يبدي أعوان الحماية المدنية الرابضين منذ أسبوع داخل غابة بني ملول بكيمل التي تبعد بأكثر من 120 كلم عن مدينة باتنة اصرار كبيرا على مقاومة ألسنة اللهب وتتبع بؤر الحرائق التي تزيدها حرارة الجو والرياح القوية انتعاشا من حين إلى آخر على الرغم من الظروف (الجهنمية) التي يعملون فيها والتي صادفت شهر رمضان المعظم. فلا مشقة الصيام ولا درجات الحرارة المرتفعة التي تزيد عن ال50 درجة مئوية تحت الظل في مكان الحريق أثنت عزيمة عناصر فرق الإطفاء على الرغم من تضاريس المنطقة الوعرة وقلة المسالك إلى جانب انعدام نقاط المياه بهذه الغابة الكثيفة منعتهم من شن مطاردة حقيقية لألسنة اللهب. حقيقة وقفت عليها "وأج "التي رافقت أعوان الإطفاء (في مغامرة) طيلة يوم الثلاثاء 14 أوت إلى قلب جبل كيمل (منطقة جنين) تحت إشراف قائد الوحدة الرئيسية للحماية المدنية بباتنة الرائد عبد العزيز رحمون لمتابعة خطواتهم والوقوف على المخاطر المحدقة بهم وهم يصارعون ألسنة اللهب بشجاعة نادرة وظروف يصعب تحملها لأن لفحات النيران المحيطة بالمكان تجعل منه (فرنا في الهواء الطلق) ناهيك عن الدخان الكثيف الذي يحجب الرؤيا ويخنق الأنفاس. و كانت الوجهة باكرا إلى كيمل التي تشهد أكبر حريق سجلته ولاية باتنة منذ بداية الصائفة الجارية والذي يتراءى دخانه على بعد أميال من بلدية لمصارة بولاية خنشلة حيث سخرت له مصالح الحماية المدنية حسب مديرها العقيد العربي زرزي كافة الإمكانات المتوفرة بالتوازي مع ظهور حرائق أخرى بجبال الشلعلع ومنطقة تينزواغ بسريانة مؤكدا بأن أغلب هذه الحرائق متعمدة. أكثر من أسبوع وسط النيران و الإفطار بالغابة كانت بداية الحريق يقول الملازم الأول نور الدين بن شايبة قائد وحدة آريس للحماية المدنية يوم الخميس الماضي قبيل السحور حيث" سارعنا إلى مد حواجز لمحاصرة النيران وإطفائها إلا أن سرعة الرياح والمادة الصمغية الموجودة في أشجار الصنوبر الحلبي المنتشر بالجهة غذت الحريق الذي امتد بعد ذلك ليصل إلى مشارف ولايتي بسكرةوخنشلة". و قد شكل التغير المفاجئ للرياح ولمرات عديدة خطرا حقيقيا على حياة المتدخلين وكذا العتاد المستخدم في الإطفاء الذي تسبب ضيق ورداءة المسالك وانعدامها في مناطق مختلفة من الغابة في صعوبة استغلاله لاسيما الشاحنات الكبيرة التي تعجز عن الدوران حتى في أوقات الخطر. فمنذ أسبوع و"نحن نقاوم النيران دون هوادة في هذه المنطقة الكثيفة بأشجارها ليل نهار بفضل جهود فريقين من عناصر الإطفاء من مختلف الرتب (تضم كل واحدة حوالي 50 اطفائيا) يتناوبون على المهمة رغم صعوبتها "يضيف المتحدث الذي أكد وهو يسكب الماء على ثيابه من شدة حرارة المكان بأن المتدخلين من أعوان الحماية المدنية يفطرون بالغابة بالتناوب لمنع انتشار الحريق وانتقاله إلى منطقة تبابوشت في الضفة الأخرى من وادي جنين. مجهودات جبارة رغم انعدام الماء و المسالك و غياب وسائل الاتصال و في غابة كيمل التي يتوجب الوصول إليها المرور بطريق شيليا الغابي وبلدية لمصارة بإقليم ولاية خنشلة تنعدم فيها شبكة الاتصالات اللاسلكية ويضطر الإطفائي إلى الاعتماد على صوته للتواصل مع باقي المتدخلين لإطفاء الحريق وإيصال المعلومة إلى مركز التنسيق العملياتي كما تضطر المجموعة إلى مد خراطيم المياه على مسافة تزيد أحيانا على 500 متر حملا على الأكتاف وتسلق المناطق الوعرة مشيا على الأقدام للوصول إلى بؤرة الحريق لإطفائه وهناك يكون المتدخل في قمة التعب بعد أن خارت قواه وتصبب ماء جسمه عرقا. و هي عملية جد مضنية يقول الرائد رحمون وترهق الإطفائي كما تزيد من صعوبة مهمة أعوان التدخل الذين يواجهون صعوبات جمة ناجمة عن الصيام وارتفاع درجة الحرارة و الاعتماد على المجهود العضلي ناهيك عن التموين بالماء الذي يجلب من