ماذا لو أن الرئيس بوتفليقة آثر في آخر لحظة، الاعتذار عن الترشح لعهدة ثالثة، مع توفر فرصة الترشح؟ كيف كانت أحزاب التحالف، وأحزاب المعارضة ستتعامل مع مصل هذا القرار؟ وهل كانت ستقبل جميعها بلعبة مفتوحة لا تستدعى إليها القوى التي تصنع في العادة الرؤساء وما دونهم من المنتخبين على كافة المستويات، أم أن ما نعلمه من ضعف مستحكم في هياكل الأحزاب وفي قواعدها النضالية والاجتماعية، وغياب واضح لبرامج حكم بديلة مقنعة كان سيضطرها إلى الدخول في سباق محموم مكشوف لكسب الصوت السلطوي المرشح والمرجح، قبل المقامرة بالاحتكام لأصوات الناخبين؟ * تهافت أحزاب السلطة على دعم ترشيح رئيس يصر علنا على أنه مرشح مستقل، وتهالك أحزاب المعارضة على خيار المقاطعة يكشفان لنا مشهدا سياسيا معطلا يرفض فيه الطرفان المنازلة والتنافس بدافع الخوف هنا والجبن هنالك من الاحتكام للناخب. * إلى آخر لحظة كنت أتوقع، من باب التمني ليس إلا، حدوث أحد الأمرين: إما أن يعزف الرئيس بوتفليقة عن الترشح لعهدة ثالثة، أو يكون إعلان ترشحه مشروطا بتجديد الالتزام بمضامين تحديث نظام الحكم الذي وعد به منذ بداية العهدة الأولى، ورافقه في الثانية، قبل أن تقبره قوى الجمود في بعض أركان النظام. * التوقع المتفائل أكثر من اللازم، أحبط يوم الخميس الماضي بعد الإعلان الرسمي عن ترشح الرئيس لعهدة ثالثة، وبرؤوس أقلام مقتضبة لبرنامج رئاسي قد خلت منه الإشارة لحاجة البلاد إلى تحديث نظام الحكم عبر تعديل دستوري واسع، كان الرئيس بوتفليقة قد دافع عنه في محاولات يائسة، افتقد فيها إلى دعم أحزاب التآلف الرئاسي، كما أحزاب المعارضة، واكتشف فيها قوة وصلابة القوى المعارضة لأي تحديث قد يغير موازين القوة التي تركبت حول دستور 89. * * عهدة جديدة في مسار العهد القديم * مبدئيا، لم يكن عندي أي اعتراض لما حدث من تعديل للدستور لفتح الأبواب لعهدة ثالثة أو لما فوق ذالك، ما دام القرار النهائي بيد الناخب، على الأقل من الناحية النظرية، ولم تكن تلك بدعة، وهي في كل الأحوال أفضل من مشاريع التوريث التي تطال اليوم حتى بعض الدول الغربية، وليست أكثر سوءا من التزوير الذي جاء برجل مثل بوش للبيت الأبيض، ولا أكثر سوءا من المسرحية الانتخابية التي جاءت بأول ملون للبيت الأبيض لتبييض مخلفات عهدة بوش، ولدينا أمثلة كثيرة من عدة ديمقراطيات غربية لا تحدد العدد، ورأينا ديغول يغير الدستور الفرنسي ليخيطه على مقاسه، ومنح الفنزويليون شافيز أمس الأول ما منحه البرلمان لبوتفليقة بتعديل دستوري يبيح للمنتخبين الترشح لأكثر من عهدتين، وقد عدل الدستور الروسي ليسمح بعودة بوتين إلى رأس الدولة بطرق ملتوية. * لكل ذلك، ولأسباب أخرى، لم أجد في حملة المعارضين للعهدة الثالثة ما يبرر قرار المقاطعة الذي تبنته أحزاب وشخصيات وطنية، لم تكن تعارض مبدأ العهدة الثالثة، بقدر ما كانت تعارض فكرة دخول الرئيس في سباق رئاسي، يعتقدون أنه محسوم مسبقا، ولم يعارضوا مبدأ وقوف أركان النظام ومؤسساته خلف مرشح للسلطة، بقدر ما كانت لهم دعوات غير مبطنة لكي يرسوا الخيار على اسم آخر غير بوتفليقة. ولست متأكدا أن سعيد سعدي، أو حسين آيت أحمد، أو جاب الله، أو بن بيتور، أو مولود