بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين, أيتها السيدات الفضليات, أيها السادة الأفاضل, "فإنه ما من شرف تناله النفس, وعلو تسمو إليه مثل مقام يذكر فيه اسم الله وتعظم فيه شعائره وفضاء يرطب فيه اللسان بحلاوة القرآن الكريم الذي تخشع في رحابه الروح, ويفقه العقل ويعمر الفؤادَ الإيمانُ. وما لقاؤكم الميمون هذا في الذكرى السابعة عشرة للأسبوع الوطني للقرآن المجيد, إلا فرصة مباركة للاحتفاء بدستور المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها, وتدارس علومه, والنظر في تعاليمه وأحكامه, والاقتداء بنهجه القويم, والاستلهام من سنة وسيرة سيد الخلق النبي محمد عليه الصلاة والسلام, وهي المحجة التي يستنير لها دربنا, وتسدد خطانا على طريق الهدي والرشاد. وإنه ليحدوني أمل كبير, ورغبة عارمة على أن أرى ملتقاكم العلمي مناسبة لمطارحاتكم الفكرية وبحوثكم المستفيضة, وحواراتكم الهادفة واستنتاجاتكم المؤسسة على النقل والعقل من أجل خدمة أمتكم, وتنويرها واستشراف مآلها بما يكتنزه كتاب الله وسنة نبيه من معين لا ينضب, تستمدون منه حلولا لمعضلات العصر, وقضاياه المتعددة. إذ لا غرْوَ وقد التقى في هذا المحفل المبارك أهل العلم والإمامة والدعوة والوعظ, وكذا أهل الزوايا وعمّارُ الجوامع ومعلمو القرآن ومعلماته في هذا المجمع الروحاني المؤثل الذي تربُّه روح التربية الرشيدة والتزكية السلوكية القويمة التي عمّت ربوع الجزائر وسماءها. وإن كل ذلك مدعاة لمشاعر الافتخار ببناتنا وأبنائنا وهم يتسابقون في حفظ كتاب الله, ويتبارون في حسن تلاوته, والتعمق في شرح مفرداته وفهم معانيه, بناتنا وأبنائنا الذين كثيرا ما رفعوا الراية الوطنية عالية على منصات التتويج كلما سنحت لهم فرص تمثيل الجزائر في مسابقات القرآن الدولية في عواصم العالم العربي والإسلامي. وأغتنم هذه المناسبة لأعرب عن مشاعر الوفاء لأولئك الذين زهدوا في دنياهم لخدمة دين الحق وتنوير الأمة بفضائل القرآن والسنة, ثم انتقلوا إلى رحمة الله,ولكن مازالت أرواحهم الطاهرة الزكية في رحاب هذا المؤتمر طوافة وذكراهم في قلوبنا خالدة وعهدهم فينا محفوظا موفّى, دون أن أنسى تحية كل الذين يسيرون على هديهم اليوم لإتمام رسالتهم. أيتها السيدات الفضليات, أيتها السادة الأفاضل, لقد أوشكنا أن نُسدل الستار على شهر الربيع الأنور وقد ملأه شعبنا لرسول الله وفاءً وأعمره بسيرته قراءة واقتداءً, وامتزجت فيه مشاعر حب المصطفى باتقاد العقول لاستخلاص العبر والدروس من سيرته العطرة. فكانت سيرة مجتمعنا بفضل ذلك سنية, وكان تدينه تأسيا برسول الدين وسطيا,وكانت علاقاته بالغير علاقة تقدير واحترام, يتعامل بمنطق وحجة, وبأدب جم وحسن بيان, ويلتف حول مرجعية له قويمة رجالها علماء أفذاذ, طالما درأوا عن الاسلام تحريف المغالين وانتحال المبطين وتأويل المغرضين, ومصادرها بعد الكتاب والسنة ميراث زاخر بتفاسير القرآن المبكرة وشروح السنة العطرة خُطّت بأنامل علماء الجزائر الأخيار, فاستطاع مجتمعنا بفضل مرجعيته وحكمة أبنائه أن يطفئ نار الفتنة, ويقضي على التطرف والعنف,ويقف دوما على استعداد لمواجهة الأخطار التي تزحف على أسوارنا, ومحاولات تسلل الطائفية إلى شبابنا. وبهذه المناسبة, ومن هذا المقام الكريم, أدعو السادة الأئمة الأكارم والمشايخ الأفاضل إلى مواصلة الجهد من أجل تحصين أبناء وطننا ضد الأفكار الهدامة,وحمايتهم من دعوات الغلو الطائفي, وإبطال