 1916، قامت بها دائرة علم الآثار بقسنطينة ، حسب ما أفاد به مؤرخون و باحثون شاركوا في الملتقى الدولي حول شخصية ماسينيسا التاريخية مؤخرا بالخروب.
و حسب المشاركين في الملتقى، فإن الضريح كان قد نسب إلى ماسينيسا نتيجة لما كشفت عنه ذات الحفريات، حيث أميط اللثام خلالها عن ما يشبه غرفة دفن ملكية، عثر بدخلها على جرة تحوي رفات شخصين، أولهما في الستين من العمر وهو من يعتقد بأنه الملك ماسينيسا إبن غايا، والثاني في العشرين من العمر وقد رجح المؤرخون فرضية أن يكون أحد أبنائه، إضافة إلى اكتشاف سيف وقبعة عسكرية رومانية لماسينيسا وقطع نقدية.
ذاكرة في مهب الريح
قد يشدك الوصف و تقرر زيارة المعلم لتقف أمام شاهد على التاريخ يقف على هضبته شامخا منذ آلاف السنين، لكنك في الواقع ستفاجأ لوضع الضريح، فجزء كبير منه قد خرّب بسبب عاملي الزمن و الحفريات.
عدد كبير من حجارة هيكله أزيحت و رميت بعيدا عقب عملية التنقيب من بينها أربعة من أبوابه ، كما تآكلت غالبية الرسوم و النقوش الأثرية التي كانت تزيّنه، وحلت محلها كتابات حائطية من فعل شباب وجدوا في جدرانه مساحة لتفريغ مكبوتاتهم.
و حسب ما أكده أعوان الحراسة القائمين عليه فإن مصالح البلدية لدرجة اللامبالاة دفعت بإحدى المقاولات الخاصة التي أوكلت لها مهمة تطهيره إلى جمع القمامة من محيطه و رميها على بعد أقل من مترين أسفل سياجه الحامي.
بالمقابل شجع غياب الأمن و كثرة الاعتداءات المنحرفين على اختياره ليكون مرتعا لهم، و بات ملجأ للباحثين عن المتعة المسروقة، كما يسوق إليه الرعاة و الموالون أبقارهم.
الوضع الذي ظل قائما رغم عملية التهيئة التي مست المعلم سنة2001. و قامت بها مديرية البناء و التعمير في إطار مشروع القرية النوميدية.
ترميمات خلفت جدلا بسبب تكلفتها وجلبت سخط وزيرة الثقافة آنذاك، إذ وصفتها بأنها ترميمات وحشية و همجية، لم تراع الخصوصية الأثرية للمعلم، و تمت دون العودة للوصاية، وقرّرت متابعة السلطات الولائية لقسنطينة، وعلى رأسها مدير التعمير وقتها.
مؤخرا و بعد اختيار قسنطينة كعاصمة للثقافة العربية سنة 2015، أعيد بعث مشروع الترميم، حيث طرح مقترح يخص استرجاعه و استغلال محيطه لإنشاء مسرح مفتوح للعروض.
و قد أوضحت مديرة مصلحة الديوان الوطني لتسيير و استغلال الممتلكات الثقافية المحمية بقسنطينة بهذا الخصوص، بأن المشروع لم يتعد كونه مجرد مقترح إلى غاية الآن، رغم انطلاق الدراسات الخاصة به و التي تعدت ال 35 بالمائة، مؤكدة بأن العمل جار لأجل تفعليه خصوصا و أن مساعي استرجاع المعلم جدية و إمكانية تجهيزه لسنة 2015 جد واردة.
«صومعة إبليس» مزار أمازيغ الجزائر
الضريح وحسب مؤرخين كان يطلق عليه قديما اسم « صومعة إبليس»، وهي تسمية متوارثة عن الأجداد الذين عرفوا المكان دون أن يحاولوا معرفة سر التسمية الخرافية، التي يعتقد أن تكون مستلهمة من سر المكان وهيبته، خصوصا وأن موقعه ظل معزولا لسنوات طويلة.
و بالرغم من نشاط المنطقة و تحوّلها إلى مركز عمراني ناشط، إلا أن تواجد الضريح ذي الأهمية السياحية على بعد أمتار قليلة من أحد الأحياء السكنية بمدينة الخروب، لم يغيّر نظرة النفور منه، فغالبية من يقطنون العمارات التي تطل عليه يجهلون تاريخه بل يجهلون هوية من يحمل اسمه.
استطلاع بسيط كشف لنا عن غياب تام للوعي و الثقافة التاريخية لدى الكثيرين، فجل من سألناهم من سكان الحي و مناطق أخرى مجاورة أجمعوا على أن معرفتهم بالضريح لا تعدوا كونه معلم أثري قديم، يتجنبون زيارته بسبب غياب الأمن.
أما ماسينيسا فقد أختزله جلهم في أحجار الضريح، فيما حاول آخرون الاجتهاد و انتهوا إلى أن الضريح هو للملك ماسينيسا أحد ملوك نوميديا و ربما « الرومان» كما عبروا.
حراس الضريح اخبرونا بدورهم بأنه شبه مهجور لا تقصده العائلات إلا في ليالي الصيف بعدما هيئت الساحة المحاذية له و أنشئت بجواره حظيرة لركن السيارات، أما بقية العام فيقتصر زواره على السياح الأجانب، كما يحج إليه الكثير من الأمازيغ قادمين من منطقة القبائل جلهم كما أوضحوا من بجاية و البويرة .
وقد أكد لنا أحدهم بأنهم يبدون إهتماما بالضريح طيلة السنة، حيث يعتبرونه مزارا لكونه قبرا لأحد أجدادهم و مؤسس الحضارة الأمازيغية و حاميها.
بين الضريح و القبر
لا يزال الجدل بين تونس و الجزائر حول حقيقة دفن الملك ماسينيسا بالضريح قائما منذ بداية الحفريات المتعلقة به، و الحديث عن اكتشاف رفاته هناك، جر حديثا آخر عن احتمال وجود مغالطة تاريخية كما أشار مؤرخون و علماء أثار خلال ملتقى الخروب في 20سبتمبر الماضي
الباحثون والمؤرخون تطرقوا إلى أن الحفريات الأولى لم تعتمد على منهجية و أسس علمية، وهو ما أكدته نتائج عينات أثرية من المتاع الجنائزي أعيدت دراستها من قبل مختصين ألمان سنة1981.
