لم يكن ضحايا التفجيرات النووية الفرنسية في الصحراء الجزائرية من عمال ذلك الوقت وبالبدو الرحل فقط، بل استمرت المعاناة مع أجيال أخرى من الناس، بعضهم مات في صمت وبعضهم يقدم الآن شهادته على ما حدث· في الذكرى الخمسين لاحتفال الدولة الفرنسية بدخولها النادي النووي سنة 1960، كان هناك على الضفة الأخرى من البحر المتوسط من يستعيد تلك الذكريات بمرارة· ومع العجز عن التعبير بالكلمات، تتكلم الأجساد التي شوهت بكثير من الحسرة وبمرارة أكثر يحاول ضحايا تلك التفجيرات استعادة الحكاية من بدايتها· من سطاولي إلى رفان·· رحلة إلى الجحيم ذهابا وإيابا اسمه شنافي محمد، وهو من سطاوالي بضواحي الجزائر العاصمة، كان شابا يافعا والجزائر تقترب من نيل استقلالها، وكان الأمل يحذوه قبل أن تتغير حياته بشكل مفاجئ مع القنبلة النووية التي سمع دويها الذي شبهه بالزلزال، ويواصل ذلك الشاب الذي تحول الآن إلى شيخ أنهكته الأمراض المزمنة، وقد غزا الشيب لحيته الكثة ويقول: ''كان ذلك سنة 1960، عندما كنت في سطاوالي بضواحي الجزائر العاصمة، عندما قبض علينا العسكر، جمعونا في السوق وكان عددنا كبيرا، وبعدها بدأ استنطاقنا واختاروا منا ستة أفراد، وتم نقلنا إلى منطقة موريتي، حيث بقينا هناك حوالي أربعة أيام، وبعد أن انتزعوا منا جميع الوثائق أخذونا إلى المطار، حيث تم اقتيادنا مباشرة إلى منطقة رفان، وعندما وصلنا إلى هناك فرّقونا عن بعضنا البعض، وأجبرت على العمل هناك في ظروف شاقة وأنا من هذه الحفرة إلى تلك ولم أكن أعلم شيئا عن مصيري، وبقيت كذلك مدة ثلاثة أشهر كاملة في تلك القاعدة· وأذكر جيدا لحظة انفجار القنبلة النووية، لقد كانت لحظة شبيهة إلى حد بعيد بالزلزال، وبقي الأمر حوالي ربع ساعة قبل أن يعود الهدوء إلى المكان، كان كل ذلك يحدث ونحن محتجزون، وبعد إخراجنا من تلك المخابئ وأعيد نقلنا من جديد إلى الجزائر العاصمة، حرصوا على ألا نتكلم بشيء عما رأيناه وما سمعناه، وقال بعضهم: ''لو سمعنا بشيء من هذا، فسوف نقتلكم دون تردد''، كنت سعيدا جدا بالعودة من جهنم إلى أهلي سالما، أو هكذا كان يبدو· وكنت أعتقد بأن الأمر يتعلق بذكرى سيئة قد أحكيها ذات يوم، ولم أكن أعلم أن ما حدث في تلك المدة المحدودة سأدفع ثمنه غاليا من صحتي والمعاناة مازلت تلازمني، وأنا أعاني الكثير من الأمراض المزمنة التي لا أمل في الشفاء منها''· وعندما يتوقف الشيخ شنافي عن الكلام الذي كان أقل كثيرا من معاناته، يحاول بناني تولي دفة الحديث، ورغم أنه غير متقدم في السن، فإن المرض الناتج عن الإشعاعات النووية أنهكه بالكامل إلى درجة إصابته بالشلل ولا يستطيع حتى التحرك من كرسيه، وبدأت معاناته سنة 1971 عندما أوكلت له مهمة عسكرية تمثلت في التنقل إلى مكان التفجيرات النووية التي قامت بها فرنسا قبل انسحابها من الصحراء الجزائرية بموجب اتفاقيات إيفيان، لقد ذهب إلى هناك ولم يكن يفكر إطلاقا في تأثيرات الإشاعات النووية، لكن جسده انهار بشكل مفاجئ وتحول من النقيض إلى نقيضه، وهو الآن مقعد يعاني الأوجاع القاتلة المزمنة ولا أمل له في الشفاء· بوجلال عمار بلقاسم: أنا ميت منذ سنة 1987 ولئن كانت معاناة شنافي وبناني مبررة بحكم علاقتهما شبه المباشرة بما حدث من تفجيرات، فإن قصة بوجلال عمار بلقاسم الذي لا يتجاوز الآن سن ال 44 مع تأثيرات