مستندات الإرهاب ومرجعياته المشبوهة,الذي يحاول أن يوظّف نصوص الكتاب والسنة ويؤولها على غير الهدى, لتبرير همجيته والدعوة إلى بدعته وضلالته. لقد أساء الإرهاب لصورة الإسلام أيما إساءة, وفتن المسلمين قبل غيرهم عن دينهم فتنة عامة, وجعل غير المسلمين يظنون برسول الله صلى الله عليه وسلم الظنون وهو الرحمة المهداة والنعمة المسداة, ويسيؤون للقرآن وهو كتاب الهداية والتنوير. وإنه ليقع علينا نحن الجزائريين واجب الذود عن صورة ديننا السمح الحنيف لأننا عرفنا كيف نجعل من مرجعيتنا حصنا لأبنائنا ضد التطرف, ومنهجا لمؤسساتنا نحو الوسطية والاعتدال, وجعلنا من وطننا مدرسة عالمية للسلم والمصالحة, بفضل وعي شعبنا وتمسكه بالقيم العليا في الوحدة والإيثار وتماسكه الاجتماعي. أيتها السيدات الفضليات, أيها السادة الأفاضل, يجب أن نحافظ على قيمة العائلة في سلم قيمنا, وأن نحيي في مجتمعنا قيم التربية وقيم العدالة, وأن نرقي فيه معنى المواطنة الحقة, ونقنعه بجدوى التضامن والتسامح, والقبول بالرأي الآخر, وأن نلقنه مبدأ الوسطية والرفق. وأن نمكّن للعمل في ثقافتنا وسلوكنا. ولا يعزب عن كل ذي لب" أن لكل واحدة من هذه القيم في القرآن الكريم أكثر من آية تدل عليها, ولها في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من مستند في أقواله وأفعاله وإقراراته. وكل واحدة منها هي قيمة إنسانية تتقاسمها معنا أمم الدنيا وتؤمن بها, وتكنُّ مشاعر التقدير للمجتمعات التي تتمثلها وتمجد مشاعر الاحترام لديها ولا تجرؤ على اتهامه ولا الإساءة إليه. إنه من باب الوجوب التأكيد أن الإسلام يجيب على التساؤلات الكبرى التي تطرحها الإنسانية برؤية كونية في عالمي الغيب والشهادة, وأحسب أن الاسلام في ظل ما يعتور العالم اليوم من أزمات وتداخل مصالح ومنافع, وتضارب استراتيجيات في العلاقات بين الدول والشعوب, وعدم توازن جيواستراتيجي, يضمن للجميع الحقوق المادية والمعنوية,دون هيمنة أو استضعاف للآخرين. والذي يؤرق هذه العلاقات هو ما نشهده من أزمات اقتصادية خانقة طالت ارتداداتها وطننا وتأثرت بسببها مدخراتنا, ودفعتنا إلى مراجعة نمط استهلاكنا ووتيرة عملنا ونشاطنا. وقد كنت أمرت الحكومة أن تصارح الشعب بحقيقة الوضع لنندمج جميعا في سلوك استهلاكي يتناسب مع ما ننتجه من ثروة, وإلى الإقلاع عن اقتصاد مستنده الأساسي مداخيل المحروقات إلى اقتصاد متنوع يعتمد على الفلاحة والصناعة والخدمت. كما دعوت الحكومة إلى مرافقة المجتمع من أجل نبذ الإسراف ومحاربة التبذير واتخاذ الإجراءات المناسبة لترشيد الإنفاق العمومي. أيتها السيدات الفضليات, أيتها السادة الأفاضل, إني لأحييكم اليوم على حسن اختياركم لقيمة العمل موضوعا لملتقاكم العلمي المنتظم حول القرآن الكريم. إذ من البديهي لكل من عرف الإسلام ورام جوهره وخبر تعاليمه يدرك يقينا أن هذا الدين دين علم وعمل, إذ بهما معا تستقيم الفطرة وتتحقق السعادة ويقوم العدل. فالعمل قيمة إنسانية رفعت شأن الأمم والشعوب وأعلت رايتها, وهي عندنا قرآنية بامتياز, تنبع من أصل الدين وتنبثق من آي الوحي الحكيم وتستمد من هدي المصطفى الصادق الأمين. فقد ورد مدلول العمل قيمة ومعنى في كثير من آي الذكر الحكيم, أمر الله فيها عباده بالعمل, وابتغاء فضله بالسعي والكدّ. وأنتم, حفظة القرآن أعلم الناس بها, وأحصاهم لها عددا. وجاءت سنة المصطفى الكريم لتأكيد هذه المعاني وتشرحها شرحا عمليا, وهي من