ظلت كتابة المنفى أو المهجر، محور أسئلة خجولة وخافتة، أو الأصح، ظلت منطقة غير مطروقة في خارطة الأدب الجزائري، وفي المرات القليلة التي تم تناولها في مؤتمرات أو دراسات نادرة، تم طرقها بخلفيات إديولوجية، بعيدا عن سياقها الفني والأدبي، وهذا بأطروحات ومقاربات مربكة وغير منتبهة للب الموضوع وإشكالاته الحقيقية المتعددة والمختلفة. «كراس الثقافة» في عدد اليوم، يسلط الضوء على هذا المحور. ويفتح الملف مع مجموعة من الكُتاب والنقاد، وقد تحدثوا كلٌ حسب وجهة نظره ورؤيته وزاويته الأدبية والنقدية، عن أدب وكتابة المنفى والمهجر وأسئلتها الجديدة، وعن سقف وسياقات هذه الأسئلة وهل لها جذور بالهوية والإنتماء، أم هي مفصولة وغير منتمية وفيها هوة واغتراب. إستطلاع/ نوّارة لحرش اليامين بن تومي/ناقد وكاتب رواية المنفى أو التِّيه المضاعف عن أي منفى نتحدث؟ بل ما معنى أن نكتب المنفى؟ أو كيف يمكننا أن نتعرف على جماليات أدب المنفى؟ هنا يصبح المنفى كائنا مفهوميًا يتعالى على التحديد الذي يفيد الغربة أو الأقاصي والأباعد، بل هناك الكثير من النصوص تعيش المنفى في جغرافيتها، كيف يمكننا أن نسمي كُتاب الرواية الفرنكفونية في الجزائر يعيشون على أرضهم خارج لغتهم؟ بلسان الأغيار يعبرون عن وضعيات وجودية قاهرة،هذا المنفى الجمالي يمثل لحظة اغتراب في لسان الأغيار، إذا علينا أن نميز بين المنفى الجغرافي والمنفى اللغوي فكليهما ظاهرتين تسترعيان الانتباه. لدينا أمثلة ممتازة عن النموذجين كُتاب المنفى الجغرافي أذكر جيمس جويس وأذكر عن النوع الثاني كاتب ياسين، رشيد بوجدرة سليم باشي، بوعلام صنصال، آسيا جبار، ياسمينة خضرة وغيرهم. وها هنا يطرح التصنيفين أسئلة جذرية عن المنفى حيث يطرح المنفى بالاعتبار الأول أسئلة الجسد وإشكالية الذات، والمشاكل الأنطولوجية للمغترب وعن مفهوم الوطن والقضايا المتعلقة به كبعض الاشكاليات التي تطرحها الرواية الشبابية الآن عن قضايا الهجرة والزواج بالأجنبيات ومشاكل الأجيال التي تحمل جينات الهوية وتعاني قلقا مزدوجا بين الوطن الخارجي والوطن المخيالي الموجود في ميزاجية الأباء من خلال الموروث الحكائي. أما المنفى اللغوي فهو الذي فتت عناصر الهوية بشكل منهجي ونقل المفهوم من طور الصلابة إلى طور السيولة ولم يعد المنفى مسألة جغرافية تعبر عن الخروج الطوعي أو القسري عبر الحوائل الكولنيالية أو الاقتصادية بقدر ما أصبحت اللغة في ذاتها تحمل تيمة المنفى من خلال ما يتراكم على جسدها من شروخ وجروح تاريخية تعبر عن أزمة حقيقية للخيبات التي تعرض لها المثقف في وطنه، لذلك يهرب إلى داخل اللغة ليعبر عن تلك الأزمة أو يعيد تشكيل معنى لحالة اللامعقولية الخارجية من خلال تلك الرمزية التي تمنحها القدرة على التعبير والإنجاز كما يقول التداوليين في عالم يكون فيه الفعل مستحيلا، أو الكتابة وصناعة العالم بالكلمات هي الفرصة الكبيرة أمام المثقف ليعيد تشكيل هويته ويوتبياه كما يريدها هو، هي كتابة تنقذ الفرد من الهلاك أو السقوط في الفضاضة التي يفرضها الواقع لأن إعادة إنتاج معنى المنفى من خلال مواطنة