البارحة دخلت إلى المنزل متأخرا بعد جلسة عشاء مع صديق قديم، كان من ألمع الصحفيين بالجزائر في الفترة التي أعقبت نهاية الحزب الوحيد، على شاشة التلفزيون·· كان من الوجوه الجديدة الواعدة التي أثبتت بفضل مواهبها، أن في الجزائر قدرات بإمكانها خلق مشهد إعلامي جديد نوعي على صعيد الاحتراف··· وهذا الصديق تعرفت عليه يوم كنت طالبا قياديا في الحركة الطلابية·· وعرضت عليه أن ينضم إلى الفرقة التي كنت أسستها في الجامعة بحي ابن عكنون باسم فرقة كمال أمزال للمسرح الحر··· في تلك الفترة كان هذا الصديق خجولا، ولا علم له بالمسرح، لكنه كان يحمل في عينيه رغبة وتحديا في أن يؤسس أشياء جميلة··· تردد في أول وهلة لكنه سرعان ما وافق على خوض تجربة التمثيل··· وكان حوله إجماع باعتباره ممثلا جيدا··· ثم سرعان ما وجد هذا الصديق نفسه مولعا بالتمثيل وبالكتابة··· وفي تلك الفترة قدم لي مجموعة من أقاصيصه الأولى·· وقال لي والحياء باد على ملامح وجهه·· إقرأ هذه المجموعة، ربما تجد فيها شيئا مني··· وقرأت المجموعة في ليلة واحدة··· بهرتني وقتها لغتها الشفافة وأسلوبها المثير··· وقلت لنفسي·· ''هذا الشاب عبارة عن موهبة أصيلة···''·· وفي الغد عندما التقيت بالصديق في نادي الطلبة بحي ابن عكنون الجامعي هنأته على مجموعته القصصية، وقلت له ''إنك تملك موهبة قاص حقيقي···''·· وما أن قلت له مثل تلك الكلمات حتى احمرت وجنتاه، واعتبر كلامي الموجه إليه عبارة عن مدح وتشجيع مبالغ فيه··· وفي نهاية الثمانينيات غادر الصديق الصحيفة التي كنت على رأس قسمها الثقافي والتحق بالتلفزيون الجزائري··· وقد تأسفت لذلك، وقلت له حينها ''إنك تركت موهبتك في الكتابة واتجهت حيث الأضواء···'' لكن أظهر لي أنه يملك موهبة أخرى كانت كامنة فيه·· وهي موهبة المنشط والمحقق في مجال السمعي البصري·· وبالفعل، أصبح صديقي في وقت قصير من ألمع الصحفيين الذين انبهر بهم الجمهور الجزائري··· الكل كان ينتظر من هذا الصديق أن يخطو خطوات كبيرة في مجال تحقيقاته التلفزيونية··· لكن ما حدث للجزائر من اهتزازات وعنف دفع بهذا الصديق إلى مغادرة الجزائر وخوض تجربة أخرى مغايرة في تلفزيونات العالم·· فاشتغل بالأمبيسي، ثم انتقل إلى أرتي·· وأصبح في وقت قصير مديرا للإنتاج··· ثم كان شاهدا على أكبر التحولات في أوروبا ونقلها على الشاشات كأحد كبار المحققين·· وعندما التقيته بعد سنوات في باريس قال لي أنه سيتوجه إلى قناة أبو ظبي··· لكن سرعان ما ترك قناة أبو ظبي وعاد من جديد إلى باريس ليخوض فيها مغامرة في الصحافة وكتابة السيناريو·· وفي نهاية التسعينيات التقيت مجددا بهذا الصديق، وحدثني حينها عن مشاريعه في السمعي البصري··· لكن مشروعه الذي حدثني عنه بحماسة سرعان ما وصل إلى طريق مسدود·· فشعر هذا الصديق بالحزن والخيبة وترك الجزائر من جديد، ليعود إلى باريس··· وفي لحظة غضب ويأس اختار هذا الصديق طريقا آخر·· لقد غامر في عالم التجارة واختار أن تكون له مطاعم··· وبالفعل نجح في مغامرته الجديدة·· لكن ما إن مرت على نجاحه سنوات حتى شعر بالحنين إلى عالم الإبداع والصحافة··· فترك كل شيء واتجه نحو كتابة السيناريوهات والروايات··· وليلة أمس، قرأ على مسمعي سيناريو كتبه عن تاريخ الثورة الجزائرية وعن الفترة التي أعقبتها··· وكان السيناريو رهيبا وجميلا ومثيرا··· هنأته على ذلك·· وقلت له·· مبروك·· أيها الصديق··· 2 التقيت هذا الصباح زميل صحفي يشتغل على ملف الفساد في الجزائر·· استضافني في مطعم خيمتنا·· تحدثناعن تاريخ الحركة الإسلامية في الجزائر، وتطور النخبة السياسة والمأزق الذي هي فيه اليوم··· 3 وصلتني رسالة من زميلتي وصديقتي لينا·· واطلعت على الدراسة التي كانت حول روايتي ''هوس'' من طرف ناقدة سورية··· وانتهت خلاصة دراستها النقدية بالعبارات التالية·· تثير طرائقية عياشي في ''هوس'' تساؤلات عن مدى شرعية أو مشروعية كون الرواية وعاء ينضح بأوجاع (الأنا) الفردية في الغالب الأعم··· فعبر أسلوبيته تلك تنزاح منظومة السرد الروائي غالبا باتجاه تكثيف وحدانيات·· هل نحن أمام تطور الرواية العربية نحو قوالب شكلية تذكر وتناظر تطورات القصيدة الشعرية؟! هل نحن أمام انزياحات روائية تبشر بولادة جنس أدبي جديد؟! ربما···''·