الكثرة الموحية بعلو شأن العمل في سلم القيم الاجتماعي والأخلاقي في نظر الإسلام, ولحث المسلمين على العمل الدائم فقال صلى الله عليه وسلم: "إن قامت الساعة وبيد أحكم فسيلة, فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها", وقال: "ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يديه, وإنّ نبي الله داود كان يأمل من عمل يده", وقال:"لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير له من أن يسأل أحدا فيعطيه أو يمنعه". وأمر العاملين بإتقان عملهم فقال: "إنّ الله يحب إذا عمل أحكم عملا أن يتقنه", وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كما وصفته زوجه عائشة أمُّ المؤمنين رضي الله عنها: "يخصف نعله, ويخيط ثوبه, ويعمل في بيته كما يعمل أحكم في بيته". أيتها السيدات الفضليات, أيها السادة الأفاضل, فلا مندوحة لنا إذًا من اعتبار العمل في أصل الدين, ومن ثم لا تستقيم العقيدة والإيمان إلا بالأخذ بتعاليم المولى المبثوثة في نصوص القرآن الصريحة وفي الآثار النبوية الصحيحة المخصوصة بأوامره ونواهيه. فالعمل قيمة حياتية وأخلاقية وتربوية. وبالمحصلة مدرسة حقيقية لتنشئة الفرد الصالح والمجتمع الفاضل المجبول على الصبر والعزة والكرامة, والشد بالنواجذ على شمائل الوئام والتعايش وروح النظام الجماعي والانضباط القيادي, ما ينشّئ المجموعة على روح المسؤولية والجدية والحرص, ويؤسس للضمير المهني الذي طالما احتاجت إليه الأمم والشعوب من أجل الرقي والسؤدد. لقد بذلنا مع شعبنا في السنوات الماضية جهودا مضنية لتدارك التأخر الذي خلفته سنوات الأزمة العجاف, فتمكن وطننا من استرجاع مكانته بين الأمم, وتحقيق انجازات اقتصادية واجتماعية مشهودة, نعمل من خلالها على تحقيق الاكتفاء الذاتي في العديد من القطاعات خارج مجال الطاقة بالتوجه إلى الاستثمارات البديلة. وبفضل الجهد الوطني, بات القطاع العام والقطاع الخاص شريكين حقيقيين في التنمية يجمعهما عنوان واحد هو القطاع الوطني الذي يشارك في تكوين وتأهيل الموارد البشرية لتتكيف مع احتياجات سوق العمل, وتوفير المزيد من مناصب الشغل لشبابنا. يحدونا أمل كبير في رفع التحديات وتجاوزمشاعر الإحباط واليأس التي يروّج لها البعض, بفضل إرادة شعبنا وشجاعته وتصميمه على قهر المصاعب. وبهذه المناسبة, أدعو شبابنا إلى التوجه لخدمة الأرض واستخراج خيراتها وجني ثمارها, وارتياد الورش والمصانع والمؤسسات للمشاركة في بناء وطنه وفي رقيه وازدهاره, وأحثهم على إعمال ذكائهم في عرض الخدمات وإجادتها بما يحقق لهم العيش الكريم والشرف الأثيل. أيتها السيدات الفضليات, أيها السادة الأفاضل, أهيب بكم أن تجعلوا من هذا الملتقى فرصة للتفكر والتأمل, والتدبر في آيات الذكر الحكيم في ظاهره وباطنه وفي السيرة العطرة, بغية استنباط ما بهما من كنوز,واستخراج ما يحتويان من توجيهات وتعاليم قويمة تحضّ على بناء الفرد الصالح والمجتمع المتضامن, وتحصنهما من دعوات الفرقة المذهبية والطائفية والانحلال الخلقي, والقنوط والانهزام النفسي, والتطرف والجريمة, بما يؤهل الناشئة لأن تندمج في مشروع حياة مستقبلية يتصالح فيها الإيمان والعلم والعمل, وفاء لشهدائنا البررة وعلمائنا الأجلاء. أشكركم بالغ الشكر على إتاحتكم لي فرصة للإدلاء برأي في هذا المحفل المبارك,متمنيا لكم من الله العلي القدير التوفيق والسؤدد. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته".