نمتطي عنقاء الهاجس، نقتفي خيط الروح، زوادتنا جمّار القلق ولحيظات هاربة من بنك الراحة·· نخلف وراءنا مدن المصالحة والسكون والقناعة والرضا، نسخرُ من زمهرير التعلّل، زعازع الظرف، كسل الشكوى، ثرثرة الوعود، هرج الاتفاقات وألوان المعيقات التي تملكها شطارة هذا، ودخان ذاك·· يمور فينا مرجل التحدي، ينفلتُ عقال اليقين، تضج في سخونة الجوانح ضرورة التعرف، ويشب عالياً حماس المخاطرة، خلاصاً مما يكبلُ أجنحة النفس، ينزل بالإرادة، ويعطل هبّات الفعل المجانب للوائح الواقع، الطامح أبداً لارتياد أصقاع الجديد الذي ينعش مزاج العين، يجدد ثوب الحياة، ويثري خزين التجربة، فنلكز ركاب الترحال جهة أقانيم المستحيل، حد اللذيذ الممتنع، جانب فضاء ''اللحظة'' المؤثث بالفتنة والبخور، بالعجيب والطلاسم والسحر··· تجذبنا تلاويح غوايتها، ومدمات وقعها، لمعان بروقها، همهمات تطوافها البعيد، جاذبية سحرها وموسيقى الجمال·· تقفز أبصارنا لتنزرع في قلاع رهبتها المهيبة ·· فنقترح الخيار·· لصق حدود مناجمها السرية نؤسس قرار الإقامة، وعليها ندمن الدوران·· تندفع الأذرع أغصاناً عطشى لأشراقاتها، تحاور جدران معابدها، تستجير بعيون مراصدها، تستنجد بفروسية حرسها، تقرع بواباتها·· وأمام ثلج التجاهل والعناد تعاود القرع مرات حدّ التماسك وأخرى حدّ الإعياء··· هاطرق إصرارنا يذوّب صخرة العناد، ها مردتها وبإشارة من طارق سباتها ملغزة وناعمة تجعلهم يغادرون كابح الموانع·· تُفتح بوابات قلعتها، فنفر إلى غياهب دهاليزها متوجين بغابة الأسئلة، تصالحنا مراكز الجاذبية، نسبحُ في الأبعاد الأثيرية لكوامن المجهول··· نستدعي كل ما في جعبتنا من ذخيرة التحمل والمجابهة ونزجها في ميدان التجربة، نُحاصر ما نبتكره، نمتحن جوهر حقيقته وفتوة صموده بحوار الحلم الجماعي، في تكرار الأعادات وتنوع أسبابها، نؤكده بالمعالجات المختلفة لزوايا النظر، بدوائر عمل لاّ تُمل، حتى تمنحنا ''اللحظة'' الكثير ممّا كنّا نحلمُ في الوصول إليه ·· نكتشف في أرض التجربة المسرحية مناطق شغل جديدة، غنية بالدلالات والمعاني، نحرزُ إجابات مهمة ومعارف فاعلة تزيد مشروعنا المسرحي قوة على قوة وتدفع بنا إلى إطلالات صعبة لتطوير آفاق السؤال المسرحي الذي نحن بصدد تفعيله ودعمه بفرضيات المؤثر والمثير··· إلا أننا وبسبب دفقة الفرح التي أهدتنا إيّاها نشوة التعرف، وللطاقة العظيمة التي فجرتها بنا عطاءات ''اللحظة'' صرنا نرفض التوقف، نخافه، بل أصبح الاستمرار مطلب هاجسنا، بتنا نريد أن نعرف كل شيء، وعن أي شيء، وهكذا مرة واحدة، نستعجل وِرد الحلول، كل الحلول ··· لكن هاتفاً من أعمق طبقات العمق يصرخ بنا أن نتمهل، أن نتشبث بمسلّة الصبر، أن نتروى، أن ندير أولاً عجلة فعل التدريب اليومي، وننثر بذور جرأة المجازفة، فقط المجازفة وتكرار إصرارها