وكأن إسرائيل لم تقرأ التاريخ، كي تتعظ به وتعتبر باستخلاصات نتائجه، وكأنها أُسست لتثبت أنها الوريث الشرعي لكل فظاعات العابرين في الرواية الإنسانية البريئة، لتشكل بذلك الامتداد الطبيعي للشذوذ الوجودي، القائم على إلغاء الغير، بالإزاحة والإحلال، كونها دولة قائمة على عناد أزلي، مع التاريخ والجغرافيا، وطبيعة تطور الأشياء· فبينما كانت إمبراطوريات الأرض وقواها الاستعمارية، تعلن انتهاء حقبها القاسية باحتلالاتها لدول أخرى، واستعباد الشعوب الحرة، كانت إسرائيل تتنفس على ذات الشهيق المشؤوم المنتهي بالفشل حتما، لتبدأ احتلالها لفلسطين إثراءً لسجل معاناة شعب، كان قدره أن يكون متمسكا بأرضه وعرضه ووطنه، الذي لا سبيل عنه إلا إليه· وبينما كانت جدران الفصل تنهار، كما انهار جدار برلين، دون أسف عليه، فيما أنظمة العزل والإلغاء العنصري تتهاوى وتسقط، كما سقط نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، كانت إسرائيل تفتش عن ذاتها، لتكرر نفسها كدولة جدران وعنصرية، دون أن تتعظ بعبر التاريخ· يحل تموز ''جويلية'' علينا، هذا العام في ذكرى قرار محكمة العدل الدولية الاستشاري بلاهاي، حول جدار الفصل العنصري، الذي تقيمه إسرائيل، حقدا واغتصابا، على أراضي الضفة الغربيةالمحتلة، سعيا لقتل فكرة الدولة الفلسطينية ككل، إذا ما حان وقتها، وحقت ساعة الانتصار، وأملا منها في سرقة ما يمكن سرقته في وضح النهار من الأراضي العربية، المملوكة لأبناء شعبنا في شمال الضفة الغربية، وتكريسا منها أي إسرائيل لنهجها الاستيطاني الإحلالي القائم على نفي الغير، وإحقاق ما ليس لها حق فيه· يمثل الجدار في فكرته كارثة فلسطينية، تتماهى مع كارثة بقاء الاحتلال واستفحال الاستيطان، كونه يختصر الاحتلال والاستيطان في مشهد وهدف واحد· فيما تجسد إقامة الجدار بحد ذاته، رفضا لإقامة أي دولة فلسطينية قادرة على الحياة، بقدر ما يقتل فينا ذلك طموح التحرر والاستقلال على المتبقي من الوطن· بينما يعني استكمال بناء جدار الفصل، عزل مدينة القدس الشريف، ومدن أخرى عن محيطها من البيئة الجغرافية والديموغرافية الفلسطينية، مما يسهل تهويدها مرة وإلى الأبد، وهذا شرط من شروط استعار الصراع العربي الإسرائيلي ككل، وسقوط كل آمال التسوية والسلام، مرة وإلى الأبد أيضا· فيما يخلق الجدار حالة مأساوية فلسطينية أخرى، فيها ما فيها من اللجوء والمعاناة والشتات، وإن كان شتاتا داخل الوطن، وصالا مع المصيبة التاريخية، عند ضياع فلسطين، قبل ما يزيد عن ستين عاما· خمس سنوات تمر على تاريخ ال 09 تموز ''جويلية'' 2004م، حينما التأمت محكمة العدل الدولية في لاهاي، لتعطي رأيا استشاريا يقضي بعدم شرعية الجدار الفاصل، وهو ذات القرار الذي تم تبنيه في وقت لاحق للتصويت عليه في الأممالمتحدة، مساء يوم الثلاثاء 20 تموز ''جويلية'' 2004م، فكان أن أجمع 150 بلدا عضوا في الجمعية العامة للأمم المتحدة، من ضمنهم جميع دول الاتحاد الأوروبي الخمسة والعشرين حينها، على التصويت لصالح القرار، الذي يطالب إسرائيل بوقف البناء في جدار الفصل العنصري، وإنهاء أثاره كليا· بينما عارضت القرار 6 دول تتقدمها الولاياتالمتحدة وأستراليا وإسرائيل، وامتنعت عن التصويت 10 دول، فضلت أن تكون دولا تؤدي دور شاهد الزور بصمته عن الانحياز للحق لصالح الباطل· وبرغم أن قرار الجمعية العامة، مثل قرار محكمة العدل الدولية، غير ملزم لإسرائيل، إلا أنهما ذا أهمية في القيمة الرمزية والمعنوية، كونهما يساعدان الفلسطينيين والأطراف الدولية والمؤسساتية المعارضة لبناء الجدار العنصري، على ممارسة المزيد من الضغط السياسي على إسرائيل لتفكيك الجدار، وإنهائه تماما، كونه يقوم بالدرجة الأساس، على التهام ما يزيد عن 85 % بالمساحة المقام عليها، من أراضي الضفة الغربيةالفلسطينية، ما يعني أنه أُسس بهدف سرقة المزيد من الأراضي الفلسطينية، وتعزيز الاستيطان، وخلق مساحات جديدة، تضاف إلى الأراضي المنهوبة تاريخيا، عام 1948م، وتقوم عليها إسرائيل اليوم· الجدار مبني من الإسمنت بارتفاع يتراوح بين 4.5 و9 متر، وبطول يفوق ال700 كم، في المناطق المأهولة بالسكان الفلسطينيين، وسياج الكتروني في المناطق غير المأهولة، ويدخل في الضفة الغربية بعمق يصل إلى 22 كم في منطقة إصبع آرئيل· كما أن مسار الجدار في المنطقة الشمالية للضفة يعزل أكثر من 5 آلاف فلسطيني في مناطق ''مغلقة'' بين الخط الأخضر والجدار· فيما تتناسل حكاية الجدار المزيد من حكايات الوجع، التي لا يمكن للفلسطيني أن يألفها، كي يرضى عن حياته أن تستمر في ظل جدار عنصري، لن يشفع له طوله أو عرضه أو ارتفاعه لاحقا، بأن يبقى قائما على حالة وهن فلسطيني اعتدنا أنها لا تدوم، طال الانقسام أم قصُر·