أن تقرأ رواية جزائرية باللغة العربية، فذاك حدث في حد ذاته، على اعتبار أن قلة الإنتاج الأدبي بات السمة الغالبة للساحة الأدبية ·· أما أن تستمتع بالرواية، فذاك الإستثناء، وهو الإستثناء الذي نجحت زهرة ديك في صنعه من خلال روايتها ''قليل من العيب يكفي''، الصادرة عن منشورات بغدادي· في البداية، لا بد من التأكيد على أن إسم زهرة ديك ليس من الأسماء الكثيرة الورود والشيوع في عالم الرواية الجزائرية على صغره، وهو ما جعل اكتشاف إنتاجها مفاجأة سارة لكل من يقرأ الرواية الواقعة في أكثر من 300 صفحة ·· فقد جحت الكاتبة في نسج خيوط رواية بالمفهوم المتعارف عليه للرواية المعاصرة، فقد خلقت شخصيات يسهل على القارئ أن يتماهى معها، شخصيات لها ماض وحاضر، وآمال وطموحات، إلى جانب خيبات وانتكاسات ·· قصة الرواية تنطلق من الشخصية المحورية التي تتفاعل حولها باقي الشخصيات، ومكان محوري تدور في إطاره الأحداث، أما عن الشخصية، فهي شخصية الصحفي ''بهتة'' إسم يعمد للرمزية التي جاءت عليها ملامح الشخصية، إذ أن كل شيء فيها باهت يكاد يكون بلا طعم ولا لون· أما عن المكان المحوري التي تنطلق منه وفيه الأحداث، فهو الجريدة التي يعمل فيها ''بهتة'' رفقة عدد من الزملاء الذين يلخصون، في مجملهم، الواقع الجزائري الراهن، بدء من زميلته ''سكينة''، بدور وزميله ''دابو'' المغلوب على أمره· غير أن الفاعل الرئيسي والبطل الحقيقي في رواية زهرة ديك لا يكمن، لا في الشخصيات ولا في الجريدة، وانما في الوطن، تلك الجزائر التي شرحتها وعرتها الروائية بأسلوب جميل في بساطته، وفي جرأة تسمية الأشياء بمسمياتها دون تملق ·· والحق أن الرواية لم تترك لا كبيرة ولا صغيرة في جزائرنا إلا وتطرقت لها، بدء من عشرية الدمار التي فعلت فعلتها في عقلية الجزائري، مرورا بمشكلات الحياة اليومية والعلاقات الإنسانية فيما بين الجزائريين، بل أكثر من ذلك إمتدت الرواية حتى إلى المسلسلات التركية التي بات الجزائري على غرار باقي الشعوب العربية يستمد شيئا من الحلم والرومانسية منها بعدما تعذر عليه تحقيق ذلك في الحياة الفعلية ·· كيف لا! وقد أجبرت، سكينة نفسها وهي الصحافية المثقفة، على الإقتناع بالزواج بعامل تنظيف تفاديا لخطر العنوسة وبحثا عن شيء من الأمن قد تجده بين يدي رجل أيا كانت خلفيته، المهم أن يكون رجلا· الجميل في الرواية أنها لا تنساق للأفكار المسبقة، حيث أن الروائية لم تختر الطريق السهل في كتابة رواية مدافعة عن حقوق المرأة، ولا داعية لحرية هذه الأخيرة، حيث أنها تقولها صراحة ''الرجل في مجتمعنا ضحية التخلف، حاله في ذلك حال المرأة''· تصريح يذكرنا بمواقف القاصة اللبنانية غادة السمان، التي سبق لها أن أكدت من خلال قصصها القصيرة أن التخلف لا يستثني ولا يختار، وحين يضرب أمة ما، فلا فرق عنده بين رجل وامرأة· في هذا السياق، تذهب زهرة ديك إلى أبعد من ذلك من خلال خلق شخصية قد تكون رائدة في الرواية