1 فوانيس نادر··· وجمانة ذات يوم من ذاك العام···2009، التقيته في ضواحي سيدي فرج، بلامبيتش، أظن ذلك·· كانت أيام المسرح المحترف·· كان جالسا وحيدا، في زواية، كان وقت غذاء·· وكان مدير المسرح الوطني محمد بن فطاف يجلس محاطا بأهم الوجوه المدعوة·· وكنت مدعوا من طرف بن فطاف·· نظرت حولي، الوجوه كثيرة·· الضحكات متعالية، الأصوات متداخلة·· وحده كان هناك، وكأنه يتأمل أمام نبيذ أحمر،·· أثارتني نظراته، أثارتني ملامحه، وأكثر ما أثارني صمته، شعرت بجاذبية ما، كأنها قوة روحية وشيطانية تناديني، تغريني بالتوجه إلى ذلك الجالس، ذي الشعر المائل نحو الرماد، جلست صامتا إلى جنبه، حييته بحياد، رد التحية وهو ينظر إلى هناك كأنه ينظر إلى داخل مغارة روحه·· وفجأة سألته وأنا أسعى إلى تقديم نفسي، ولحظة انفجر، وخرج كالجان الصاخب من زجاجته الصامتة، ''يلعن أبوك، أنت حميدة؟! أيها الحقير··'' وقال لي، أنا نادر عمران، من مسرح الفوانيس من الأردن·· ألا يعني لك هذا شيء؟! ''وهنا أيضا أنا صرخت·· وقلت ألم تكن أنت الذي دعوتنا في العام 1996 إلى أيام عمان المسرحية بعمان؟!'' وهو قال ?''لماذا لم تأتِ يا أخي·· انتظرنا فرقتكم ولم تأتِ··'' وعندئذ قلت له، ''كنا متشوقين، لنعرض في أيام عمان المسرحية، عملنا ''هابيل وهابيل'' ضمن فرقة تين هينان التي أسسها كل من احميدة عياشي، عز الدين عبار، عبد القادر بلاحي ونضال ملوحي في سيدي بلعباس·· لكن في آخر دقيقة حدث معنا مشكل·· فنضال هو وليد الجزائر ومن أصول سورية، لم يكن قضى خدمته العسكرية في بلده الأصلي·· وكان لابد علينا آنذاك أن نمر على سوريا·· وكان ذلك مستحيلا·· هي هكذا أصل الحكاية''·· ثم انفجرنا ضاحكين·· وحدث ما يسمى ذلك التواصل العميق والحي··· وظلت دعوة نادر عمران قائمة··· ثم التقينا هذه السنة مرة، وذهبنا إلى مطعم كاراكويا··· وتحدثنا عن نون··· المسرحية التي أخرجها الصديق عز الدين عبار، وصمم حركاتها سليمان حابس، وأدى أدوارها بإبداع عبد القادر جريو وخديجة ودليلة نوار وأبو بكر وعبد الإله ميروح وبلة وحمو، تحمس نادر للعرض، وجدد الدعوة·· ويشهد الله كم ظل حريصا ليقدم هذا العرض الملتبس والمليء بالشبهات والدياجير النيرة، هناك في عمان··· وفي 23 مارس، التقيت هناك مع الفرقة المحترفة لسيدي بلعباس، هناك في المطار·· وعندما صعدت إلى السماء رحت أرسم خطوطا لعمان·· لعالم عمان التي لم أزرها من قبل·· قبعت صامتا أنظر إلى ذلك الفضاء الممتد، ثم اجتاحتني رغبة جامحة في قراءة الكتابين اللذين حملتهما، الأول بالفرنسية حول ابن عربي، شيخ الحب، والثاني، هكذا تحدث ابن عربي لنصر حامد أبو زيد·· أنا وبن عربي في تلك السماء·· وبين لحظة وأخرى كانت تطل عمان الخيالية، عمان التي حاولت رسمها في قلبي ومخيالي··· ورحت أستعيد تلك الكلمات المتناثرة كالشظايا في متاهات ذاكرتي، مع نادر عمران·· كلمات كانت بداية لتعارف·· وبداية لمحبة تقف على عتبة هي أشبه بوقوفي على عتبات معشوقي ابن عربي·· ونزلت الطائرة، فقلت لنفسي، وأخيرا ها أنت عمان أمامي·· ها أنت في طيبة أهلك وهدوئهم، وفي جمال نسوتك، وفي خطابك غير المنطوق في شبابيك تاريخك، وإن شئت تواريخك الجزئية، المضيئة والمتسربلة بتلافيف الدياجير الصامتة·· نزلت على أرض عمان وصديق عزيز على قلبي·· عرفته دائما خجولا، صامتا، دمثا رقيقا كالروح، لكن في تلك اللحظة كان لحظة من الإنتشاء، من الإنفجار، من الضحك المهووس·· كان نقيضا جميلا لوجهه الطاهر، كان باطنا متحركا متدفقا وفياضا·· كان استغارة عندما يتحرر الداخل من خارجه، والصدق من أغلاله، والروح من جسده·· وصلنا إلى فندق بالميرا على الساعة منتصف الليل·· صعدت إلى الغرفة 416 بالطابق الرابع، أخذت دشا، غيرت ملابسي وصعدت إلى الطابق السابع حيث دعاني المجنون نادر إلى عشاء حافل وصاخب·· قدمنا إلى ضيوفه·· نظرت من حولي، نظرت إلى تلك الوجوه، إلى جمانة زوجة صديقي نادر، الشاعرة التي تحمل في عينيها، في حركاتها، في طريقة ترحيبها بالضيوف جنون طفلة تمردت على الداخل، وخرجت إلى السطح·· طفلة بدون زيف، بدون ادعاء تتدفق عفوية، وبدون أقنعة، طفلة تنبض بالشعر الذي يتحرك·· والشعر الذي يمشي، ويرقص ثملا على حلبة الرقص·· والشعر الذي يتجرد من ثوبه العتيق ويأتيك عاريا، ليقبلك ويجردك من كل العباءات التي تلبسك وتلبسها·· نظرت من حولي، فأدركت أن أيامي العمانية قد بدأت···