منذ أيام وأنا شبه رحالة، تائه في الطرقات المؤدية إلى الغرب، والمؤدية إلى الشرق·· عدت إلى منزلنا، لم أمكث كثيرا، التقيت بالأصدقاء القدامى، وبالوجوه الجديدة، سواء في وهران أو في سيدي بلعباس، أو في سكيكدة·· منذ يومين قضيت ليلتين بهذه المدينة التي أشعر أن لها سحرا خفيا·· كانت المرة الأولى التي زرت فيها هذه المدينة في العام1987، كنت آنذاك صحفيا في أسبوعية الجزائر الأحداث، وجئت إليها لأقوم بتغطية لمهرجان مسرحي، وقد اقترح عليّ الأصدقاء آنذاك، أن أقدم على ركح مسرح سكيكدة ''قدور البلاندي'' وهي نوع من مسرح الممثل الوحيد·· كنت أنتهج فيها نوعا من التجريب الذي يمزج بين مسرح الفقير لغروتسكي ومسرح بيسكاتور السياسي·· كنت أتعمد إشراك الصالة وجرها إلى حالة من الإثارة والهيجان·· تناولت في المسرحية وضع الحزب الوحيد، والفساد مستعملا التهكم والسخرية، وفي نهاية المسرحية تحولت الصالة إلى شيء الغليان·· صعد الجمهور إلى الركح وغنى معي أغانٍ نقدية وثورية، وهذا ما استدعى مجيء البوليس السياسي آنذاك، فقام جزء من الجمهور بتهريبي من الباب الخلفي للمسرح·· ظلت هذه التجربة من المسرح التحريضي منقوشة في ذاكرتي، وكنت أحتفظ بها لنفسي مع مرور الأيام وتبدل الأحوال، لكن المفاجىء أنني كلما التقيت بالكثير من الوجوه في مسرح سكيكدة إلا وأعادوا رواية الحادثة بشكل تفصيلي، وربما ذكروا تفاصيل ضاعت من ذاكرتي، وهذا ما جعلني من جهة أشعر بالغبطة أن يكون للمسرح كل هذا التأثير العميق على الأشخاص بعد مرور سنوات طويلة على العرض·· وأن يكون للمسرح كل هذه القوة الروحية التي تتجاوز في نهاية المطاف كل إغراءات الخطابات السياسية والحزبية··· قضيت وقتا في النقاش مع صديقي سليمان حابس الذي تعرفت على أعماله منذ مسرحيات ''توبة في الأندلس'' و''رحلة حب'' مع فوزية آيت الحاج في بداية التسعينيات، ثم تعرفت عليه عن كثب عندما خضنا تجربة حميمة ومثيرة، هو كمصمم حركات الجسد وأنا كمؤلف في مسرحية ''نون''··· كان سعيدا بمجيئي إلى سكيكدة لأحضر الفيلاج الأول لمسرحية ''أمام أسوار المدينة'' للمخرجة صونيا·· إلتقيت كذلك بصونيا مديرة مسرح سكيكدة ومخرجة المسرحية، ورحنا مع بعض نتجاذب أطراف الحديث عن تجربة ''قالوا العرب قالوا'' و''هاجوا الأفكار'' وتجربة فاطمة مع مسرح القلعة·· ثم تناقشنا حول الرهانات الجديدة للتجربة المسرحية الحالية التي تسعى إلى إحداث تطور نوعي على ما كان عليه المسرح الجزائري في السبعينيات والثمانينيات والذي كان يطغى عليه النزوع التحريضي والاجتماعي والسياسي·· كان المضمون هو الذي يسيطر على مجمل العمل المسرحي بدل خلق التوازن بين الشكل والخطاب··· قالت لي صونيا ''نحن اليوم في حاجة إلى إحداث قطيعة، والانتقال إلى مستوى أكثر جدة وحداثة، فالصحافة أصبحت تقوم بما كنا نقوم به في السابق كمسرحيين، وهذا دورها، ونحن اليوم مطالبون أن نرتقي بالحساسية الجمالية الجديدة، ومطالبون بالحفر أكثر في الجسد الفني والجمالي··· '' حدثت صونيا أيضا عن التجربة التي خاضتها في منتصف التسعينيات مع فرقة تينهينان ومسرحية ''هابيل وهابيل'' وعندما سألتني عن المسرحية التي لم ترها، قلت لها، أن المسرحية تتحدث عن ممثل سقط في حفرة، يلتقي بهارب من السجن يجد نفسه في حفرة، وكل همّهما يعيشانه في الحفرة التي يريد كل واحد منهما الخروج منها··· غادرت سكيكدة على الساعة الثانية، وفي منتصف الطريق إلى العاصمة اتصلت بي صونيا، وقالت لي، أن السينوغراف عبد الرحمن زعيوبي، تعرض إلى حادث عمل، وعندما سألتها إن كان الأمر خطيرا، قالت لي وهي مضطربة، الحمد لله، لم تحدث الكارثة، فلقد تعرض إلى كسر خفيف عندما سقط في حفرة الخشبة··· حاولت الاتصال بالصديق عبد الرحمن، لكنه كان نائما، بعد الآلام التي قضت مضجعه··· والآن، وفي هذه اللحظة، ها أنا أحضر نفسي للتوجه إلى المطار لحضور أيام عمان الإبداعية، بحيث ستعرض مسرحية ''نون'' إلى جانب مسرحيات عربية وأوروبية···