الهند وباكستان دولتان ولدتا في يوم واحد تقريبا، ومن رحم واحد، وتنتميان إلى ذات التاريخ والجغرافيا، وتشتركان في ذات البعد الحضاري، كيف يمكن لمثل هاتين الدولتين أن تتخذا مسارين مختلفين، بل ومتناقضين رغم كل ما هو موروث عن التاج البريطاني،تم إنشاء دولة باكستان على أقاليم من الهند ذات كثافة سكانية مرتفعة من المسلمين، فكانت الدولتان تنطلقان من ذات النقطة حيث كان الدخل السنوي للفرد في كليمها مائة دولار، وورثت الدولتان نوعا من الحكم الديمقراطي على النمط البريطاني لأنهما كانتا دولة واحدة مستعمرة من طرف بريطانيا، بل كانت باكستان تتميز عن الهند بكونها أقل اختلافا دينيا من الهند التي تعج بالمذاهب والأديان والأعراق واللغات واللهجات، حيث يشكل الهندوس أكبر تلك الأديان، فيما كان الإسلام يشكل هوية مشتركة لكل الباكستانيين، ولم يكن للهنود ما يجمعهم في ظل ذلك التنوع سوى الانتماء للأرض· واليوم، وبعد ثلاثة وستون عاما من الاستقلال نجد الهند تتفوق على باكستان في كل المجالات، سواء في الاقتصاد أو السياسة أو التكنولوجيا، فالهند اليوم بدأت تتحول إلى قوة عظمى، وسيكون لها شأن كبير في القرن الحادي والعشرين، فاقتصاديا أصبح دخل الفرد السنوي فيها اليوم يقارب الأربعة آلاف دولار سنويا مقابل ثلاثة آلاف دولار في باكستان، ومعدل النمو الاقتصادي السنوي في الهند يقارب 10 % فيما يتجاوز 6 % في باكستان· ومن الناحية السياسية تتمتع الهند بنظام ديمقراطي ثابت ومستديم، واستقرار سياسي نسبي لا تشوبه شائبة إلا من حوادث منعزلة لا يؤبه بها حين ينظر إلى الفترة التي تفصل الحاضر عن مرحلة الاستقلال· في ذات الوقت، ومنذ إنشائها، كان عدم الإستقرار السياسي هو العلامة البارزة في تاريخ باكستان السياسي، ديمقراطية هشة يهيمن عليها العسكر وينقضون عليها في كل حين، حيث مرت باكستان بثلاثة انقلابات عسكرية منذ إنشائها، تخللها حكم عسكري بواجهة مدنية في أحيان كثيرة، فكان انقلاب محمد أيوب خان عام 1958 هو الفاتحة وسقط عام ,1969 وقبله كان حكم الجنرال مبرزا منذ عام ,1955 ومن بعده حكم الجنرال يحيى خان القائد العام للجيش الباكستاني حتى عام ,1971 ثم جاء انقلاب ضياء الحق عام 1978 حتى سقط بمصرعه عام ,1988 وأخيرا إنقلاب برويز مشرف عام ,1999 وبذلك لو حسبنا السنوات التي حكم فيها العسكر باكستان لوجدنا أنها تتجاوز نصف عمر الدولة ناهيك عن أن النصف الآخر أو ما تبقى منه والذي تفترض فيه المدنية لم يكن يخلو من تدخل العسكر أيضا، ولم تكن فترات الاستقرار النسبي خالية من الاضطرابات العنيفة، حيث يمكن القول أن تاريخ الحكم في باكستان منذ مؤسسه ''محمد علي جناح'' عبارة عن عشر سنوات من حكم عسكري تعقبها عشر سنوات من حكم مدني مظطرب في دوامة لا تريد أن تهدأ ·· في ذات الوقت الذي كان الحكم المدني المستقر هو عنوان الحياة السياسية في الهند منذ ''جواهر لال نهرو'' وحتى هذه الساعة، وهذا ما يجعلنا نقول أن سبب تقدم الهند وتأخر باكستان يعود إلى العوامل التالية: 1 العلمانية الهندية: التي نص عليها الدستور، ففي ظل التنوع والاختلاف، خاصة عندما يكون كبيرا، لا يمكن أن يتم الاستقرار