ذلك في ظل وجود تأكيدات من قبل باحثين تونسيين تعتبر ضريح الخروب مجرد معلم رمزي في حين أن القبر الحقيقي للملك ماسينيسا يوجد بتونس.
البروفيسور سعيد دلوم من جامعة الجزائر أشار إلى أن بعض القطع النقدية التي عثر عليها داخل غرفة الدفن تعود إلى الحقبة 130، 110قبل الميلاد.
وبالمقابل أكد البروفيسور و عالم الآثار و التاريخ محفوظ فروخي طرحا مشابها ربط خلاله بين نتائج الحفريات الأولى و الدراسة الألمانية و انتهى إلى التأكيد بأن الخصوصيات الهندسية للضريح و عمر بعض ما وجد بداخله، بالإضافة إلى أعمار صاحبي الجثمانين لا تجيب عن التساؤل الحقيقي حول عمر الضريح و هوية من يرقد بداخله.
من جهته يرى الدكتور عبد الرحمان خليفة أنه ربما يتوجب على الباحثين في التاريخ إعادة قراءته مجددا من خلال عملية تنقيب ثانية تكون أكثر تأسيسا من الناحية العملية، للتأكد ما إذا كان أغيلاد ماسينيسا يرقد حقا داخل ضريح الخروب، والضريح قبرا حقيقيا أم مجرد ضريح رمزي بناه النوميديون إكراما لذكرى ملكهم.
رغم كل ما يثار حول حقيقة المعلم و رغم الإهمال الذي طاله إلا أن ضريح ماسينيسا بالخروب سيظل من بين أثمن موروثات الحضارة الإنسانية التي لا تزال شاهدة على أن نوميديا كانت يوما ما مملكة عظيمة عاصمتها قسنطينة.
ن/ط
رجل الدولة الجزائرية الأول لا يزال مجهولا
ماسينيسا يعود إلى عاصمته سيرتا
عاد الملك النوميدي ماسينيسا قبل أيام الى عاصمة الدولة النوميدية التي أسسها و وحد قبائلها من الشرق الى الغرب، في ملتقى دولي بالخروب التي تضم ضريحا يعتقد أن ابنه مسيبسا أقامه، في المكان المعروف بالصومعة، و بالقرب من عاصمة الدولة النوميدية الأولى قسنطينة ألقى باحثون و مؤرخون الضوء على شخصية فذة في تاريخ شمال أفريقيا.
النصر جمعت خلاصة بعض المداخلات التي قدمها الباحثون و نقلت التصريحات من أكاديميين و مسؤولين عن تنظيم الملتقى في محاولة للتعريف بماسينيسا الذي حاول البعض تقزيم طموحه السياسي في سعيه للزواج من الأميرة القرطاجية صوفونيسبا، و نسجوا حول العلاقة قصة حب أسطورية، لكن الدكتورة ماتيلد كازو من جامعة مونبيليي الفرنسية قالت أن العلاقة لم تكن سوى تجلي اجتماعي لتحالفات سياسية معروفة و شائعة في تلك الفترة، و قد وصف المؤرخ الإغريقي بوليبوس ماسينيسا بأنه "من أسعد ملوك الدنيا في هذا الزمان" مشيرا إلى خصاله و طريقة عيشه المتسمة بالاستقامة الأخلاقية و عدم مجاراة بذخ ملوك قرطاج و أباطرة الرومان، فقد ورد في تاريخه المشهور أن ماسينيسا وقد تجاوز الثمانين وقف أمام باب خيمة القيادة في أحد معسكرات جيشه يأكل خبزا حافيا، و قد التقى به المؤرخ اليوناني الذي كان صديقا لشيبيون و تحدث إليه، و نقل عنه صورة الفارس القوي الذي رغم سنه كان لا يزال قادرا على البقاء فوق صهوة جواده يوما كاملا دون تعب،و قال أنه عاش بسيطا بين قومه محاطا بحبهم و تقديرهم. و قد تناول المؤرخون الرومان بعض خصاله و قدموه مثالا للحاكم الذي لا تستهويه مباذخ الدنيا و لا بهرجة السلطان.
الأمين العام للمحافظة السامية للأمازيغية سي الهاشمي عصاد قال في افتتاح الملتقى المنظم من طرف المحافظة ما بين 20 و 22 سبتمبر الحالي "أن اختيار قسنطينة لاحتضان ملتقى حول الملك النوميدي ماسينيسا يعد بمثابة عودة إلى أصول تاريخنا ومرجعيتنا الحضارية". و أضاف أن "اللقاء ( المنظم تحت شعار ماسينيسا في قلب تأسيس أول دولة نوميدية) يندرج ضمن مهمة المحافظة السامية للأمازيغية المتمثلة في توسيع تعليم اللغة الأمازيغية وترجمة بعدها الوطني". مؤكدا على أن "الأمازيغية عامل للتماسك والتلاحم وقيمة مضافة بالنسبة للمجتمع الجزائري"، مشيرا إلى "الإرادة السياسية من أجل إبراز تاريخ الجزائر المتنوع و ثقافتها المتعددة".
أما الباحث ديدا بادي المنسق العلمي للملتقى فاعتبر أن توحيد نوميديا و جعلها قوة في شمال أفريقيا هو طموح حققه الملك ماسينيسا خلال نصف قرن من الحكم قبل أن تعيقه روما القوة الأخرى التي قسمتها ثم ضمتها الأمر الذي انعكست عواقبه على سكان نوميديا.
بالنسبة لهذا الباحث بالمركز الوطني للبحوث في عصور ما قبل التاريخ و الأنتروبولوجيا و التاريخ فان "أهم مرحلة" في تاريخ نوميديا تتمثل في فترة حكم ماسينيسا كونها الفترة التي توحدت فيها نوميديا الشرقية و الغربية في مملكة واحدة. و من هنا تكمن أهمية الملتقى الذي شارك فيه باحثون جزائريون و أجانب من أوروبا و أمريكا و من تونس.