الإشعاعات التي دمرت حياته بالكامل تدعو إلى التأمل· إنها المأساة التي تتكلم· وبوجلال الذي يستعيد صورته وهو شاب لا يكاد صدّق عقله، وهو الذي نشأ وترعرع في برج بوعريريج وزار عين أكر لأول مرة سنة 1987 يتكلم بلقاسم ويقول: أنا واحد من ضحايا الإشعاعات النووية التي تسببت فيها فرنسا، في الصحراء الجزائرية وبالضبط منطقة عين أكر، بلدية عين مقل ولاية تامنغست، ورغم أني من مواليد الاستقلال إلا أني ضحية تلك التفجيرات التي حدثت منذ سنين بعيدة، وكانت حياتي عادية جدا عندما ذهبت لأداء الخدمة الوطنية في تلك المنطقة في الفترة الممتدة بين سنتي 1987 و.1989 كنت شابا وسيما ينبض بالحيوية وكان وزني لا يتعدى في أحسن الأحوال الستين كيلوغرام، بل كان أقل من ذلك، وجميع أفراد عائلتي من ضعاف البنية·· كنت بصدد اكتشاف المنطقة في ذلك الإطار وأنا أعمل في مشروع ''طريق الوحدة الإفريقية''، كان شكل عاديا في تلك المنطقة وأنا أحسب الأشهر المنقضية والأخرى المتبقية من الخدمة الوطنية، لكن بعد حوالي أربعة أشهر من نزولي في عين أكر، لاحظت أعراضا غريبة بدأت تظهر على جسدي، منها صداع في الرأس استمر معي إلى يومنا هذا بدون توقف، فأنا أعاني من صداع مزمن منذ سنة 1987، ويا ليت الأمر وقف عند هذا الحد، فقد ظهرت على جسدي الكثير من التشوهات، مما اضطرني إلى إجراء عملية جراحية خطيرة أزالت قليلا تلك التشوهات، التي كانت تتمثل مثلا في تضخم في حجم الرأس، وبعض الناس كانوا ينعتوني بألقاب تسبب لي جراحا نفسية عميقة، إضافة إلى الجراح الجسدية التي لا تحصى، بعضهم يناديني ''بوراس'' وبعضهم ينعتني ب ''إيلك'' (نسبة إلى إيلك العجيب في السلسلة التلفزيونية الشهيرة) ومجتمعنا لا يرحم في هذا المجال، فنمو جسدي لم يكن عاديا، بل كان يتعلق بنمو العظام الذي استمر معي في سن غير طبيعية رغم أنه يتوقف علميا بعد سن العشرين قليلا· ويوما بعد يوم بدأت تظهر أعراض خطيرة أخرى وأنا أسقط في تلك الدائرة اللعينة، وعندما أستعيد بعض الصور الفوتوغرافية وأنا شاب قبل أداء الخدمة الوطنية لا أكاد أصدق عيني وأتمنى الموت في كل لحظة حتى أرتاح من هذا الجحيم، بل أني فكرت أحيانا حتى في الانتحار· لقد زاد وزني وتضخم جسدي إلى أن أصبحت أزن أكثر من 120 كيلوغرام، ومما زاد في معاناتي أني كنت حينها في منطقة معزولة لا تحتوي إلا على الطرقات وبعيدا عن الأطباء المختصين الذين من شأنهم تشخيص حالتي، بقيت أعاني في صمت، واستمر الوضع كذلك إلى أن انتهيت من مدة الخدمة الوطنية وعدت إلى أهلي في مدينة برج بوعريريج، في تلك الحالة تدهورت حالتي أكثر وأصبت بالشلل التام، وإلى غاية تلك المدة لم أكن أعرف سر تلك المعاناة المتواصلة، وزرت أكثر من عشرين طبيبا وكل واحد منهم لا يجد تفسيرا للحالة ويصف لي دواء بدون أية فائدة، إلى أن استشرت طبيبة متخصصة في الغدد التي أعطتني رسالة مستعجلة إلى مركز بيار وماري كوري، بمستشفى مصطفى باشا الجامعي، ولم أكن أعلم أن تلك المصلحة التي وجهت إليها متخصصة في السرطان، وكانت صدمتي كبيرة جدا عندما وجدت ذلك مكتوبا عند واجهة المركز، وأتمنى بالمناسبة من كل قلبي أن تنتزع تلك اللافتة التي ما أن يقرأها الزائر لأول مرة حتى ينهار عصبيا، لقد بدأ الانهيار عند مدخل المركز· وقضيت بقية شبابي متنقلا بين المستشفيات، واكتشفت فيما بعد أن