العنيد دون التفكير بما تصير أليه غلة النتائج ··· على عجل تلتقي شفاه الروح، على عجلٍ نطوي بيان الاتفاق، نظفرُ خصلات الخطة، ونحتمي بالظل الوارف لشجرة المعرفة··· المخاطرة··· عندئذٍ تشرُ شباك الفكرة، ويحلق في المدى طير السؤال··· يبدأ التشابك الجديد، تنطلق فصول المعركة المسرحية، صعود أشرعة المحاولة الطفلية والحوار المراهق، هبوب نسائم الحلم، وزمجرة اجتهاد الاختلاف، مد البناء الأول، ونشوة الإلغاء، قيام التجربة اليومية، متعة التدريب ''لحظة'' الرصد والتعلم والكشف وفرز حبيبات اللون··· هي ''لحظة'' بسرعة خطف البرق وانفلاتة الزئبق··· مسرحياً نقف جذاء حواف شطآنها عند مفترق السرية محصنين بشوق المخاطرة، خرسانة الإرادة، وقنديل الحقيقة··· يشدنا حفيف غواية الخطوة الأولى، ارتباك شاقول الزفير والشهيق، إرتجافة جرس الصوت، رهبة المجازفة وغمامة الوضوح··· هي ''لحظة'' يطارد فارس أحلامنا في ظل منعرجاتها المحدودة والهائلة السعة، سلامة امتداد الخيوط الذهبية، كي تتمكن مهارة أصابع المخيلة من صياغة سجادة التجربة وإضاءة ممرات الصورة المسرحية بتعاويذ المميز واللافت··· لكن عصا درويش التوق تلوح في خيمة الفضاء الذي يوحدنا، تهمسُ في عيوننا محذرة كي لا تغفل فنتيه، أو ننسى أن التعلق بلالئ الأمنية شيء، وعملية التحقّق من إدراك مكونات أسرارها شيء آخر··· فغالباً ما تكون ''اللحظة'' عكرة المزاج، عصيّة على مجاذبة الفهم والتحاور، لا يسرها إلحاح مقدمنا، يصدنا كهنتها ويوصدون بوابات الجديد أمام شعاع بحثنا المجتهد فتضيع محركات الطاقة التي أوقفت لنيل حصاد هذه المغامرة هباءً دون عائد، ويتهاوى برنامج الرحلة، وإصرار مكبرات الرؤيا عند أول مرسى، ومعها تذوب عزيمة المقاومة تحت الجَلْدِ القاسي لألسنة التعب والخسران والندم··· نغادر فضاء ''اللحظة'' والنفس سكرى، يقيم في مهجعها قنفذ الشك، أن هذه الجولة - الفرصة، التي أهدتها لنا أكفهّا السحرية ربما تكون هي الأخيرة، وأن الروح التواقة لسماء المثير لن تُغير بعنقاء الهاجس، نتورط بمعاودة الكرة، وتنطفئ المحاولة الكنز في تطوير آليات عمل التجربة المسرحية··· وفعلاً يُضاعف شوك الإحباط هذا من حبائل خدمه ليُطوق عموم ماكنة الجسد، ويتأرجح ميزان الإيقاع، فتهجرنا نعم الطعام والشراب، ويخاصمنا سلطان النوم والمتع البريئة، وتنسل خارجة من خاصرة إصرارنا رغبة البحث وشهية معانقة الجديد··· تحاول الروح المجهدة أن تريح كوّة مجالها الحيوي، أن تحطّ ركائبها، أن تنزع عنها طاقية المبادرة، أن تهادن موج ضفافها، وأن لا تنظر نجدات المد، أن تستسلم لوسادة التراخي وفراش المهادنة، وترتدي كوفية القناعة، تهدأ، تستقر - هل هدأت واستقرت - أن تصالح الهارموني، وترضى بما يجانس المتداول والنظير، وكل ما يصفق لحضوره أساطين الثرثرة ويهلل لإشاعته آلهة