حمروش كانوا سيرفضون عرضا سلطويا يجعل من أحدهم مرشح إجماع أركان النظام. ليس هذا حكما مجحفا على النوايا، بقدر ما هو استقراء لواقع المشهد السياسي الوطني الذي ولد من رحم النظام، ومن الفسحة التي منحها له ولشخوصه دستور 89، ولم تغتنم شخوصه الفرص الكثيرة التي تهيأت لها للانعتاق من قواعد اللعبة التي جيرت أحكام الدستور التعددي لخدمة تجديد موازين القوة على الدوام لصالح السلطة القائمة. * * معارضة باهتة من نظائر غير مشعة * التعامل مع هذا المشهد السياسي المقفل بقرار المقاطعة كما بسنن الاستحقاق الجائرة، هو في الحد الأدنى اعتراف بالضعف من الجانبين، وتسليم مفجع باستحالة إحداث التغيير في ظل أحكام دستور 89، الذي تدين له معظم التشكيلات السياسية بوجودها أولا، وتدين له ثانيا باستمرار تواجدها في المشهد السياسي، وأحيانا في المؤسسات المنتخبة رغم ضعف قواعدها الانتخابية، وعلى اعتبار أن برامجها كانت نظائر غير مشعة، ضيقة الأفق والأحلام لبرامج السلطة، أو مستنسخات لبرامج وافدة من وراء البحار شرقا وغربا، لم ينظر إليها المواطن في يوم ما كبديل ذي مصداقية لما هو قائم. * الدعوة إلى مقاطعات استحقاق الرئاسيات، وكيفما كانت الحجج والمبررات، هي دعوة قاصرة، تخدم استمرار النظام بشكله الحالي، وتبقي بيده خيوط اللعبة، وفوق ذلك تفوت أكثر من فرصة على أحزاب وقوى المعارضة، إن صح أن في هذا البلد قوى سياسية معارضة. * فقد كان بوسع أحزاب المعارضة، وكثير من الشخصيات السياسية التي تطمح إلى لعب أدوار في المشهد السياسي أن تستغل منابر الاستحقاق الرئاسي الكثيرة لتحرج النظام، باستعراض ما عندها من حجج وتبريرات قد تقنع الناخب بفساد التعديل الدستوري الأخير، وتبين لنا كيف أن منع الرئيس، أيا كان، من الترشح لأكثر من عهدتين هو إخلال بالديمقراطية، وبمبدأ التداول على السلطة، ولا يكون كذلك بالنسبة لنواب الأمة وأعضاء الهيئات المنتخبة الأخرى، وكيف يجوز في المقابل لرؤساء الأحزاب الخلود على رأس تنظيماتهم منذ أكثر من عقدين، وبعضهم لأكثر من أربعة عقود. * * أقاطع إذن أنا موجود * الدعوة إلى المقاطعة سوف تحرم أحزاب المعارضة من استغلال ما توفره الرئاسيات من منابر إعلامية، وفرص تنظيم التجمعات الشعبية لتحقيق تواصل فعلي مع المواطنين، والخروج من مكاتب العاصمة المكيفة، والاطلاع عن كثب على الهموم الفعلية للمواطنين، واختبار ما تحمله الأحزاب من أفكار وبرامج، إن كان لها أصلا أفكار وبرامج، ثم الاجتهاد لتصحيح الرؤية الفوقية النخبوية التي تطبع عادة أدبيات وبرامج الأحزاب. وهي فرصة لا تتيحها عادة الاستحقاقات المحلية والتشريعية لاستعراض بدائل الحكم، ومشاريع الإصلاحات الكبرى للدولة ومؤسساتها، وإفساح المجال للتنافس بين البدائل المتاحة والممكنة في مجالات الاقتصاد والتعليم والخدمات، ورؤية الأحزاب لقضايا الهوية المعقدة، ولقضايا كبرى تتصل بالأمن القومي للبلاد، وكلها قضايا مغيبة في ما هو معلن من برامج الأحزاب، في السلطة كما في المعارضة، وسوف تغيب مرة أخرى في استحقاق تغيب عنه المنافسة الحقيقية، ولا يحرج فيه "مرشح الإجماع" بوجهات نظر بديلة مدعومة بالاحتجاج المنطقي، والبراهين الموضوعية. * * زمانة الرئاسة