إلا بنوع من أنواع العلمانية التي تفصل بين الإعتقاد الروحي والحياة العلمية، وإلا طغت فئة على الأخرى، وكانت الفتنة دائما بالمرصاد ·· وفي حالة الهند، فإنه لو قامت ''دولة هندوسية'' على اعتبار أن الهندوس هم الأكثرية حيث يشكلون ما يقارب 81 % من السكان، فإن بقية الطوائف ستكون محرومة من الحقوق، خاصة المسلمين الذين يشكلون ما يقارب 15 % من السكان، ويكون بالتالي بؤرة عنف واضطراب إجتماعي وسياسي، وهو ما لا نجده في ظل هند علمانية، المستفيد الأكبر منها، هو الأقليات العديدة خاصة المسلمين منهم· 2 الديمقراطية الثابتة: هي التي جعلت من الهند أكبر ديمقراطية في العالم، فقد أرسى غاندي ثقافة التسامح، ثم حول هذا التسامح إلى مؤسسات ديمقراطية محمية بالقانون، في ظل هذه الديمقراطية لا يتساوى المواطنون فقط أمام القانون على اختلاف مللهم وأعرافهم، ولكن حتى في داخل الملة الواحدة يتساوون حتى إذا كان الملة ذاتها لا تساوي بينهم، ففئة المنبوذين في الديانة الهندوسية تعتبر فئة نجسة، ولكنها أمام القانون تبقى فئة من المواطنين لها ذات الحقوق التي للآخرين، وعليها ذات الواجبات، أما باكستان، فإن ديمقراطيتها هشة، قابلة للسقوط في أي لحظة، فمن ناحية هناك الجماعات التي ترى أنها أساس شرعية الدولة كما هي جبهة التحرير الوطني عندنا، وهي مستعدة لقلب الأمور رأسا على عقب إذا رأت أن نتاج الديموقراطية لا يتماشى مع قناعاتها ومنطلقاتها، ومن ناحية أخرى، هناك العسكر الذين هم مستعدون، بدورهم، للتدخل المباشر، كما فعل خالد نزار عندنا في انتخابات 1991 إذا وجدوا أن الأمور أخذت تخرج عن سيطرتهم· 3 الهوية الوطنية الواضحة والمتعالية على بقية الهويات والانتماءات والولاءات، فالممارسة الديمقراطية المستديمة من خلال مؤسسات محمية بقوة القانون في ظل علمانية لا تفرق بين مسلم وهندوسي ومسيحي وسيخي جعلت من الانتماء للهند هو الانتماء الرئيسي، وبعد ذلك تأتي بقية الإنتماءات: فمثلا، يعتبر العالم أبو بكر زين العابدين، العالم المسلم، الأب الفعلي للبرنامج النووي والصاروخي الهندي، عالما أن مثل هذه الصواريخ هي سلاح للدفاع عن أعدائها· 4 المواطنة في ظل القانون: من دون تفرقة بين مواطن هندي وآخر، هذه المواطنة هي التي سمحت لأن يتولى رجل مسلم رئاسة الهند حيث تولى رئاسة الجمهورية في الهند ثلاث شخصيات مسلمة منذ استقلالها من بين أحد عشر رئيسا، كما أن هذه المواطنة هي التي سمحت بتولي إمرأة مسلمة رئاسة مجلس الشيوخ الهندي ذات يوم، وكان أبوها رفيق غاندي في رحلة الاستقلال، مثل هذا الوضع لا نجده في باكستان حيث تطغى القبلية والطائفية على الشؤون العامة رغم وجود القانون· 5 حيادية المؤسسة العسكرية الهندية: عدم تدخل المؤسسة العسكرية الهندية في السياسة الداخلية بقيت في الحياد حيث ظلت حامية للدولة من أي عدوان خارجي، وحامية لسيادة القانون في الداخل، ولا شيء غير ذلك، وهو أمر لا نجده في باكستان ولا حتى عندنا في الجزائر، ولا في معظم البلدان العربية، إذ تبقى المؤسسة العسكرية في باكستان وكل الدول العربية، هي اللاعب الرئيسي في سياسات هذه الدول، وهذا هو سبب تخلفنا وتقدم غيرنا·