كيف وحد ماسينيسا نوميديا التي صمدت في مواجهة قرطاج و روما 5 قرون
نجح ماسينيسا الذي وصل إلى سدة الحكم في مرحلة ميزتها الاضطرابات السياسية الناجمة عن المنافسة بين روما و قرطاج من أجل السيطرة على منطقة المتوسط لأول مرة في توحيد نوميديا التي تمثل المساحة الإجمالية الحالية لشمال الجزائر. و نفذ ماسينيسا مخططه المتعلق بتوحيد نوميديا و جعل منها دولة مستقلة حليفة لروما صمدت لمدة خمسة قرون. حكم ماسينيسا مملكة الماصيل و تحالف مع روما ضد قرطاج ليصل بعدها إلى سدة الحكم في مملكة الماصيسيل.
و يعتبر المؤرخون أن الفترة النوميدية في شمال إفريقيا بدأت حوالي سنة 250 قبل الميلاد في ظل بروز المملكتين البربريتين في شمال إفريقيا و هما ممكلة الماصيل في الشرق و عاصمتها سيرتا (قسنطينة حاليا) و الماصيسيل في الغرب و عاصمتها سيغا (أولحاسة الغرابة عين تموشنت حاليا). و كانت هاتان المملكتان تتحكمان في السهول بين جبال الأطلس وساحل البحر المتوسط.
و بعد فترة من التعايش بدأت المنافسة مع تولي ملك الماصيسيل سيفاكس الحكم سنة 215 قبل الميلاد و تحالف هذا الأخير مع قرطاج بغرض محاولة السيطرة على الأراضي الماصيلية التابعة للملك زيلالسان الذي خلفه والد ماسينيسا غايا بعد وفاته. و استغل سيفاكس وفاة غايا (سنة 206 قبل الميلاد) لاحتلال سيرتا التي جعلها عاصمته في سنة 205 قبل الميلاد. لكن ابن الملك غايا استرجع مملكته بعد حرب دامية (سنة 202 قبل الميلاد) انتصرت فيها روما بمساعدة من ماسينيسا ضد الجيوش القرطاجية التي كان يقودها الجنرال حنبعل و التي انضمت إليها جيوش سيفاكس فيما بعد.
و أصبح ماسينيسا يتحكم في كل الشرق الجزائري و حفر خندقا بمساعدة الجيوش الرومانية على طول عدة كيلومترات ابتداء من طبرقة إلى الغرب من أجل رسم حدود الشمال الجزائري. و استعاد ماسينيسا سيرتا و جعل منها عاصمته. و عكف ماسينيسا على إصلاح مملكته و شجع القبائل على الاستقرار و توسيع زراعة الحبوب و إصلاح الرسوم الجبائية إضافة إلى تعزيز تحالفه مع روما و إقامة علاقات مع اليونان. و وضع صورته على القطع النقدية باللغة البونيقية التي أصبحت اللغة الأكثر استعمالا في المملكة.
و احتل ماسينيسا بعدها أراضي سيفاكس ثم قام بتوحيد نوميديا و رسم الحدود الغربية لمملكته ابتداء من واد ملوية القريب من الحدود الجزائرية المغربية. وتم توسيع المدن بحيث استحدثت مدن مادوروس (مداوروش) و تيبيليس (أنوما) و تشوبورسيكو (خميسة).
نظام الملك عند ماسينيسا كان جماعيا في شكل المدينة الدولة
اعتمد ماسينيسا نظام إدارة الدولة النوميدية مستلهما من الإغريق الذين تأثر بهم كثيرا و كانت ملامح الحضارة اليونانية الهللينية بارزة في مختلف منجزاته، فترك السلطات المحلية بيد قادة المدن الذين كانوا ينوبوه في إدارة شؤون مدنهم، و كانت المملكة تتكون من عدة جماعات يمثلهم رؤسائهم لدى الملك. و قد عرفت الكثير من الدول في الماضي البعيد و القريب هذا النظام الذي وضعه ماسينيسا و حتى فجر النهضة الإيطالية الحديثة قامت دويلات حول المدن الإيطالية المزدهرة مثل جنوة و البندقية مثلما أفاد مشاركون في الملتقى، لكن نوميديا كانت في مواجهة سلطتين مركزيتين قويتين هما قرطاج و روما بحكمهما المركزي الراسخ قد إختارت أسلوبا أكثر تفتحا في البداية، واستمرت السلطة فيها تنعم بالاستقرار من خلال تحالفات جماعات الحكم المحلي التي يمكن إعتبارها نوعا من الفيدرالية تحت قيادة ماسينيسيا لمدة تزيد قليلا عن نصف قرن (-202 إلى غاية 148 قبل الميلاد) و كانت المملكة موحدة و مزودة بجيش قوي و متطورة اقتصاديا.
و بالنسبة للأستاذ ديدا "من الأكيد أن نوميديا "كانت موجودة قبل ماسينيسا بكثير لكن فترة حكمه تمثل أهم مرحلة في التاريخ بالنظر إلى الدور بالغ الأهمية الذي لعبه في توحيدها في ظرف جيوسياسي خاص في محيط المتوسط". و قال أن "نوميديا ماسينيسا كانت تمثل جزء من القوى العظمى آنذاك على غرار روما و قرطاج. ولم يكتف بتوحيدها في مملكة واحدة بل جعل منها قوة عظمى على عدة أصعدة خاصة منها الاقتصادي. و من ثم لا بد أن يكون محل فخر بالنسبة للأجيال الجزائرية".
و أوضح خلال الملتقى أن "ماسينيسا مثال لتوحيد الدولة و الحكم إذ نجح في تنظيم الجيش و الفلاحة و توطين البدو الرحل. كما لم تسجل أي ثورة شعبية خلال فترة حكمه لأنه كان يكن الاحترام للشعب و لم يكن يمارس سياسة ضرائب صارمة كثيرا".