الكتابة يعيد تشكيل ممكنات الحياة التي فقدها الفرد في واقعه لكثرة التناقضات، واشتغال أنظمة العقاب اليومية التي حولت الفرد إلى غريب وعاجز عن تحقيق أفعاله، والمنفى المعاصر ليس شكلا واحدا أسبابه سياسية بل أساساته متعددة مثل العزلة والاغتراب المريع الذي بات فيه الإنسان من إنسانيته نتيجة طغيان الآلية والتقنية حيث تحولت المشاعر إلى مجرد إنتاج آلي للحركة والفعل والكتابة تعيد الذاكرة إلى أشد الأوضاع إرباكا للإنسان حيث يعمل التذكر على جر الأطياف والكائنات الميتافزيقية البعيدة لإنتاج خطاب الأصل والانتماء والمرجعية والوطن. وعلى ما افترضناه فأشكال المنفى ليست واحدة وإنما متعددة لعموم التجربة يجد فيها الفرد ممكنات القول حاضرة للتعبير عن حالته تلك وبالرغم من حضور الغياب في النصوص السردية تبقى تيمة المنفى لازمة تحيل عن حالة أنطولوجية شديدة الحساسية. محمد الأمين بحري/كاتب وباحث وأستاذ في جامعة بسكرة- قسم الآداب واللغة العربية أدب المنفى بين إنزياحات الهوية وبدائل الكتابة التفكيكية لعل من مزايا الاستبداد في العالم أنه ينتج منافي لأدبائه تستحيل مراكز إشعاع وحياض إبداع تمنح أدب المنفى تأشيرة مفتوحة نحو العالمية، وهالة من الاحتفاء والحظوة لدى النخب المثقفة أكثر من أي لون أدبي آخر، وتدفعه طبيعته وبيئته هذه نحو الانفتاح على الآخرين، وبناء جسور من العلاقات بين الأمم. وتأسيس ولادة ثانية لهوية يطبعها الانزياح، وقومية يحايثها التفكيك وإعادة التشكل بما يتلاءم مع وضع التحاور والمكاشفة الحضارية بين الأنا والآخر إثر الارتحال المتبادل للمفاهيم الثقافية العابرة بين الهنا والهناك. فبين الضفتين، تنتقل الذات من التمركز إلى الانفتاح، ومن حالة الرفض والاستبعاد هنا إلى تمكين القبول والتعايش هناك. وضعية من شأنها أن تنتج من الناحية الفنية تسانداً بنيوياً ودلالياً مشتركاً بين المنجزات الأدبية لكُتّاب المنافي الذين كابدوا تلك النقلة المكانية والحضارية ليؤسسوا لوناً من الكتابة يشغف بطرح تخييلي غرائبي لأسئلة وأزمات وجودية أكثر مما يشغف بالبحث عن إجابات نهائية وحلول جذرية لها. ومن بين أبرز أسئلة كتابة المنفى: سؤال "التباس الهوية» الباحث عبر تجليات هذه الكتابة عن كينونة جديدة ؟ «ولادة ثانية» تنشأ من رحم إشكالية الانتماء التي تعانيها الذات المرتحلة التي لا تنفك عن رسم ملامح وطن بديل، ولو على فضاء التخييل الذي يغير إحداثيات الجغرافيا والواقع، فينزاح الوطن من كونه تلك الرقعة الجغرافية التي نسكنها، إلى فكرة يوتيبية تسكننا، فكرة نشيدها في أعماقنا، فترتحل معنا، وتتشكل على مقاس أفكارنا، فنتعصب لها، نختلف حولها، ونقتتل من أجلها. فمن سؤال التباس الهوية ولدت «نجمة» كاتب ياسين صانعة من التشوه جمالية ملامحها، ومن التشتت مقومات خطابها الثائر، ومن سؤال الانتماء الظنين تفجرت القومية في ثلاثية محمد ديب بكل محمولاتها ومكبوتاتها الحضارية، بشكل لم يسبق له مثيل في أدب الأنا ولا في أدب الآخر، بل أي أثر للهوية الفلسطينية قضية وثقافة و وجوداً في العالم دون شعر محمود درويش. نفهم من