السوق··· ولكن ما أن تتكشف خطوط الملامح الأولى لصورة صباح ''اللحظة'' التالية، حتى يفزُ في حجرات الروح نداء آخر عذب التردد، خرافي الهمة، يُصر على تعجيل الضرب بمجذاف المخاطرة، وعصر تفاحة ''اللحظة'' أملاً في تذوق إكسير المعاكس والحتمي الذي يحقن الواقع المنحني بجنيات الرفض وعماليق التمرد، ويهز عروشه الخاملة الموافقة والمتفقة، الراغبة في هيمنة اليومي المحنطّ ودوام سدة الحال··· وتبدأ تشكل في خصوبة العناد ومنابت نجيمات الحلم، تأسيسات شابة لإيقاع مباغت، بشدته يضغط ويحرك موتور دواليب الدم، ويدفع بأجسادنا أن تلتصق بظهر عنقاء الهاجس ليشيعنا ثانية باتجاه فضاء ''اللحظة'' السر، يدخلنا هياج لجتها ويشرق الحوار، تصدنا، نثبتُ لها، تتمنع، نتدافع للقائها، تنفرُ منا ونُقبلُ عليها·· محاولات ضاغطة لا تعرف اليأس والوهن، تفرز حالات من الأقدام والإخفاق، لكنها - اللحظة - تتراجع ويلين قلبها أمام محبة عنادنا الذي لا يرتضي بغير فضة النجاح بديلاً، ونترجم مضامين تلك الاستجابة العرس بفراشات من الألوان والأنغام تحلق وتصدح في الأجواء أصوات تطرب لها الأسماع لا ندري من أي المدارات مقدمها، أوزان مبتكرة، وإيقاعات مغايرة ومتنوعة لمعمار فني وفتي، أعمدة من السحر، وعوالم من الدهشة البكر تطوق في الفضاء··· هكذا يتمدد جسد الفكرة فوق الهودج المترامي لسرير اللحظة، وهكذا نستنطقها، نجادل فيها أسرار التحديث وإكسير العافية، وهكذا ننطقها، وهكذا نقلب أوراق سفر الأفكار في امتداد فضائها، وهكذا تُطلق الأشياء حجبها، تنزع عن لمعان فتنتها صدأ قشور الأغلفة العتيقة لتتنفس نعيم الحرية وتفوز بجائزة النقاء، وهكذا تشمخ نخلة الإرادة، تخضر رقعة الفرضية، هكذا يكونُ الرائي، يلعبُ الممثل، يلمعُ المصمم والمزين، تعرش الحكاية، هكذا يضاء المشهد المسرحي بكامل بلاغة قوله، وإشعاع بصرياته، وهكذا تنهضُ مخاطرة العرض في رحم ''اللحظة'' تتألقُ جذوة الإبداع وتزهو منمنمات الرؤيا··· نعم، هي ''لحظة'' في عمر التجربة المسرحية اليومية ''التدريب''، ولكن داخل أجنتها تُختزن أزمان من المفاجئات، من الحيوات، من الأحداث الصادمة واللاتوقع، وكل ما يستفزُ جنون خيال المجرب الصبور، ويجعله من أجل أن ينزع عن روحه أقفال الرتابة والتردد يقذف بنفسه راضياً خارج حسابات العواقب والتحفظ·· في البدء، ندخل برزخها فقراء إلا من رنين قلقنا الشجاع، عراة من خرقة التوقع، أبرياء من طمأنينة المعرفة والمتكأ والمرجع، تنجرأُ متغازل نوافذها الزهرية المسورة، بحثاً عن ضوء المدهش في الفرضية، في التعبير والتكوين والتصويت والمعنى المخالف، عن لذّةِ المغارِق، عطشاً لإجابات شافية لما يعترضنا ويدوخنا من الأستفهامات العصية التي يختنق بها هذا الوجود، شوقاً لجوهرة الرؤيا ··· وبعد الإقامة المستقرّةِ في ربوعها - اللحظة - وسعادة