و حين طالب ماسينيسا بأرض أجداده التي إستولى عليها القرطاجيون بعد هزيمة لحقت بهم على أيدي حلفائه الرومان رفضت روما مشروع ماسينيسا الرامي إلى الظفر بمدينة قرطاج التي دمرها الجيش الروماني سنة 146 قبل الميلاد، لأنها كانت تخشى فقدان سيطرتها في شمال أفريقيا بظهور دولة محلية قوية، و استغلت وفاة الأغليد المؤسس لتقسيم تركته السياسية بين أبنائه الثلاثة و التحكم مجددا في زمام الوضع. لكن البعض من المتدخلين خلال الملتقى قالوا أن تولي أبناء ماسينيسا الثلاثة الحكم في مملكته بعد وفاته كان انتقالا سلسا للسلطة دون حروب فيما بين الإخوة و هو أمر نادر الحدوث في ذلك الزمان، لأن ماسينيسا كان في حياته قد ترك تدبير شؤون بعينها بيد أبنائه الذين رباهم على ذلك و أعطى كل واحد منهم صلاحيات معينة في دولته و قد بقوا بعده على تلك الطريق مثلما أوضح الأستاذ حارش من جامعة الجزائر2.
لماذا بقي تاريخ الدولة النوميدية مجهولا و شخصية ماسينيسا مكتومة
يرى عدد من المشاركين في الملتقى أن كتابات المؤرخين و باقي النصوص حول نوميديا و تحديدا حول ماسينيسا تعكس "نظرة أحادية الجانب" كونها لكتاب إغريق و لاتينيين على غرار تيتليف و ديودور دو سيسيل و آبيان و بوليب. و حسب المنسق العلمي للملتقى فإن" كل ما كتب عن ماسينيسا و نوميديا منحصر في نظرة أحادية الجانب المتمثلة نوعا ما في نظرة الآخر لنا"، معلنا أنه "قد حان الوقت بالنسبة للباحثين و علماء الآثار و المؤرخين الجزائريين لتنقيه تاريخ هذه الفترة و مقارنة نتائج الأبحاث مع تلك التي وردت إلينا من الخارج". و يرى أن البحث في علم الآثار يجب أن يعزز و يركز أكثر على المرحلة النوميدية لأنها "تسمح بتقييم المعطيات التاريخية اعتمادا على أدوات مادية" و تمثل "الضامن لصحة النظرة الجزائرية لتلك الحقبة من الزمن".
و أرجع ديدا بادي قلة عدد الأعمال في علم الآثار المنجزة حول نوميديا إلى عدة عوامل لاسيما ذات طابع أكاديمي إذ ذكر على سبيل المثال كون البحث في علم الآثار لا يزال فتيا بالجزائر بالإضافة إلى نقص مراكز و معاهد البحث في علم الآثار. و قال أن "علاقتنا بالماضي قريبا كان أو بعيدا ليست واضحة بعد و يكتنفها الغموض. و نحن لا نحسن استعادة كل صفحات تاريخنا و لا دراسته في العمق. و لا ينبغي في أي حال من الأحوال اعتبار المرحلة النوميدية نقطة ضعف في تاريخنا كون كل التاريخ معني". و في هذا الصدد اقترح تحسيس مؤسسات النظام التربوي و الجامعي بادراج بعد الجزائر القديمة في البرامج التعليمية و دعا الباحثين إلى إعادة النظر في التاريخ بمجمله.
عمر شابي
عز الدين ميهوبي رئيس المجلس الأعلى للّغة العربية
ماسينيسا أول من وضع أسس أول دولة جزائرية لكن ذلك انتفى بعد موته
حاوره: محمد عدنان
يدعو رئيس المجلس الأعلى للغة العربية الشاعر والكاتب عزالدين ميهوبي إلى تشجيع البحث في تاريخ الجزائر القديم ويؤكد أن إنجاز أعمال سينمائية عن الشخصيات التاريخية من شأنه أن يقرب التاريخ من الناس. ميهوبي الذي بحث في شخصية ماسينيسا و أنجز ملحمة عنه يسجل نقص الاهتمام بتاريخ الجزائر القديم وشح المصادر التي لا تخرج عما كتبه الرومان والإغريق.
ويشير إلى أن الكثير من الباحثين لا يخوضون في مرحلة ما قبل الاسلام لاعتبارها مرحلة وثنية.
*- يبدو ماسينيسا كشخصية وكقائد جزائري مجهولا إلى حد كبير عند الجزائريين برأيكم إلى ماذا يعود ذلك؟
- لا أعتقد أنّ ماسينيسا مجهولٌ في التّاريخ.. لكن الأمر يتعلّق بعدم الاهتمام بالتاريخ القديم، كون مصادره قليلة، وهي عادة لا تخرج عمّا كتبه الرّومان والإغريق وبدرجة أخصّ "تيت ليف" الذي أرّخ للحروب البونيقيّة بأسلوب ملحميّ، شأنه شأن بوليب، ويذهبون أحيانًا إلى تحويل الكتابة عن أحداث ووقائع إلى ما يشبه الأسطورة.. وماسينيسا، كان رقمًا في معادلة الصراع بين روما وقرطاج، ليحول لاحقًا إلى لاعب أساسي في الحرب البونيقيّة الأخيرة وانهيار قرطاج.
كان أول من عقد قمة سياسية لقوى البحر المتوسط
هل التاريخ الرسمي مقصّر في حق هذه الشخصية، أم أن الجزائريين بصفة عامة لا يهتمون بكبارهم وبتاريخهم كما يجب؟
لا أعتقد أنّ التّاريخ "الرسمي" وضع معايير لانتقاء الأحداث، فأبقى على بعضها وقام بمحو بعضها الآخر.. فالتّاريخ، ليس ملكًا لأحد، وللمؤرّخين أن يخوضوا في كلّ المراحل.. وعادة، يكون التّاريخ القريب هو الأكثر إثارة لدى الشّعوب، فيما يتحوّل التّاريخ القديم إلى جزء من التراث والذّاكرة.. ثمّ إنّ المهتمّين بالتّاريخ، لا يخوضون كثيرًا في تاريخ ما قبل الإسلام، إذ أنّ البعض ينظر إليه كمرحلة وثنيّة، لا تستدعي جهدًا أكبر.. في حين أنّ في هذه النظرة تجزيء للتاريخ، وفي ذلك تجزيء للهويّة.
