كنت وعدت القراء الأسبوع الماضي على التمادي في الدروشة والحديث عن بعبع ''القزانة'' الذي أصبح يمثل هاجسا عند الكثير من المواطنين قناعة وفضولا، لكن دب إليّ الخلف، وتدروشت الدروشة بعد رقصة مولوية على الطريقة التركية، التي يترقى بدورانها الفرد أو بالأحرى المريد من التعدد إلى التوحد، ومن التميع إلى التفرد، ومن المخالطة إلى عزلة لا كالعزلة، ومن التبدد إلى الاستجماع والصفاء، ومن مجموعة النقاط إلى النقطة والقطرة الواحدة، في مسلك البحث عن الحقيقة والسلام وتحقيق الذات كما أريد لها أن تكون في الإنسان .. ذلك العالم الأصغر الذي طوى العالم الأكبر واختصره، كما قال وحدث به أكثر من مرة صاحب الفتوحات المكية محي الدين بن عربي الحاتمي الطائي الأندلسي أصلا ومولدا، والشامي مرقدا برزخيا إلى حين. كيف لا نخلف ونحن لم نقطع الوعد، بل زاد عليه تجليات فرضتها محطات التزود بالمشاعر والأحاسيس، في مقاربة جليلة جميلة لمشاعر الصرخة الأولى ونحن نودع الأرحام، مشاعر الميلاد، وتحرير مساحة الأرض، والاشتراك مع باقي الموجودات في تنفس هواء هذا العالم وغيرها من الحاجات البيولوجية التي لا غنى للكائنات عنها مع صناعة فرق التميز بالتجلي الذي يصنع منا صناعا ويرقى بنا من التبعية الغوغائية ل ''العتروسية'' إلى المساهمة في ترك البصمات التي لا تمحوها سيول الفيضانات الفكرية، ولا حتى قوة طوفان جارف .. كيف لا نخلف العهد مع التخلف وتجليات تزامن صرخات الميلاد كما لم تتزامن من قبل، وإن كان تزامنها ''أجنداوي'' فإن العلاقة بين الصرخات .. صرخات الميلاد المتعددة والمتزامنة المقصودة كعلاقة الصرخة الأولى بالمولود أو علاقة المولود بالصرخة الأولى، أو بالأحرى كصرخة الصرخة التي تهندسها الوالدة وهي في لحظات الدفع لتذوب وتتلاشى فرحا ونشوة بعد ألم حين سماعها لصرخة المولود... كيف لا نخلف العهد والوعد الزائف الوقتي مع الموعد والمناسبة والذكرى التي تصنع وجودنا واستمرارنا من قبيل البقاء للأقوى والأدوم والأصح والراسخ كالجبال الراسيات ليذهب الزيف في حال سبيله كما يذهب الزبد كذا مرة في اليوم والليلة ... كيف لا نخلف الخلف وقد اجتمعت علينا اليوم ما لم يجتمع علينا بالأمس .. واليوم أولى بالأمس، وإن كان الأمس حمّال مبشرات اليوم والغد ... لأنه وببساطة رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه نتوقف اليوم لنستمر، ونستذكر لنعتبر، ونتزود لتحقيق الأمل كما حققوه أول مرة اليوم نتوقف .. نحتفل .. نستذكر .. نتأمل .. نستشعر .. نتحسس .. نتلمس صرخة بل صرخات ميلاد عيد النصر بعد سبع سنوات من الألم وشلالات الدماء والدموع التي انسابت وهي تروم تحرير الأرض والعرض، تحرير الإنسان والهوية التي عاثت فيها فرنسا الاستعمارية فسادا لا يضاهيه إلا فساد الشيطان، وقد أخذ الشيطان الأكبر من الشيطان اّلأصغر، وقديما قيل يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر.. فيوجد عند الشيطان الأصغر ''فرنسا الاستعمارية'' ما لا يوجد في البحر ''شيطان الشياطنة'' الوارد ذكره في الكتب المقدسة اليوم نستذكر صرخة آلام ولادة نصر جزائر الثورة .. جزائر نوميديا .. جزائر الأمير عبد القادر .. جزائر لالاة فاطمة نسومر والمقراني والشيخ الحداد وبن بولعيد وبن مهيدي وعميروش وسي الحواس وغيرهم .. هذا النصر الذي أذاب سنين العذاب وحول لهيب نيران 132 سنة من المسخ والفسخ على رواية المفكر المرحوم مولود قاسم نايت بلقاسم بردا وسلاما ونشوة وفرحا بعد صرخة النصر المدوية ذات التاسع عشر مارس قبل قرابة الخمسين سنة بعد مفاوضات عسيرة مع المستعمر الغاشم... صرخة ذاهبة وأخرى قادمة .. صرخة ألم ..فصرخة نشوة وفرح اجتمعتا اليوم وقد عزم أهل جريدة ''الحوار'' على ربط الصرخة بالصرخة، والألم بالنشوة .. ألم التاريخ وعبق الماضي المرير بنشوة البناء والتشييد وصناعة مستقبل فاضل فقرر ثلتهم رفح التحدي وتعزيز الساحة الإعلامية بمولود يحمل كل معاني الصرخة تحت عنوان ''الحوار'' .. صرخة آلام مخاض انبعاث أمة وصرخة فرح ونشوة بالانبعاث والاستمرار على نفس الدرب .. درب أهل الفضل في الصرخة الأولى .. صرخة 19 مارس 1962 .. سنفونية رائعة صنعها الشهداء والمجاهدون ممن بقوا على قيد الحياة أمدهم الله بطولها مع دوام الصحة والعافية .. وفي رمزية الصرخة وموعدها تتضح الرؤية ويتبين المنهج .. منهج جريدة ''الحوار'' بعد سنتين من الوجود والثبات .. فلا داعي للصراخ. وفي هذا المقام جدير بنا التنويه في إطار جغرافيا الرمزية وصرخات الميلاد والانبعاث على تلك التوافقية من خلال تزامن انطلاق الحملة الانتخابية لرابع رئاسيات تعددية في تاريخ الجزائر المستقلة مع هذا الموعد، والذي يحمل أكثر من دلالة .. دلالة التاريخ والجغرافيا .. دلالة الوطن والهوية .. دلالة البناء والتشييد عبر بوابة الاستقرار والأمن والأمان .. فلا داعي للصراخ مرة أخرى وأخرى وأخرى.