العربية، شخصية ''دابو''، الرجل المستضعف والمقهور من طرف زوجته الطاغية ·· وبالرغم من أن شخصية ''دابو'' الصحفي المغرم سرا بزميلته ''سكينة''، بعيدة عن الميول المثلية الشاذة التي تجعل عادة من الرجل ميالا لطبيعة النساء، فهو رجل يعشق النساء إلا أنه مغلوب على أمره أمام زوجة مسترجلة، طاغية ·· شخصية هذه الزوجة التي بالرغم من عدم تفصيل حضورها في الرواية إلا أنها حاضرة بقوة من خلال استكانة ''دابو''· ولأن الروايات الجزائرية المكتوبة بالعربية، سيما من طرف الروائيات، لا تخلو من تفاصيل الكبت الجنسي، فإن رواية زهرة ديك هي الآخرى حضيت بنصيب من هذا الهاجس العربي، من خلال قصة ''بدور'' وزوجها عبد القادر· غير أن حديث الجنس في الرواية جاء ضمن سياق محدد بعيد عن مجرد الخوض في الجنس من باب الحديث في الممنوع وكسر الطابوهات، كان سردا سلسا لعلاقة زوجية موحيا بأكثر مما تقول صراحة، فكانت بعيدة عن البذاءة ·· وهو الخط الذي سارت عليه الرواية التي جاءت منسابة في فصولها الأربعين، بالرغم من السوداوية المفرطة أو علها الواقعية التي يصعب تصديقها حين يحولها الحبر لكلمات تقرأ· مع أن أسلوب كتابة الرواية من النوع الذي اعتاد النقاد على تسميته السهل الممتنع، فقد كاد في بعض الفصول يقترب من السلوب الصحفي دون أن يفقد جماليته الروائية، ومع ذلك لا يمكن إغافل تلك المفردات ذات النبرة المشرقية وكأن الروائية تسعى لتوسيع آفاقها التسويقية لأبعد من الجزائر· يبقى أن من يقرأ الرواية يقضي وقتا ممتعا، بل إنه يجد في كثير من مقاطع فصولها ما يمكن للقارئ أن يجد جانبا من يومياته، الأمر الذي يبعث على الإبتسام ·· ''قليل من العيب يكفي''، لزهرة ديك، وأية جميلة ننصح بقراءتها وإن بدت متشائمة· كلمة للناشر واحدة من المتع المتعلقة بالقراءة ترتبط بنوعية النسخ والطبعات، فقد بات من تقاليد دور النشر الكبيرة الإعتناء أيما اهتمام بجودة الطبع والإخراج الخارجي، ناهيك عن نوعية الورق والتصفيف الداخلي، وهو أمر يدل على تقدير دور النشر لقيمة الكتب والكتاب والقراء، على حد السواء ·· غير أن الطبعة التي قدمتها ''منشورات بغدادي'' لم ترق لهذه الجودة والمعايير المعمول بها، ليس في العالم فحسب بل حتى في الجزائر، فقد نجحت بعض دور النشر، خاصة تلك التي تصدر كتبا باللغة الفرنسية في طبعات عالية الجودة، لكن إخراج رواية ''قليل من العيب يكفي'' جاء أقل من العادي بالرغم من جمال القصة، إذ كان من الممكن إفراد مساحة أكبر لتلك العبارات التي تفتتح بها الروائية فصول روايتها، وكأن حال الناشر يعمد لاقتصاد الورق على حساب جماليات الطبع، أما السيئة الكبرى التي تحسب ضد الناشر فتكمن في الأخطاء المطبعية واللغوية التي تكررت في أكثر من فصل، نقول هذا مع إدراكنا أن منشورات بغدادي من أنشط دور النشر في الجزائر، ولا بد لها من الحفاظ على معايير الجودة والنوعية التي تتماشى مع سمعة دار النشر وسمعة كتابنا·