في زمن الأزمات * فوق ما سبق، فإن هذا الاستحقاق يأتي في ظروف أزمة اقتصادية عالمية تهددنا بأكثر من خطر، وقد واجهتها السلطة بكثير من الاستخفاف والتكتم عن تداعياتها وتأثيراتها المباشرة وغير المباشرة، في بلد يعتمد بنسبة 93 في المائة على عوائد المحروقات، المرشحة لانهيار متوقع مع تفاقم الأزمة العالمية، وانكماش الاقتصاد العالمي، وتراجع الطلب على المحروقات. * إلى جانب ذلك، تتراكم في الأفق أزمات وتهديدات جديدة على أمننا القومي لم نستكشفها بعد، حتى نطمع في تداول الرأي والمشورة حول أفضل السياسات للتصدي لها، وتطويقها في وقت مبكر. فحدودنا واستقرارنا وأمننا الاجتماعي والسياسي، جميعها تحت التهديد من موجة متعاظمة من الهجرات البشرية من جنوب الصحراء، كما هي مهددة من بؤر اضطرابات في الدول المجاورة، تنضج على نار هادئة في مالي والنيجر وبين قبائل الطوارق، وتأتي أحداث بريان المؤلمة لتذكرنا، أننا لسنا في مأمن من العبث الآثم بأمننا الاجتماعي، والعزف على الوتر المذهبي في منطقة قريبة من منابع النفط. * كنا نأمل أن نرى تدافعا من قبل زعماء أحزاب المعارضة والشخصيات الوطنية على المشاركة في هذا الاستحقاق، ليس من باب التنافس على كرسي الرئاسة، الذي تتحكم فيه موازين قوة ليست لصالح وصول مشروع رئاسي بديل لمشروع السلطة، ولكن من باب تحويل هذا الاستحقاق إلى ساحة بيداغوجية للتعريف بما توفر من بدائل للحكم، وانتقاد ما هو قائم. كما كنا نأمل أن تنشأ قناعة عند الماسكين بالسلطة في اتجاه احتضان القوى المعارضة، وتقويتها وإشراكها في الرأي، لأنها من ألزم الشروط لقيام حكم راشد، وأن الاستمرار في لعبة الإقصاء للخصوم، هي لعبة خطرة، سوف تنتهي بنماء رقعة الأرض السياسية المحروقة، وحرمان البلد من بناء مجتمع سياسي ومدني قادر على صناعة البدائل، وفي الحد الأدنى قادرا على ممارسة قدر من الضغط الإيجابي على السلطة، يدفعها إلى التجديد والتحديث، ويجنبانها الشيخوخة المبكرة، والموت المكتوب على كل كيان يفقد الروح القتالية في ساحة قد هجر منها الخصوم والأنداد الأكفاء. * * رعاش حميد في مشهد غير محمود * في الجملة، نحن أمام مشهد يرفض فيه طرفا اللعبة السياسية المواجهة والصراع والتنافس، بمسوغات ترفضها الفطرة السليمة، ويسفهها العقل السوي. ومن ذلك أن إغلاق السلطة لساحات المنافسة النزيهة، والتباري بحظوظ متكافئة، يقابله معارضة مترهلة، قد أصيبت بالرعاش الحميد، تغتنم أول فرصة لرمي المنشفة، وهجران الحلبة، بدعوى أن حاميها حراميها، وأن الخصم فيها حكم قبل أن يكون خصما، ناسية أن الإكثار من منازلة هذا النوع من الخصوم، والاستبسال في مقارعته من جولة إلى أخرى، سوف يأتي أكله بعد حين، بما ينتجه من استنزاف لقوى الخصم ونظام مناعته، إلى أن يأتي اليوم الذي لن تسعفه فيه قواعد اللعبة المغشوشة، ويأتي عليه الدور لرمي المنشفة. * ما نراه رأي العين، هو أن المسارات والاستحقاقات الانتخابية تتوالى منذ عقدين دون أن تتمكن القوى الممسكة بالسلطة من توسيع قاعدتها الشعبية، حتى تطمئن للدخول في استحقاقات مفتوحة آمنة، أو تنشئ من شتات المشهد السياسي والقوى الاجتماعية القديمة والحديثة قوى سياسية قادرة على الإمساك بزمام