أتصور، ولست وحدي، في هذا التصور، أن كثيرا ما يجري من صخب وضجيج في المشهد الحاضر يدفع إلى القول بأن أخطر ما يهدد الحياة السياسية في بلادنا هو عدم الفهم وعدم الالتزام بالقانون الديمقراطي حكما ومرجعا طبقا للقواعد المتعارف عليها، وهذا ما يجعلني أقول أنه ليس في النظام الديمقراطي الحقيقي خصومة ولا خصام وإنما الديمقراطية هي تفاعل وحوار، هذا المبدأ هو الذي يضمن النجاح للممارسة الديمقراطية في أي وطن· ومن هنا فإننا نقول وبوضوح أن المعارك الكلامية مهما اشتدت حدتها لا تعكس وجود خصومة أو خصام في الممارسة الديمقراطية وإنما هي دليل حراك وحيوية كعنوان للمناقشات الحرة، ولكن ما أن ينتهي الحوار حتى تمضي الأقلية المعارضة والأغلبية الحاكمة (جبهة التحرير الوطني + التجمع الوطني الديمقراطي + حركة حماس) معا في طريق واحد اسمه المصلحة العليا للوطن، وهذا المبدأ يسمى في النظم الديمقراطية بأنه فضيلة القبول بروح التقاليد الديمقراطية بمعنى أن المعركة حول أي قضية متى انتهت فإن المنظومة الديمقراطية يجب أن تستعيد التئامها بوحدة الأغلبية والمعارضة· إن أهمية هذه الروح، روح تقبل مبدأ الحرية في ظل القانون، إنه بغير هذه الروح تتحول الديمقراطية إلى صراع وليس من أهداف الديمقراطية خلق وإيجاد ونشر الصراعات وإنما هدفها نشر وترسيخ الوفاق الذي يؤكد قوة ومتانة ووحدة البناء الديمقراطي· ومع التسليم بأن القيم العليا للعملية الديمقراطية تزدهر وتنتعش عن طريق النقاش الحر والسجال الجريء الذي يفرز الآراء الجديدة والحلول المبكرة، لكن هذه القيم الديمقراطية ينبغي أن تظل دائما محكومة بقواعد صارمة من عفة اللسان وجدية التناول· إن الديمقراطية عنوان أساسي من عنوانين العمل المنظم، وبالتالي فإن الديمقراطية أبعد ما تكون عن أي شكل من أشكال الممارسة التي تقود إلى الفوضى· وللأسلوب الديمقراطي مصدران، المصدر الأول هو القانون والمصدر الثاني هو الممارسات واسعة الانتشار والتقاليد المتبعة خلال أزمان طويلة ثم إن الديمقراطية لا تبيح لأحد مهما كان موقعه أو مكانته أن يتجاوز القواعد المراعاة في الممارسة أو أن يغير واحدة منها، فقط يمكن تفسير القانون قياسا على السوابق البرلمانية والديمقراطية المتبعة منذ زمن طويل· وأخيرا، وليس آخرا، فإن المبدأ الأساسي من مبادئ الديمقراطية هو أن قرار الأغلبية يمثل القانون الأساسي لكل مجتمع يقوم على المساواة في الحقوق، وهذا القانون الديمقراطي إذا لم يتم احترامه فلن يتبقى هناك سوى قانون القوة، والتاريخ يقول لنا كجزائريين أن الشعوب الحرة هي التي تدرك أهمية القانون الديمقراطي في دول يعينها، إنها تضع هذا القانون كأحد مناهج التعليم الأساسي ليتعلمه الأطفال منذ نشأتهم مع تعلمهم حروف الهجاء· ولست أتجاوز الحقيقة أو أتحامل على أحد إذا قلت أن بعض الذي يكتب في بعض صحفنا هذه الأيام يحوي من الشطط بأكثر مما يتضمنه من أفكار ورؤى، وذلك أمر لا يساعد على ترسيخ مناخ الديمقراطية، خصوصا أن بعض النخب ما زالت عاجزة حتى اليوم عن تقديم نفسها للرأي العام في صورة جديدة ومقبولة تعكس فهما صحيحا لمعنى وغاية الديمقراطية· إن المرحلة الدقيقة التي تمر بها بلادنا الآن سواء عن طريق تعميق التحول الديمقراطي أو في اتجاه صد واحتواء بعض ما يلوح في الأفق من ضغوط أجنبية يتصور أصحابها أن لهم الحق في دس الأنف في شؤوننا الداخلية، يحتاج من النخب الجزائرية أن تحسب وأن تزن كل كلمة لكي تكون نموذجا يحتذى به في الفهم والإدراك لمعنى وغاية الديمقراطية· إن بعض ما يقال هذه الأيام ويكتب يبدو بعيدا جدا عن الرؤية الصحيحة لحجم التحديات والمخاطر، وما تتطلبه هذه التحديات والمخاطر من تفعيل لمنهج الحوار واحترام الرأي الآخر بدلا من التفرغ لمساجلات هزلية ومجادلات عقيمة تغلب على معظمها لغة الصراخ والسب والشتم وتستخدم فيها مفردات التجريح والتشهير، ومن ثم تؤدي إلى تغليب أجواء التعصب والجمود الفكري وزرع بذور التشكيك في مرحلة تحتاج فيها إلى