حكم هذا القائد مملكة نوميديا الثانية لمدة قاربت الستين عاما، وكان بارعا في حكمه، أسس العملة وطور الفلاحة والفنون وغيرها، هل لكم أن تقدموا لنا صورة عما قام به في كل هذه المجالات؟
ماسينيسا، بدأ ممارسة السياسة والحرب والحكم دون العشرين، وكان ينجذب أكثر للمواجهة، لهذا فإنّه خاض معارك في شبه إيبيريا (إسبانيا) إلى جانب قرطاج ضد روما، وأخذ برأي أبيه في التحالف معها، ولكنّ لعبة السياسة حرمته المرأة التي أحبّ، "سوفونيسب" ابنة حاكم قرطاج وزوجّها لسيفاقص بعد أن أطلقت يده على مملكة ماسيليا، ليجد ماسينيسا نفسه منفيا في الجبال يبحث عن حليف لاسترداد عرشه والمرأة التي أحبّها. فالمؤرخون ينظرون إلى انقلاب ماسينيسا على قرطاج أنّه مشروع، لأنّها خانته، وتحالفت مع خصمه النوميدي سيفاقص. فمن حقه أن يتحالف مع الشيطان يقول المدافعون عنه، بينما يقول آخرون إنّه السبب في استقدام الرّومان إلى نوميديا، وهي نقطة سوداء في تاريخ هذا القائد الذي يُحسب له توحيد نوميديا وبناء مملكة ذات استقلالية نسبيّة عن روما. كما أنّ من المآخذ التي ينظر إليها المؤرخون على أنّها تستحقّ الدراسة هي سماحه بإذلال سيفاقص، ورغبته الملحة في تدمير ما تبقّى من قرطاج..
هل يمكننا القول أن ماسينيسا هو أول مؤسس للدولة الجزائرية؟
قبل توحيد نوميديا، كانت مملكتا ماسيليا وميساسيليا تحكمان أرض الأمازيغ، إنّما أثّرت فيهما التحالفات المصلحيّة مع الأجانب، مما جعلهما يتصارعان، ويسعى كلّ حاكم إلى ابتلاع مملكة الآخر، وبعد استعادة ماسينيسا لسيرتا وانتهاء سيفاقص أسيرًا، صار المجال مفتوحًا لتوحيد نوميديا، في شكل دولة ذات نظام ينسجم وطبيعة السكان. مما جعل المؤرخين ينظرون إلى أنّ ماسينيسا وضع أسس أوّل دولة "جزائريّة" غير أنّ هذا المفهوم انتفى بعد موته، وتقسيمها بين أبنائه..
إذن لماذا لا يتخذ اليوم كمرجعية سياسية وطنية بما أنه أبدع في أساليب الحكم الراشد وحقق نجاحا كبيرا في دولته؟
المرجعيّة في التّاريخ لا تتجزأ، لأنّه تشكّل التراكم في ممارسة الحكم عبر مئات السنين، ولكلّ مرحلة خصوصية، ومثلما حكم ماسينيسا، واتسم حكمه بمزايا كثيرة، فكثير من حكام نوميديا الذين ترك كثيرٌ منها مآثر في التصدي لسطوة الرّومان، وحافظوا على استقلالية القرار النوميدي، كما فعل يوغرطا، أو تمرّد تاكفاريناس.
كيف استطاع ماسينيسا توحيد القبائل البربرية ومواجهة القوى الأجنبية خاصة منها "روما"، وعلى أي أسس بني تحالفاته السياسية في ذلك الوقت؟ وهل خارطة الصراعات التي كانت في شمال أفريقيا في وقته مشابهة نوعا ما للوضع الحالي؟
بعد انهيار سيفاقص وتراجع قرطاج، وشعور ماسينيسا بأنّه يحظى بدعم أقوى حليف في البحر المتوسّط، صار سهلا عليه أن يضمّ كلّ القبائل، ويمنحها الرعاية والأمان، أمّا مواجهته لروما، فلا أعتقد أنّ ذلك كان بارزًا في حياته، لأنّ شيبو الإفريقي كان ظلاّ له، ويكاد يكون شريكًا له في الحكم، إمّا أنّه كان يخشى عودته لقرطاج، أو أن يزداد قوّة، فيكون خطرًا على روما.. والخارطة السياسيّة، هي أنّ روما وقرطاج كانتا تتصارعان من أجل السيطرة على البحر، وفرض سلطان القوّة التجاريّة، لأنّ قرطاج أكثر ميلا للجانب التجاري منه إلى الحربي، فكانت تستعين بالنوميديين، لأنّهم محاربون أشداء.. ونجح ماسينيسا إلى حدّ ما في أن يكون ثالث قوة في المنطقة، رغم أنّ المؤرّخين يشهدون لسيفاقص بالدّهاء السياسي، وأنّه أوّل من عقد قمّة سياسيّة لقوى البحر المتوسّط بمشاركة روما وأثينا وإيبيريا على ما أعتقد.
رد الاعتبار له يكون بتشجيع البحث في تلك الحقبة والتحلي بالإنصاف
كان ماسينيسا يوصف بالسّعيد لماذا؟
الذي يحكم نصف قرن، يجب أن يكون سعيدًا، والمؤرخون يقولون إنّه ظلّ محافظًا على هيبته وهيئته كرجل حرب حتّى فاق الثمانين..
هناك جدل حول ضريحه الموجود بمدينة الخروب بقسنطينة هل فعلا هذا الضريح له أم لأحد أبنائه أو أحفاده؟
ربّما ما يفسّر، ويرجّح كون الخروب ضريحه، هو ارتباطه الوثيق بسيرتا، وخوضه أكثر من حرب لأجل أن يبقى فيها. وبالتّالي فإنّ مدفنه لن يكون خارج المنطقة.