الأمور، دون حاجة إلى إسناد خارج القانون وأحكام الدستور، من قبل المؤسسة العسكرية وبيروقراطية الدولة. * * أقطاب تائهة حول رحى بلا قطب * في الطرف الآخر، نرى قوى سياسية تكاد تكون غير معرفة الهوية، حتى مع احتمائها بيافطات ليبرالية، وطنية أو إسلامية، كانت وما تزال عناوين بلا مضامين تسندها. * فالقطب الذي اختطف بالخطاب الأجوف عنوان الديمقراطية، كما اختطف الآخرون عناوين وطنية وإسلامية، قد فشل في بناء مرجعية ليبرالية وطنية للبرجوازية الناشئة، ولجانب من الطبقة الوسطى التواقة للعيش في كنف دولة حديثة، متحررة من قوة الحضور الديني، ومن الموروث الثقافي، وما ترى فيه جملة من المعوقات في الثوابت الوطنية وقضايا الهوية. وهو فشل يفسره ضعف الخطاب الفكري والسياسي المستورد داخل حافظات "التيترا باك"، كما يفسره ضعف القوى الاجتماعية المعنية بهذا الخطاب. * حال القوى الوطنية والإسلامية ليس بأفضل، بل هو في تراجع مفجع ومخيف، لم يستفد كثيرا من دروس التسعينيات، ولا من التجارب المماثلة من حولنا، ليجدد الخطاب والمقاربة، ويعتمد استراتيجية محسوبة متدرجة، تتعامل مع الواقع كما هو، ومع موازين القوة القائمة، وتشتغل على بناء تحالفات تنفتح على الآخر، وتنتظر بقدر من الصبر والمثابرة الساعة التي تتهيأ فيها الفرصة، كما تهيأت لنظرائها في تركيا. * * مقاطعة لا تجوع الذئب ولن تسمن القطيع * المقاطعة التي التقت عندها قوى وشخصيات من مشارب متناقضة، لن تعطل مسار الرئاسيات، كما أن غياب مرشحين أكفاء ببرامج حكم مقنعة، قد يجعل من هذه الرئاسيات استحقاقا باهتا، وقد يعزف الكثير من المواطنين عن المشاركة، دون تعطيل الاستحقاق، لكنه سوف يترتب عن المقاطعة نتيجة أخطر بكثير مما تحسبه القوى المقاطعة، قد تجعل من الرئيس المنتخب، أيا كان، رئيسا ضعيفا أو مستضعفا، أمام قوى الجمود التي تعطل الإصلاحات، ومشاريع تحديث نظام الحكم، وبناء الدولة الحديثة، التي تسبق في ترتيب الأولويات التطلع إلى بناء الديمقراطية. * فالقوى الداعية إلى المقاطعة لم تقدم بديلا للمواطنين لإحداث التغيير خارج المسارات الانتخابية، وبطرق سلمية، لأنها لا تمتلك، لا الإرادة ولا القواعد النضالية والشعبية، ولا الفكر والبرامج البديلة لإحداث التغيير، بما يجيز قراءة قرار المقاطعة على أنه شاهد إثبات على عجز مستحكم فيها، فضلا عن قصور في النظر، كان وراء تهميشها وإبعادها من التأثير في اللعبة، أكثر من القرارات والقوانين الجائرة المقيدة للتنافس الحر والنزيه. فمع الأخذ بعين الاعتبار بمعوقات قانون الطوارئ، وانسداد أبواب الإعلام الثقيل، فإن الحجة تبقى واهية، لأن النظام عندنا ليس بوليسيا أكثر من النظام المغربي أو النظام المصري، ومع ذلك نسجل هنالك قدرا من الحيوية عند قوى المعارضة، وأحيانا سلوكا إبداعيا لأشكال جديدة من النضال السياسي سوف يكون لها مردودا أكيدا في آجال منظورة. * والحال، لا سبيل إلى رد مفردات خلاصة أولية لمقدمات هذا الاستحقاق الرئاسي الجديد، الداعون فيه إلى تجديد العهدة بألواح العهد القديم هم أول من قاطع طموح التجديد عند مرشح الإجماع، والمقاطعون القدامى والجدد يهونون من حجم المأساة بالقول: أقاطع إذن أنا موجود. *