هذه النماذج بأن الاغتراب مهما كان نمطه، لا يمثل انفصالاً وقطيعة مع الجذور بقدر ما يعمل على إعادة التموقع منها فكرياً وفنيا عبر كتابة تفكك الأفاهيم التقليدية الموروثة للانتماء، وترشحها من جديد وفق علاقات منفتحة على الآخرين، فتصبح الكتابة عن الوطن والانتماء آلية عبور للهويات والكينونات من وإلى الذات، وليست آلية طرد مركزي للعلاقات، فاتخذت من مفاهيم الهجرة والاغتراب مفاتيح لخطابها، ومن ثنائيات، الهنا والهناك، والأنا والآخر، معالم لثيماتها النصية. ومنطلقات فكرية لطرح بدائلها لما فككته من مفاهيم تخص انتمائها. ومن بين أبرز البدائل التي ترشحها هذه الكتابة، تفكيك إشكالية الهوية التي لم تعد تراكما لما ورثناه عن السلف، بل صارت منجزاً نغذيه بتفعيل علاقاتنا مع الآخرين في العالم. لقد أضحت كتابة المنفى بهذا الطرح آلية تفكيكية تنحو إلى تغيير إحداثيات الوجود الموروث الذي ما انفك يعتاش على ترسبات ثقافية محلية متمركزة حول ثوابت قومية لا دور للإنسان فيها إلا حراسة قِلاعها العتيدة. وبالمقابل تطرح هذه الكتابة بدائلها التي تجعل من الهوية طاقة تتقوى بالانفتاح والحوار مع الآخرين، ومن القومية ممارسة وفعلاً تقدمياً لا يتكرس بالخشية من الآخر والحذر من اكتشافاته للذات، بل بمد جسور المثاقفة معه، لتأمين العبور من حالات التمركز والانغلاق، إلى أشكال أكثر انفتاحاً للهوية التي أضحت في منظور كُتّاب المنافي فضاءً يحيا بالفعل والتفاعل وليس موروثاً متحفياً هشاً يُخشى عليه من التلاشي كلما اقترب من الآخر. محمّد خطّاب/ باحث جامعي الإقامة في النفي والمنفى هو الاغتراب عن الذات نفسها خلال الكتابة تبدو الكتابة في ذاتها سليلة النفي. نتحدث عن الكتابة كطبيعة استثنائية تؤسس لاختلاف الكائن وتفرده. كلما كانت الكتابة ضاربة في أعماق التجربة كلما كانت نفيًا لكل ذات مغلقة. الكتابة لا تعترف بالحضور الذاتي الضيق، الكتابة حالة من الاستقلالية والبعد عن كل عناصر المركزية. يمكن أن نتكلم عن تفكيك المركز من منظور حداثي ويمكننا أيضا الحديث عن طبيعة الكتابة التي تحرر الذات من رق الحضور بالاعتبار الفلسفي الذي طرحته كتابات دريدا وبلانشو. ولكن ما يعنينا الآن هو نوع من الكتابة الذي ظل ينمو على الهامش دون أن يفطن إليه أحد، ولكنه استرعى بعض الانتباه للقلة التي التفتت إليه. نحن نتحدث عن كتابة متعلقها الغيب الذي يحضر بقوة فيما يغيب وينفي الذات عن ذاتها. نتحدث عن كتابة صنفت بالاعتبار المدرسي بأنها صوفية ولكني لن أسميها كذلك، أسميها كتابة عرفانية يتداخلها مجالان: الشهادة أو الحس، والغيب أو الروح. وبعيدا عن منطق التسميات المدرسية، أحاول أن أعطي تفسيرا للكتابة الباطنية التي ترسم أفقا رمزيا لا يقف عند المشتركات المنطقية المعروفة. المنفى الذي نود الكتابة عنه مجاله تجربة الكتابة العرفانية أو الباطنية التي هي اختبار حقيقي للإنسان في هذا الوجود. المنفى ليس طردا من الجغرافيا أو هروبا منها إلى جغرافيا ثانية، المنفى هو الاغتراب عن الذات نفسها خلال الكتابة. ولكي يكون لهذا التصور من مقابل في التجربة