كيف يمكن رد الاعتبار لهذه الشخصية التاريخية الكبيرة تاريخيا وسياسيا برأيكم؟
ردّ الاعتبار، لماسينيسا وغيره من رموز تاريخنا القديم، يكون بتشجيع البحث في تلك الفترة التاريخيّة، والتحلي بالشجاعة لإنصاف هذا القائد وذاك، إنّما في السياق الزمني والتاريخي. وإنجاز أعمال سينمائيّة، من شأنه أن يقرّب التاريخ أكثر من.. الذاكرة والأذواق.
جدل حول ضريح ماسينسا بالخروب
أ.عبد الرحمن خلفة/ جامعة سطيف
تثار شكوك كبيرة حول هوية صاحب الضريح المعروف بضريح ماسينيسا بالخروب هل هو ماسينيسا أم غيره؟ وتتوفر العديد من المصادر الكتابية و المادية لمعرفة و دراسة تاريخ النوميديين في الجزائر و شمال إفريقيا ، من تلك المصادر المعالم الجنائزية كالدولمن و البازينة و التيميلوس و الأضرحة الملكية مثل المدراسن و الضريح الملكي الموريطاني و ضريح الصومعة بالخروب، الذي سيكون محور حديثنا ، و إذا كانت هذه المعالم بصفة عامة قد عرفت دراسات عديدة فإن المعلومات عنها في المصادر الكتابية تبقى شحيحة ، كما أنها لا تزال تطرح أسئلة عديدة عن الأسر و الشخصيات التي أقمتها و سياقها التاريخي ، السياسي و الاجتماعي.
ضريح الصومعة بالخروب
يوجد موقع الضريح في نوميديا قريبا من العاصمة سيرتا ، و يجعله طرازه المعماري ، البقايا الجنائزية به، و اكتشاف بقايا عظمية به نموذجيا في تاريخ مملكة نوميديا، و قد بني على ربوة إلى الشرق من سيرتا على بعد 14 كلم ،
غالبا ما يوصف هذا الضريح بأنه ضريح ماسينيسا ، و قد كان من المعالم التي حظيت باهتمام مركزي عند الباحثين، و موضوعا لملاحظاتهم الكثيرة حتى الوقت الحاضر. لا تتوفر إشارات عنه في المصادر القديمة و الوسيط على عكس ضريح المدراسن والضريح الملكي الموريطاني، و قد جاء أول وصف له مع بداية الاحتلال سنة 1838 من طرف تومبل و فابل ثم من طرف بربريجر في 1843 الذي اقترح إعادة تصوّر له، كما وضع المهندس ديلامار رفعا لوضعية المعلم، إلا أن أهم حفريات بالمعلم كانت تلك التي نظّمتها الجمعية الأثرية لقسنطينة و قادها المهندس م. بونال بين 1915 – 1916 بمناهج و تقنيات تلك المرحلة، و التي ترجع إليها أغلب معلوماتنا عن هذا الضريح، لتعرف اللقى الأثرية التي عثر عليها فيه إعادة دراستها و تحليلها من جديد بين 1979 – 1980 بمناسبة معرض " در نوميدر(Der Numider ) التي نظمها معرض بون الألماني.
السرداب الجنائزي
بني ضريح الصومعة بالخروب فوق سرداب ( غرفة ) الدفن التي يبلغ طولها 2 م و 1 م عرض، 0.9 م ارتفاع و جوانبها من الحجارة المنحوتة، و قد عثر فيه على رماد عظام متفحمة موجهة من الشمال الشرقي إلى الجنوب الشرقي، و تؤكد الدراسات أن العظام المحروقة تعود لشخصين أحدهما لرجل و الأخرى لمراهق ، و قد كانت بقايا الجثتين محاطة بأثاث جنائزي منها خوذة و سيف و أسلحة أخرى هي محفوظة الآن بمتحف سيرتا بقسنطينة، و قد لاحظ ج. كامبس أنها لا تتشابه مع التجهيز العسكري المعتاد لدى النوميديين.
من يكون صاحب الضريح:
اقترحت عدة فرضيات حول هوية صاحب ضريح الصومعة بالخروب ، فألحقه شارل أندري جوليان بماسينيسا، أما ستيفان غزال فقد أرّخه بالقرن الثاني قبل الميلاد انطلاقا من الفخار الذي احتوته الغرفة الجنائزية، إلا أن هذا التعريف يصطدم بفكرة أن يكون قبرا لقائد عسكري بوني بالعودة إلى التشابه الموجود بينه و بين الأسلحة التي عثر عليها في معبد الحفرة ، و حتى الآن تبدو الفرضية التي ترى أن يكون قبرا لميسيبسا هي الأرجح بالنظر إلى أثاثه الجنائزي الذي يؤرخ بنهاية القرن الثاني قبل الميلاد، و يرجح هذا ما ذهب إليه ف . راكوب من وجود صلة بين السنة التي مات فيها ابن ماسينيسا و اقتراحه الربط بين هذه اللقية بظروف اعتلاء ميسيبسا العرش من جهة و بموت ابنه هيمبصال من طرف يوغرطة مباشرة بعد موت الملك ميسيبسا.
كما تجدر الإشارة إلى أنه رغم بعض التغييرات فإن التأثيرات المعمارية الهللنستية و الإيطالية تظهر بارزة فيه. من جهة أخرى لا بد من القيام بتنقيبات أثرية جديدة بمناهج و و تجهيزات و طرق تحليل حديثة من أجل تحقيق تقدم في هذا الشأن.