تكاتف وتآزر وتلاحم· إن تحديات المرحلة الراهنة والمقبلة لا تخفى على أحد، ومن ثم فإنه يفترض أن تمثل تحديا للجميع يستوجب حشد وتجييش الرأي العام في الاتجاه الصحيح· إن الرأي العام الجزائري يريد أن يرى ممارسة صادقة لحرية الصحافة في بلادنا تنعكس انعكاسا مباشرا على حياته اليومية وطموحاته اليومية وطموحاته المستقبلية بحيث تتسابق الصحف على عرض أفكارها الواقعية القابلة للتنفيذ على أرض الواقع بدلا من استمرار إضاعة الوقت والجهد في معارك جدلية لا طائل من ورائها· ثم إن الرأي العام يريد صحفا لا تنتقد فقط لمجرد النقد بهدف إثبات الذات والإيحاء بأن لها وجودا على الساحة، وإنما يريد صحفا تملك القدرة على طرح حلول قابلة للتطبيق بشأن القضايا الكبرى التي تشغله مثل قضية اختلاسات أموال الشعب وقضية البطالة وكيفية إحداث التوازن بين الدخل الفردي وأسعار السوق· إن الرأي العام الجزائري يريد أن يرى حرية حقيقية للصحافة في صورة فكر بناء ومستنير وليس في صورة غضب ومزايدات خصوصا في ظل أوضاع صعبة تتطلب الاقتراب الصحيح من مشكلات الجماهير وإثبات الجدية على الإسهام في حل هذه المشكلات بآراء ومقترحات سديدة· وأيضا فإن الرأي العام يحلم باليوم الذي تصبح فيه ساحة التنافس الصحفي تحت مظلة الحرية والديمقراطية بمثابة نافذة تطل على المستقبل وتستشرف كيفية التعامل مع الغد بأكثر من كونها ساحة يجري استثمارها للتقليب في دفاتر الماضي وفتح المعارك لتصفية الحسابات· وأعتقد، ولست وحدي، بل الكثير من الجزائريين، أن صوت الشارع الجزائري يتمنى من الصحافة الجزائرية بكل انتماءاتها وتوجهاتها أن تتحوّل إلى مرآة صادقة تعكس الإدراك الصحيح بتحديات المرحلة وارتفاع الجميع إلى مستوى هذه التحديات من خلال التوظيف الصحيح لإبداعات العقل والفكر، وليس بصيحات الصراخ والعويل، لأن الديمقراطية تتقوى بالممارسة الصحيحة والمسؤولية لحرية الصحافة ولا ديمقراطية حقيقية بدون صحافة حرة تؤمن بأن الديمقراطية هي الحرية وليست الفوضى، وهي حق الاجتهاد وليس مفردات التشكيك والتحريض، ومن خلال توافق عام على احترام الدستور وتطبيق سيادة القانون، وفي تصوري أن المسألة ليست صعبة ولا هي مستحيلة إذا أيقن الجميع بأن الخيار الوحيد هو خيار المصلحة الوطنية العليا بعيدا عن أي حسابات ذاتية ضيقة· ولا يمكن لأي جزائري عاقل أن يجادل في أن السبيل الوحيد لضمان الحفاظ على حرية الصحافة من أعدائها المتربصين بها يبدأ بإصلاح حال الممارسة الصحفية في ظل مجتمع جزائري مفتوح ومن خلال دولة المؤسسات التي تحترم الفصل بين السلطات ويسود فيها صوت القانون وتكون الكلمة العليا للإرادة الشعبية بعيدا عن أي متاهات فكرية تعبر عن أشخاص أكثر ما تعبر عن نبض الناس وتطلعاتهم المشروعة· إن ضمان حرية الصحافة تحت راية الديمقراطية لا يتحقق بتصيد الأخطاء وتضخيمها وإنما بكشف أي أخطاء أو سلبيات بهدف تصحيحها بعد وضعها في إطارها الصحيح، ومن خلال نقد موضوعي نزيه يسبقه تحقيق سليم لكل الوقائع لحماية وجدان الشعب الجزائري وضميره من مخاطر الاستدراج نحو أجواء اليأس والإحباط من كثرة جلد النفس والذات· ومما سبق يمكن القول يجب علينا أن ندرك ونعي أن عنوان الرأي الحر في الأجواء الديمقراطية ليس عنوان الجرأة والانفلات وتخطي الحدود، وإنما الرأي الحر التزام ومسؤولية في المقام الأول، ثم إن الرأي الحر يتجسد في صدق الكلمات وليس في غلطة وجهامة العبارات لأن أعظم ما في الديمقراطية أنها تنتصر للشجاعة في الصدق ولا تعرف في قاموسها فجاجة التضليل وتغليب الحسابات الذاتية على المصالح العليا للوطن· والمؤكد لدى العام والخاص أن الرأي الحر والصادق والمسؤول في الممارسة الديمقراطية لا يجيء بمجرد التمني أو الادعاء، وإنما هو انعكاس صادق لاحترام عقول الناس ومشاعرهم التي يصعب دغدغتها والتأثير عليها بمعسول الكلام أو بالدق على وتر بعض المثالب وبعض السلبيات التي لا يخلو منها أي مجتمع في القديم والحديث ما دام في حالة حراك·