نأخذ مثالا من الكتابات العرفانية أو الصوفية -بالاعتبار المدرسي- التي نشأت أو تأسست حول اللغة ذاتها. نصوص تختبر اللغة التي يعتمد عليها العارف في تصوير تجربته أو نقلها إلى الآخر أو محاولة إخراجها من حالة السر التي لا تطاق. كانت تجربة النفري مثلا مختلفة في تصورها للغة أو للكتابة أو كما يسميها للحرف. ولعله آمن هو الآخر من موقع الغيب الذي يستفزه باستمرار بأن الكتابة لا تحقق للإنسان وجوده الذاتي بقدر ما هي تمويه لهذا الوجود وانحراف للصورة وإعادة موقعه للذات والتي يسميها الإقامة في النفي حينما يقول «إذا أردت أن لا يخطر بك الاسم والذكر فأقم في النفي» الاسم هو ما يمكن أن يخلقه الكاتب من اعتبارات لفظية أو صيغ تعبيرية تمكنه من التواصل مع الآخر أو فضح الذات، وعلى الرغم من ذلك خرجت تجربة النفري عن السياق العام لتؤسس لسياق الخيانة التي تقوم بها الكتابة تجاه الذات، هذه الخيانة التي يسميها في تصورنا بالفتنة «أول الفتنة معرفة الاسم». لا يمكن البحث عن الانسجام بين الذات وبين الكتابة، فهذه تجربة بورجوازية فاتنة وغير قلقة. القلق كله يكمن في الغياب والنفي والبعد الذي يخلقه الاسم. اللغة فتنة ولا يجب الوقوف عندها ولكنها باعتبار أصحاب التصوف والعرفان فتنة جميلة لا بد منها، إذ كثير من العرفاء يقولون بأن الكلام ضروري لتأسيس الوجود وقد خلقنا الله بالكلام ولولاه لكنا اليوم في عدم كما يقول الشيخ الأكبر. لكن الأساس في تجربة التصوف هو النظر إلى اللغة كحالة زئبقية متحولة لا يمكنها أن تكون دليلا على حقيقة الذات. إن اللغة والكتابة خصوصا هي تعمية على الذات وبالتالي نفي لها. الكتابة في التصوف ستبقى تجريدية محضة حتى وإن كان حس الوجود هو الدافع إليها. تجربة التصوف غير منتهية لكن اللغة أوالكتابة منتهية، فكيف لمنته أن يحيط بلا منته؟ وكيف للصوت أن يستغرق الذات المجربة؟ فالذات تظل تحيا في غربتها فيما تبقى اللغة حالمة دائما بالوصول إلى ما لا يمكن الوصول إليه أبدا. بن علي لونيس/ ناقد أدبي الكتابة المنفية يزداد شعورنا في هذا الزمن المرتبك بالغربة، بأننا كائنات كُتب لها أن تعيش في منافي أنطولوجية بالدرجة الأولى. هو إحساس بتراجيديا الحياة في مجتمعات تنهار فيها قيم الإنسان، وتسحب من خلفها بجثته المغتالة بألف طريقة. حين نتأمّل فيما يكتبه بعض أدبائنا سواء في العالم العربي أو في الجزائر تحديدا ندرك أنّ ثمة تحوّل في إدراك علاقة الكتابة بالمنفى، فبعد أن كان الحديث يدور حول علاقة الأدب بالمنفى كعاملين مفصولين، ظهر نوع من الإصرار على الحديث عن الأدب المنفي أو الكتابة المنفية. ففعل النفي يوسّع من مدارات هذه العلاقة، بل ويعمّق من دلالة المنفى الذي يعني في عمومه تجربة الحياة بعيدا عن الأوطان، إلى دلالة أنطولوجية تعني صعوبة «الإنتماء» إلى منظومة قيمية معينة، وهنا لا يعود للأوطان تلك المركزية الممنوحة لها سابقا، بل تصبح فكرة الإنتماء هي من يحدد طبيعة الكتابة التي تنبثق عن صعوبة الكاتب في الانتماء إلى منظومة ما. "المنفى" يقول عبد الله إبراهيم ليس بقعة غريبة فحسب، بل هو مكان يتعذر فيه ممارسة الانتماء. غير أنّ المكان المقصود هنا ينسحب على كل مساحة ليست بالضرورة فيزيقية بل هي أيضا إجتماعية وأخلاقية وجمالية. الكتابة المنفية ليست الكتابة التي تسجّل بانفعالية ميلودرامية علاقة الانزياح العنيف للذات عن مكان ما، بل تعبّر عن انزياح الكتابة عن منظومة جمالية وفنية، والنص الحداثي المأمول –أي ذاك الذي نعقد فيه آمالنا الحداثية– هو ذاك النص المنزاح عما عهدناه من قيم فنية وأشكال جمالية. كل كتابة حداثية هي كتابة منفية، تتعرّض لصنوف من الإقصاء الفني والقرائي. ما الذي ينفي الكتابة؟ هي الكتابة من يفعل ذلك، أقصد كل ذلك الإرث النصي الذي ترسّخت جذوره الفنية والجمالية وأصبحت تمثّل معيارا ونموذجا يحدد مجال الكتابة وحدودها وآفاقها وممكناتها. كلّ كتابة هي تجربة اختبار إمكانية ممارسة نفي مزدوج، نفي الكتابة السابقة، والاحتماء من عنف الكتابات السابقة عليها. أي أنّ الكتابة المنفية هنا يمكن أن نفهمها في الحالتين: حالة الكتابة الحداثية التي تتعرّض لمضايقات من قِبل المؤسسة الأدبية والتأويلية، وحالة الكتابة التراثية التي تتعرض هي الأخرى لمحاولة نفيها من قبل الكتابات الحداثية التي تنطلق إلى آفاق المستحيل. من هو الكاتب المنفي؟ ليس بالضرورة ذلك المتسكّع في أوطان غيره، بل هو ذلك الذي يتسكع في وطنه لكن دون أن يتخلّص من أوزار الإحساس بالغربة وهو يجول ويصول بين جنبات وطنه. الكاتب المنفي هو الذي يبحث عن شكل يستوعب قلق الانتماء في حياته، هو الباحث الأبدي عن سلام يُدرك في قرارة نفسه أنه سلام مستحيل، وبأنّ الأوطان قد تتحوّل إلى مجرد بضاعة قومية صنعتها المراكز الأمنية أو الأحزاب القومية لأجل الايهام بأنّ الإنسان هو ابن بقعة ما. الكاتب المنفي هو الرافض لأن يكون الوطن مجرد قطعة أرض تضيق في داخلها النفوس، ومجرد ولاء لقيم اخترعتها السلطة لأجل أن تمارس سلطتها القهرية على من يسمون بمواطنين. أظن أن الكاتب المنفي هو الذي لا يعترف إلا بانتمائه إلى العالم، أي إلى الكون دون أن يضطرّ إلى أن يفكّر في الحدود التي مزّقت القوميات وتمزقها. إنها حالة خطر على مستقبل الإنسان، كل هذه الجغرافيات الممزقة بسبب أوهام الإنتماء. بوداود عميّر/ كاتب ومترجم الانفصال عن الجذور واقع نتلمسه لدى كُتاب المهجر ابتداء من الجيل الثاني بصرف النظر عن لغة الكتابة، لا شك أن الانفصال عن الجذور أو عن الوطن الأصلي، واقع نتلمسه جليًا لدى كُتاب المهجر في نصوصهم وكتاباتهم، خاصة المنتمين منهم للأجيال الأخيرة التي ولدت وترعرعت في فرنسا، أو ما اصطلح على تسميته بالجيل الثاني والثالث، أتحدّث خاصة عن الأسئلة أو التيمات المتناولة في نصوصهم، والتي بطبيعة الحال تبدو مختلفة بل ومتعارضة أحيانا مع واقع بلدانهم الأصلية، اقتضاها ربما واقع يعيشه الكُتاب المغتربون الذي يقف غالبا على طرفي نقيض من واقعنا السياسي، الاجتماعي والثقافي، ولعل حاجز اللغة باعتبارهم لا يحسنون اللغة العربية أو اللغات الامازيغية قراءةً وكتابةً، وقبل ذلك لا يكلفون أنفسهم عناء التقرب منها أو الإحاطة بها، ناهيك عن تعلمها