مع رحيل مدير أسبوعية الجزائر الأحداث التي كانت تصدر منذ السبعينيات إلى غاية بداية التسعينيات، كمال بلقاسم، هل يمكن أن نتساءل عن زمن سياسي وإعلامي بدأ في الأفول والتواري، وعن جيل راح يترك مكانه لجيل آخر على ساحة الإعلام والسياسة؟! فمنذ أقل من عشر سنوات اختفت وجوه كبيرة صنعت الغد السياسي لأكثر من ثلاثة عقود·· لقد رحل المناضل ورئيس الغرفة الثانية للبرلمان، بشير بومعزة، ورحلت كذلك رموز تاريخية وسياسية كانت لها بصماتها على مسار السياسة الجزائرية، مثل جمال بلقاسم وبوبنيدر المدعو صوت العرب، والجنرال إسماعيل العماري، مهندس الهدنة مع الجيش الإسلامي للإنقاذ، والجنرال العربي بلخير، رجل النفوذ في عهد الشاذلي بن جديد والفترة التي كان فيها الرجل الثالث الذي حكم الجزائر، ورابح بيطاط أول رئيس للمجلس الوطني في عهد الرئيس الراحل هواري بومدين، والجنرال فضيل الشريف الذي كان من الوجوه المؤثرة في محاربة جماعات الإسلام المسلح، والشيخ محفوظ نحناح، أحد مؤسسي حركة الإخوان المعارضة في الجزائر، وذلك منذ منتصف السبعينيات، ومحمد شريف مساعدية، الرجل العتيد الذي قاد حزب جبهة التحرير طيلة العهدة الأولى والثانية للشاذلي بن جديد·· وعندما نتحدث اليوم عن كمال بلقاسم، فأول ما يتبادر إلى الذهن هو وزن الرجل الإعلامي والسياسي، باعتباره كان الرجل المقرب من الدوائر النافذة في نهاية السبعينيات وفترة الثمانينيات، فلقد كان بلقاسم رئيس تحرير بجريدة المجاهد، وهي لسان حال السلطة في السبعينيات، ثم أصبح في عهد الشاذلي بن جديد مدير عام ومسؤول النشر لأسبوعية الجزائر الأحداث التي كانت مقربة من الدوائر الإصلاحية والليبرالية في رئاسة الجمهورية، وفي نفس الوقت كانت الجريدة المرآة العاكسة لذلك الصراع الشرس داخل جهاز الحكم بين جناحين، الجناح المحافظ والمدافع عن الخط الإيديولوجي الاشتراكي الشعبوي، وكان يمثل هذا الخط محمد شريف مساعدية، وهو المناضل المعرب وخريج جامعة الزيتونة والمتشبث بالبعد العروبي للجزائر والحفاظ على الإرث البومديني، والجناح الإصلاحي والليبرالي، الذي كان يمثله الوزير الأول آنذاك عبد الحميد الإبراهيمي، وكان عرابو هذا الخط يسعون إلى المزيد من الانفتاح على الغرب، وكان يعني الغرب لهؤلاء الدوران في فلك فرنسا ميتران بشكل رئيسي، والاقتراب من الولاياتالمتحدة الأمريكية·· وكانت الجزائر الأحداث هي الذراع الإعلامية والإيديولوجية لهذا الجناح·· لذا كان كمال بلقاسم مشبوها لدى أنصار التيار البومديني والمحافظ، وكانت مقالاته الداعية إلى التخلص من الماضي ''الثوري'' للجزائر مصدر شبهة·· وعندما هزت أحداث أكتوبر 1988 الجزائر، كانت الجزائر الأحداث المنبر المفضل لليبراليين الجدد، لكن سرعان ما وجد كمال بلقاسم نفسه أمام حركة متسارعة داخل النظام وخارجه، بحيث لم تعد الجريدة التي كان على رأسها تحظى بما كانت تحظى به في فترة الثمانينيات·· فلقد برزت عناوين وأصوات جديدة، وأصبحت الساحة الإعلامية والسياسية تعج بالصحف والأحزاب السياسية، ولم يعد الشاذلي يحظى بتلك الصورة ولا بتلك القوة التي كان يتمتع بها··· وفي بداية التسعينيات قام كمال بلقاسم بإنشاء يومية جديدة هي يومية الجزائر باللغة الفرنسية، ولقد حاول في وسط ذلك الضجيج بين الإسلاميين والعسكر أن يبحث عن مكان وسط، لكن في تلك الفترة، كان المكان الوسط غير ممكن الوجود·· وشاء القدر أن يكون كمال بلقاسم في الزمن والمكان الخطأ عندما انفجرت سيارة مفخخة أمام المبنى المركزي للأمن في شارع العقيد عميروش·· ومن يومها ظل كمال بلقاسم متأثرا بإصابته وشبه بعيد عن ما حدث في الجزائر طيلة عشرية مجنونة وصاخبة··· وها هو الآن يغادرنا لكن ليس لوحده·· وإنما مع هذه الكوكبة من الوجوه التي صنعت فصلا من كتاب إسمه أزمة الجزائر..·