الباحثة الأمريكية اليزابيث فنتراس للنصر
أقوم ببحوث ودراسات في الجزائر وأتأسف لعدم اهتمام الجزائريين بآثارهم
ماسينيسا كان يريد علاقة متوازنة بين نوميديا والقوى الكبرى في عصره
أمريكية باحثة في علم الآثار، لكنها تقيم في العاصمة الإيطالية روما، و تهتم بالحضارة الرومانية و بقاياها في حوض المتوسط، قامت بالعديد من المهمات الاستكشافية في الجزائر منذ سبعينات القرن الماضي و لها ذكريات عديدة عن علاقة الجزائريين بالكنوز الأثرية التي تزخر بها البلاد، خلال التسعينات واجهت صعوبات في القيام بواحدة من مهماتها العلمية في الأوراس، و لم يتقبل السكان في منطقة نائية كيف تقيم إمرأة أجنبية بمفردها في منزل بالقرية و لكنها فاجأت العسكريين من شباب الخدمة الوطنية في يوم عطلة حين رأتهم يزورون آثار تيمقاد و قالت لهم أن أجدادهم أفارقة، بنوا الحضارة النوميدية التي أقام الرومان منجزاتهم على أنقاضها، وجدت في واحدة من مهماتها البحثية منزلا متكاملا من الفترة البونيقية السابقة لوجود الرومان وسط مدينة سطيف فسعت مع مرافقتها الجزائرية إلى الحفاظ على المنزل كهيئته التي بناها عليه أصحابه اللوبيون الأوائل أمازيغ العصور الغابرة، فرفضت السلطات المحلية وقتها أيام الحزب الواحد و قالت كيف لهذه الرومية ( يعني الأجنبية) أن تجعل العالم يرى أننا نسكن الأكواخ «القوربي» وفق ما تذكرته من جملة وقائع.
النصر التقت السيدة فنتراس خلال الملتقى الدولي حول ماسينيسا بالخروب من 20 إلى 22 سبتمبر الجاري و سألتها عن الشخصية الأمازيغية التي تراها جديرة بالاهتمام من بين بطلين كبيرين هما ماسينيسا و يوغرطه؟
فردت بالقول أن ماسينيسا كان مؤسس الدولة النوميدية الموحدة الأولى، بينما كان يوغرطة بعده بسنوات مدافعا عن استقلال تلك الدولة و بقائها خارج سيطرة الرومان الذين تحالف معهم ماسينيسا ضد قرطاج لأسباب سياسية و تكتيكية من أجل توحيد مملكته. و كشفت أن المكان الذي تم فيه سجن يوغرطه في روما لا يزال حتى الآن وجهة مفضلة لأبناء منطقة شمال أفريقيا و هي كباحثة أركيولوجية تعي جيدا قيمة و معنى أن يقصد أناس عاديون موقعا أثريا بعينه، و قالت أن يوغرطه حينما اكتشف فساد مجلس الشيوخ الروماني، صعد إلى ربوة مطلة على المدينة و صاح أن هذه المدينة للبيع، فمن يدفع للسيناتورات سيكسب ولاء الرومان و يستخدم الإمبراطورية كيفما شاء. لكن ماسينيسا كان صاحب الموقف المشهور بان أفريقيا للأفارقة و كان يريد علاقات متوازنة بين نوميديا و القوى الكبرى في عصره قرطاج من جهة و روما من جهة أخرى، مع جعل كليهما في مرتبة القوة الغازية المحتلة التي لا وجود طبيعي لها في البلاد.
يتواجد الأمازيغ سياسيا في شمال أفريقيا منذ ثلاثمئة عام قبل ميلاد المسيح و ربما أبعد من ذلك في شكل دولة أقامها والد ماسينيسا الملك غايا و بقيت الدولة النوميدية إلى ما بعد موت ماسينيسا موحد النوميديين شرقا و غربا، فهل كان للأمازيغ وجود حضاري تدل عليه الأركيولوجيا كعلم يدقق في التاريخ المدون و المكتوب؟
بالطبع كان للأمازيغ وجود حضاري و لا يزال حتى الوقت الحاضر، يكفي فقط أن نتجرد من الأفكار المسبقة و ندرس الموضوع بحياد علمي، رأيت الكثيرين هنا يقولون أنه لا وجود لماضي هذه الشعوب التي تقطن الشمال الأفريقي و اقصد شمال أفريقيا من مصر قرب واحة سيوة حتى ساحل المحيط الأطلسي جنوبا عند موريتانيا الحالية، و هذا خطأ فادح لأن الآثار التي بقيت و سلمت من التدمير و النهب بقيت واقفة تدل على أن الأمازيغ بكل فروعهم و مكوناتهم سكنوا واحات سيوة في مصر و فزان في ليبيا و الصحراء الجزائرية الكبرى في مجموعة الغرامانت الذين هم أجداد التوارق الحاليين و انتشروا شمالا و بنوا المدن و أقاموا الموانىء التجارية حتى جبال الأطلس.
أتذكر أنني حين كنت أقوم بالأبحاث الاركيولوجية في محيط مدينة شرشال كان الأطفال يطاردوننا و يرموننا بالحجارة بتحريض من بعض الكبار الذين يعتقدون أنه لا وجود لحضارة سابقة لوجود العرب و المسلمين في شمال أفريقيا و يقولون أن الحجارة الضخمة التي تنتشر في كل مكان تعود لعصور الجاهلية و يطلقون عليها «حجارة الجهال» و يطلبون تدميرها و عدم إيلائها أية أهمية و كانت تلك ممارسات و طرق مسيئة للماضي و للتاريخ و الهوية، لكنها منتشرة بقوة و هو ما أخر الأبحاث في الموضوع.
بالمناسبة وقعت حادثة في تيمقاد حينما كان شبان عسكريين من شباب الخدمة الوطنية يزورون الموقع الأثري و لما سألوني قلت لهم أن بناة صروح هذه المدينة أجدادكم الأفارقة (النوميديون)، فتعجبوا و رفضوا تصديق ما قلته و قالوا لا يمكن للجزائريين أن يكونوا أفارقة، و أدركت حينها كم تحتاج آثار الجزائر للبحث و الدراسة و كم يحتاج الجزائريون من وقت لمعرفة تاريخهم الحقيقي.
تقدمين في مداخلتك شيئا عن الروابط اللغوية بين المجموعات الأمازيغية و تنتقلين من الشرق إلى الغرب و من الجنوب الى الشمال، ما هي أهمية الموضوع من زاوية لغوية ألم تكن الآثار المادية من نقوش و حجارة كافية في أبحاثك؟
لدي الكثير من الأبحاث عن الآثار في الجزائر و في غيرها من بلدان شمال أفريقيا، و بمناسبة الملتقى حول شخصية ماسينيسا مؤسس أول دولة نوميدية أردت تقديم شيء مختلف، جربت طريقة بحث تسمى «غلوطوكرونولوجي» للباحثان كريستوف إيهرد و أندرو كيتشن من جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلس الأمريكية و اللذين عملا على تطبيق تقنيات خاصة طيلة السنوات العشر الأخيرة من أجل صقل تلك المنهجية في البحث و تطبيقها على نظرية التصنيف المسمات «فيلوجينيتيك» التي تضم اللغة و الجينات الوراثية و هدفها هو تحديد مستوى بقاء مفردات اللغة على حالتها الأصلية مع مرور الأزمنة و الحقب، بالإعتماد على معطيات متعلقة بمختلف العائلات اللغوية الأفروآسيوية التي نفترض أنها ذات منشأ واحد.