وإتقانها، كأدوات لا مناص منها للتعرف عن قرب على هموم وتطلعات شعوب بلدانهم الأصلية، لاسيما وأننا نشهد بفعل سياسة التعريب المنتهجة بعد الاستقلال مباشرة، تراجعًا محسوسا لمكانة اللغة الفرنسية في المشهد الجزائري بجميع مكوّناته، وهو ما من شأنه أن يوسّع أكثر الفجوة بين الطرفين، وتتحوّل أعمالهم بالتالي، خاصة تلك التي تتناول قضايا وهموم مجتمعاتهم الأصلية على ندرتها، إلى مجرد كتابات سطحية، إيكزوتيكية في غالب الأحيان، لا تغوص في عمق واقع مجتمعاتهم، ولا تتطرق إلى أوضاعهم ومعاناتهم الحقيقية، قد لا تختلف في تيماتها المتناولة وفي طريقة طرحها إلى درجة التكرار وحتى الابتذال أحيانا عن كتابات المستشرقين المعروفة، وهو أمر مثير للاستغراب، إذ لا يبدو موجودا بهذا الحجم الذي يشبه القطيعة لدى كُتاب بلدان العالم الآخرين، سواء فيما بين كُتاب الدول الأوروبية في ترحالهم وبحثهم عن مواقع الاستقرار الآمنة لتحقيق حرياتهم خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، أو كُتاب أمريكا اللاتينية الذين استقروا لسبب أو لآخر في أوروبا، والأمثلة في ذلك عديدة، كما أن الأمر يبدو مختلفا أيضا على مستوى المشرق العربي، نشير في هذا السياق إلى الرابطة القلمية وما نجح في تحقيقه كُتاب المهجر هناك من أعمال خالدة باللغتين العربية والإنجليزية -تجربة جبران خليل جبران نموذجا-. من المفيد طبعا أن ينصب اهتمام كُتاب المهجر على قضايا البلد الذي يحتضنهم، لا سيما قضايا البطالة والعنصرية وأسئلة أخرى تتعلق بعوائق الاندماج في المجتمعات الغربية، وصراع الهوية، وهي قضايا تتميز بتناولها خاصة فئة من الكُتاب المهاجرين المولودين في الأراضي الأوروبية، مثل نينا بوراوي وعزوز بقاق وغيرهم، وهي كتابات تتميز بمواصفات محددة سواء على مستوى الجُمل اللغوية المستخدمة والمستمدة خاصة من اللهجة المتداولة بين المهاجرين أو المواضيع المعالجة كما أسلف الذكر، شكّلت نصوصهم بفعل التراكم والتفرد اتجاها أدبيا قائما بذاته في فرنسا، يعود تأريخه إلى مطلع الثمانينيات بات يصطلح عليه la littérature beure ، والذي ينحدر كُتابه في أغلبهم من الجيل الثاني للمهاجرين المغاربيين. في حين تتميّز تجربة الكُتاب المولودين في الجزائر والذين اختاروا الإقامة لسبب أو لآخر في أوروبا وفرنسا تحديدا، مثل آسيا جبار، سليم باشي، بوعلام صلصال، ياسمينة خضرا، مليكة مقدم وغيرهم، إضافة إلى تناولهم قضايا تتطرق إلى معاناة المهاجرين وصراع الهوية والانتماء، يطرحون أيضا هموم وطنهم الأم وتطلعات شعوبهم، باعتبارهم جزء من مكونات هذا المجتمع، يهمهم مصير وطنهم ومستقبله في كنف معالجة أدبية لا تخلو من وجهات نظر متعارضة أحيانا، يحفزهم في ذلك امتلاكهم ولو بشكل متفاوت أدوات التواصل مع أفراد مجتمعاتهم. ولعل كِتابات الفئة الثانية هي الأقرب فيما يبدو ملامسة للواقع الجزائري، والتي نستطيع أن نضعها دون تردد في خانة الأدب الجزائري بغض النظر عن إقامة ولغة كاتبها. محمد تحريشي/ كاتب وناقد وعميد كلية الآداب واللغات بجامعة بشار قد يعبر عن صدمة ثقافية بين حضارتين