المعايشة اليومية لكل جزئية من تفصيلاتها، والصبر الجميل على تقلبات مناخ مزاجها، بعد أن تنتعش الروح بزمزم شرابها، بجنان خيراتها في المكاشفة المستمرة الصريحة لجميع الحدد في الرأي والمحاورة اللاتهدأ، والتفحص المتأني لدقائق الأفكار وزوايا المقترح ومعايير التوصل التي تُنمي جسد الفرضية المسرحية، بعد أن تمنَ علينا بمفاتيح أسرارها - اللحظة - نغادر أسوارها وقد صرنا أصلب عوداً، أعظم ثقة، أرفع درجة، أهيب هيئة، أثرى تجربة وأوضح لوناً·· قد تغيرنا··· ولكننا أيضاً وبعد حين من الوقت تبدأ تتلبسنا مشاعر شتى، شيء من الفرح، من التباهي، من الهدوء والرضا، أن ما أُريدَ التفكير به قد تحقق، تمّ الاتفاق وانتهى، شيء من الزهو والامتنان بما أنجزنا، وبعد مضي فترة وجيزة نرى أن هناك أعداد من زواحف القناعة بكرّت تمد بأعناقها من خلل نوافذ التجربة، تشيع إيقاع الرتابة، وتكتم أنفاس الضوء، وأن عباءات من اليقين المراوغ تهبط فوقنا وتنتقل أكتاف الروح، وأعشاب ضارة ربحت لها منفلتاً لتقيم مهرجاناً تعيق فيه نعمة التحرك، وتجهض أي جديد، وطفق العادي والجاهز والمألوف بدخانه الأسود الكثيف يصول ويجول في ميدان التجربة اليومية، يفقدها طعمها ولونها الأصيل، أضحى سيداً مما أنعكس على مزاج الأخوة، حتى صاروا يتحركون ولا صورة، يصرخون ولا صوت، وبات هذا السيد الكابي يسرقهم من أنفسهم ويلغي أي معنىً لوجودهم، فقط الكآبة والإحباط وتقاطع التعليلات وتكرار التساؤل الساكن ومحاولة مالا يجدي··· هل الخلل فينا؟! ما الذي حصل؟! ما الذي تغير؟! ما بنا؟ هناك شيء ما، نعم هناك شيء·· لأنه وبحكم الصعود المتواتر لمؤشر دافعيه رغبات البحث، تكون الاكتشافات والإجابات عن الأسئلة التي تعنّ علينا، والتي ربحنا معركتها قبل أيام، قد أمست قديمة، قفزت متراجعة من ''الآن'' إلى ''الما قبل'' ونحن في ''اللحظة'' هذه أبناء ''الآن''··· وهكذا تكتمل عناصر دورة البحث في فضاء ''اللحظة'' المتاهة، فضاء التدريب، فضاء التجربة المسرحية اليومية المتجددة، - هل اكتملت؟؟؟! ولكن لا هدأة، ولا اكتفاء، ولا فرح في الاكتشاف - الإضافة، الاكتشاف - المنجز، بل قلق دائم، وتوق محموم يؤشر باتجاه الضفّة اللارقم لها، ضفّة قلاع الطلسم، ضفّة السؤال البكر، والاكتشاف البكر، الذي ما أن نشهد ولادته حتى يصير ماضياً، يصبح مدرَكاً، نألف لونه وصوته، نعتاد حضوره في جسد التجربة، وإذا أردنا أن نمتدحه نقول أنه لا يحرك أو يفعل، أو يذكر أو يُثير، وفي كل الأحوال ما هو إلا شيء عادي وحيادي افتقد أسرار الخصوصية وشمونة الجذب، فيضجر من نفسه لينطلق من رماد حريقه سؤال آخر عصي وجديد، يُشهر عدة تحدياته، يحيرنا، ويجبرنا أن نسرج عنقاء الهاجس ونشد رحال المخاطرة من جديد صوب فضاء ''اللحظة'' فضاء ''السحر'' متوجين بقناديل الحلم وغابات الأسئلة···