نقطة فريدة في غابة كيمل كلها و هي تابعة لأحد الخواص وإلا فاللجوء يكون اضطراريا إلى بلدية بوحمامة بولاية خنشلة على بعد حوالي 30 كلم و هو المكان الذي يعبئ فيه و قود الشاحنات. أما عماد زغبة ذي ال29 سنة (عون إطفاء) فلم يخف وهو منهمك في متابعة عملية ايصال خرطوم الماء بأنبوب آخر لتدعيم زملائه الرابضين أمام الحريق في مرتفع جنين بكميات المياه اللازمة عن نبل مهمة عون الإطفاء على الرغم من المشقة والإخطار المحدقة به. فالتعرض لعدة ساعات لألسنة اللهب تحت درجات حرارة عالية بعد قطع مسافة طويلة مشيا على الأقدام ودلاء الإطفاء على الظهر أمر ليس بالهين ويتطلب صبر وقوة على التحمل كبيرين في الأيام العادية ما بالك في شهر رمضان وفي ظروف كالتي نعيشها في غابة جنين الكثيفة بكيمل. و برشاقة وخفة كبيرين رغم التعب البادي على وجهه ينظم عماد إلى زملائه في الفريق الذين عمدوا إلى سكب الماء على ثيابهم ليجابهوا بؤرة أخرى من ألسنة اللهب ظهرت فجأة على بعد أمتار من المكان الذي تمكنوا من إخماده. لكن تكفهر الوجوه بعد أن يتوقف الماء فجأة من الخرطوم لقد انتهت الكمية وعليهم انتظار وصول الشاحنة الثانية و لأن النار لا تنتظر عمدت المجموعة إلى طريقة بدائية (الرفش والأتربة) فكل الطرق مسموح بها هنا لمنع انتشار النيران. "إنها لعبة القط والفأر مع النيران نعيشها هنا بغابة بني ملول بكيمل فما إن نتمكن من إخماد حريق إلا واندلع آخر في منطقة لا علاقة لها بالبؤرة الأولى" يضيف الرائد رحمون. ولم يستبعد الاطفائي الفعل الإجرامي وراء الحرائق التي مازالت إلى اليوم تندلع من حين لآخر بالجهة لاسيما بشعبة جنين مستنفرة فريقا من أعوان الحماية المدنية يضم حوالي 100 عنصر من مختلف الرتب يعمل بالتناوب على مدار 24 ساعة دون أن تغفل عينه على النار التي لم تحدد بعد خسائرها. أشجار صنوبر معمرة تنجو من الحرائق: بعد التوغل بحوالي 15 كلم في عمق غابة كيمل المعروفة بكثافتها وكثرة أحراشها تبين ل"وأج" بأن الحرائق التي اندلعت منذ الأسبوع الماضي ومازالت متواصلة بمناطق متفرقة بالجهة بأن جهود عماد وزملائه من الإطفائيين الذين تركتهم بمقربة من وادي جنين و هم مستنفرين كل قواهم لمنع انتشار النيران إلى غابة تبابوشت الغنية بأشجار الصنوبر الحلبي والبلوط والعرعار الأخضر لم تذهب سدى . وقد التهمت النيران فقط الأحراش و الحشائش اليابسة وبقدر أقل الأشجار لتنجو مئات الأشجار الأخرى المعمرة من إتلاف محقق. فروح المسؤولية العالية التي لمستها "وأج" في فريق الإطفائيين الذين رافقتهم في اخماد حرائق شعبة جنين إلى غاية الساعة الثانية زوالا من يوم الثلاثاء بغابة بني ملول كانت عالية رغم تواجدهم وحدهم في الميدان وغياب أطراف أخرى شريكة في المهمة. غادرت "واج" المكان و تركت عماد و زملاءه من الإطفائيين ينتظرون الفريق المناوب لتولى بقية المهمة إلى غاية اليوم الموالي دون بشر سواهم إلا عمي مسعود تاوليليت صاحب البئر الذي يجلبون الماء منه لإطفاء النيران. فهذا الاخير يتابع نشاطهم و حيويتهم بإعجاب كبير بعد أن همس "إنهم مثال حي في الوفاء للضمير و الامتثال للواجب و أتمنى لويدرك الآخرون لاسيما الشباب عمق معاناتهم و تفانيهم أيضا في أداء مهامهم إنهم ببساطة يستحقون تحية شكر وعرفان". لكن يخيم الصمت على الجميع في طريق العودة من غابة بني ملول بعد ورود خبر مؤكد لانفجار لغم تقليدي بجبل تيمزواغ بسريانة على مقربة من فريق آخر من أعوان الحماية المدنية وهو في مهمة إطفاء حريق مهول بالجهة دون إصابة أحد بأذى. ليتبادر إلى الذهن الأخطار الأخرى التي تواجه هؤلاء الإطفائيين الذين يواجهون بباتنة وحدها حاليا العديد من الحرائق بجبال الشلعلع و سريانة ناهيك عن التدخلات اليومية الأخرى مما يجعل مهمتهم جد ثقيلة.