و تسمح هذه الطريقة بتحديد مجموعات عرقية معينة و معرفة مدى ترابطها ببعض و متى انفصلت عن المجموعة الأصلية.
في سبيل هذا قام الباحثون بمتابعة تبديل الكلمات على مر العصور و أخذوا 90 كلمة من مختلف اللهجات الأمازيغية و بطريقة المنهجية المذكورة و حصلوا على أن الجد الأول لكل اللغات الحديثة و بوجود أدلة و قرائن قوية عاش في بلاد الأمازيغ ما بين الألف الثالثة و الثانية قبل ميلاد المسيح، مع ملاحظة وجود توسع كبير في نطاق انتشار الناطقين بالأمازيغية ما بين سنتي ألف و 800 قبل الميلاد مع ظهور مجموعة لغوية إكتشفت بقوة في واحة سيوة بمصر و في بلاد القبائل بالجزائر، و هذا ما نفسره بإمكانية تواجد النوميديين أصحاب الحضارة الليبية و بمجىء الغرامانت إلى واحة فزان الصحراوية في ليبيا الحالية، و هناك مجموعتان أخريان يمكن أن نقدر زمنها بأربعمئة سنة قبل الميلاد وحدت لغات واحات الصحراء و يمكن أن ترتبط بمجموعة الجيتوليين.
في أماكن كثيرة لا توجد آثار مادية تدل على تحركات تلك المجموعات من السكان في العصور الغابرة و الموغلة في القدم، لكن حدث من خلال نتائج الأبحاث تغير كبير في حولي 500 سنة قبل الميلاد بظهور مجموعة لغوية جديدة موحدة تقريبا تحتل كل منطقة المغرب الأوسط التي هي الجزائر، و يعتبر البحث في هذا المجال وثيقة تحليلية لنتائج أبحاث قام بها إيهرد بمفهوم الأركيولوجيا و الآثار الجينية الوراثية و يمكنها ان تساهم في فهم تاريخ كامل منطقة شمال أفريقيا بطريقة علمية أدق و أعمق.
هل لديكم أبحاث جديدة عن المنطقة؟ و ما هي مشاريع البحث التي تريدين القيام بها في المنطقة؟
عملت كثيرا و طويلا في البحث عن آثار النوميديين و الرومان و من عاصرهم في مختلف العصور التاريخية في هذه البلاد و أنا الآن أتابع مشروعا جديدا أطلقته عام 2003 يتعلق بتوثيق و تدوين الآثار و المكتشفات التي يعثر عليها الباحثون من خلال موقع أركيولوجي يستخدم تكنولوجيات الإعلام و الإتصال الحديثة عبر الإنترنت يسمى «فاستي أون لاين»، و فيه جرد و تدوين و رصد لكل المكتشفات الأثرية من كل دول محيط البحر الأبيض المتوسط الذي كان نطاق الإمبراطورية الرومانية، و بهذه المناسبة أتأسف لعدم مشاركة الجزائريين في المشروع مقارنة بحماس و إندفاع المغاربة و التونسيين الذين يسارعون لتدوين مقتنياتهم إلكترونيا و يعطونها أهمية و يبحثون لها عن الإهتمام الأكاديمي العالمي الذي توفره مخابر البحث في الجامعات الغربية العريقة، و المشروع هو بنك معلومات أركيولوجية نال تقديرا عالميا و حاز عام 2013 على جائزة المعهد الأركيولوجي الأمريكي بوصفه حقق قفزة في الأركيولوجيا الرقمية، و أنا رئيسة الجمعية العالمية للأركيولوجيا أواصل الاهتمام بتطبيقات علم الآثار على المدى التاريخي البعيد في شبه جزيرة إيطاليا و دول شمال أفريقيا.
لدي اهتمامات لكن ليست لدي مشاريع محددة حاليا حول العلاقات الاجتماعية و الاقتصادية في بيئة الإمبراطورية الروماني على مر العصور ، و أود التركيز بشكل بارز على العلاقات و التبادلات التي كانت بين الرومان و الشعوب غير الرومانية في نقاط التماس بين الطرفين و هنا تكون منطقة شما لأفريقيا مثالا كبيرا، و أهتم بمواضيع ذات علاقة بذلك التماس من قبيل أسواق العبيد، و خطوط الليمس الدفاعية التي أقامها الرومان على حدود إمبراطوريتهم و هي هنا في منطقة تبلغ حتى جنوب الأوراس أحيانا، و لا تتجاوز جنوب قسنطينة في أحيان أخرى، حسب طبيعة المكان و علاقة سكانه الأصليين بالرومان.
للباحثة إليزابيث فنتراس الحاصلة على شهادة من جامعة بنسلفانيا عام 1969 في اللغة اللاتينية العديد من المؤلفات و البحوث منها كتاب يعد مرجعا بعنوان نوميديا و الجيش الروماني المنشور عن جامعة أوكسفورد عام 1979 و قد حصلت على ماستر من جامعة لندن عن الآثار الأتروسكية و الرومانيةعام 1974 و نالت عام 1979 دكتوراه فلسفة من كلية سانت هيوز بجامعة أوكسفورد عن دراستها حول الآثار الرومانية تناولت التأثيرات الإقتصادية للجيش الروماني على جنوب نوميديا.
هي الآن أستاذة زائرة في جامعة لندن و جامعة أوكسفورد البريطانيتين و استاذة بكلية ميللون التابعة للأكاديمية الأمريكية في روما.
أجرى الحوار عمر شابي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.