الأمراض التي أعاني منها تصنف رقم واحد في لاحقة الأمراض التي صنفتها جمعية فرنسية لضحايا الإشعاعات النووية، وأنا هنا أتكلم انطلاقا من ملفات· وبعد سلسلة طويلة من الفحوصات والتحاليل بأجهزة السكانير، تبين أنني مصاب بمرض ''سرطان الغدد''، كل الغدد بدون استثناء من الغدة النخامية إلى الدرقية والكظرية وصولا إلى الغدة التناسلية، بعبارة أخرى فأنا في نظر بعض الناس ''لست رجلا''، وقد فقدت تلك الغدة ولا أستطيع ممارسة الجنس، وعندما وصلت إلى هذه المرحلة فكرت كثيرا في الانتحار حتى أرتاح من تلك الكوابيس التي لا تنتهي· فلا أحد يتصور رجلا بدون قدرة جنسية، فساعتها يتحول إلى مهزلة في البيت، ويزداد الأمر سوءا عندما يكون متزوجا ويفقد تلك القدرة شيئا فشيئا إلى أن تنتهي تماما مع سرطان الغدد اللعين· بعد ذلك أجريت عملية جراحية على الغدة النخامية في الرأس، وهي أكبر عملية أجريت لي في الجزائر، وقبلها كانت العملية من هذا النوع تجرى في فرنسا وأمريكا، وأصريت على إجرائها في الجزائر، وقلت بأني جزائري وسأموت في الجزائر، كان ذلك في شهر أكتوبر 1993 وفي أوت 1997 أجريت لي عملية باستعمال أشعة الليزر، ومنذ ذلك الوقت وأنا بين الأطباء والتحاليل، وكل ذلك على حسابي الخاص وأنا موظف بسيط في مصلحة الضرائب، ولم يعد بمقدوري الاستمرار على هذا النحو· وبداية من سنة 2000 أصبحت أداوي عن طريق الإبر، وكل عشرة أيام أنا مضطر للتنقل من برج بوعريريج إلى العاصمة لمتابعة العلاج، وأنا مستمر على هذا الحال إلى يومنا هذا مع المرض المزمن الذي سيلازمني بقية حياتي· أنا الآن أتناول خمسة أنواع من الأدوية، وهي أدوية خطيرة جدا وسامة· وبالإضافة إلى سرطان الغدد، فأنا أعاني من الكوليسترول ومرض القلب وحتى البصر، فأنا لا أرى بشكل جيد· وحسب الأخصائيين، فإن عيني اليسرى كانت مهددة بالعمى التام لو لم أسارع إلى العلاج في الوقت اللازم· وبقيت مدة طويلة أجهل أن الأمر متعلق بتأثيرات الإشعاعات النووية، فكل الناس تقريبا كانوا يتحدثون عن تفجيرات رفان، ويكاد لا يعلم أحد أن هناك تفجيرات خطيرة أخرى جرت في عين أكر حيث قضيت الخدمة الوطنية، ولا أحد تقريبا كان يسمع أصلا باسم عين أكر تلك المنطقة النائية التابعة لبلدية عين امقل بولاية تمنراست، إلى أن اتضح الأمر ونصحتني بعض الجمعيات بالاتصال بالصحافة لشرح قضيتي التي تحملتها لوحدي سنين طويلة بعيدا عن أعين الإعلام· ورغم أن قضيتي خرجت للناس عن طريق الإعلام، إلا أنني لم أنل حقي بعد· أنا منهار وأشد ما عانيته مع زوجتي المسكينة بعد أن أتى المرض على غدتي التناسلية، وحتى زوجتي التي لا ذنب لها أصيبت ببعض الأمراض المزمنة من شدة ما عانته معي، أنا أطلب من السلطات الفرنسية تعويضا عما حدث لي، كما أطالب من السلطات الجزائرية مساعدتي، لم أعد أتحمّل هذا العبء الثقيل وقد قضيت حياتي متنقلا بين المستشفيات· أجساد في دائرة الانهيار ضحايا التفجيرات والإشعاعات النووية الفرنسية في رفان وعين أكر، لم يفرحوا بالقانون الذي يعوض ضحايا التفجيرات الذي صدر هذه السنة، لأنه لا يشملهم ولا يعترف بهم، رغم أن أجسادهم تؤكد هول الكارثة· وفي انتظار أن يسمع صوتهم لا يمل هؤلاء من الحديث للصحافة في ذكرى تلك التفجيرات التي أدخلت فرنسا النادي النووي وأدخلت أجسادهم دائرة الانهيار والأمراض المزمنة·