عندما هممت بالكتابة عن المرحوم عبد القادر جغلول (64 سنة) بدأت بفتح أول كتاب من كتبه، كنت قد اقتنيه منذ أكثر من ربع قرن ''مقدمات في تاريخ المغرب العربي القديم والوسيط''، فوجدت أنني كتبت على الصفحة الأولى للكتاب مثلا عربيا يقول:''يؤتى الحذر من مأمنه''، فرحت أستذكر سبب كتابتي لهذا المثل، فلم تسعفني الذاكرة؛ ثم أسرع إلى ذهني السؤال التالي: يا ترى هل للرجل صلة فكرية ما ببعض أبناء جلدتنا الذين ساهموا بقسط وافر في الإخلال بأمننا الثقافي، وحاولوا اجتثاث جذور بلدنا، أو استئصال مقومات هويتنا، فيصح عليه هذا المثل؟ وبعد تفكير وتدبر، تأكد لديّ وبما لا يدع مجالا للشك، بأن المرحوم، بإذنه تعالى، ليس من هذا الطراز، وهو بعيد عن هذه التهمة، فهو ليس ممن يتنكر لهويته، ويطعن في خصوصيات بلده التاريخية والثقافية، فهو الذي نذر نفسه لاعتراض مقولات الاستعمار وأكاذيبه، ومواجهة إدعاءات تيار التغريب وأراجيفه· إن معرفتي القصيرة بالرجل، واطلاعي المتواضع على إرثه العلمي، رغم الاختلاف الهين مع بعض مقارباته النظرية، يدفعني لتأكيد ما عهدته فيه من تفان للذود عن الهوية الوطنية، وتصحيح ما أفسد المؤرخون الغربيون، ومن سار سيرهم؛ فقد نافح عبد القادر عن كل ''جزء'' من عناصر هويتنا، متسلحا بعلمه الغزير، ودماثة خلقه، وصدق توجه، وقوة انتمائه، وصلابة عزمه· معترك التاريخ: كان تاريخ الجزائر الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي بالنسبة لعبد القادر جغلول أهم ساحة قارع فيها أعداء الجزائر وبارزهم علميا وأخلاقيا؛ فقد جال وصال في ربوعه على مدار ثلاث آلاف سنة ممتطيا فكره الثاقب وتحقيقاته الرصينة، مفندا ورادا للهجمات ''الأكاديمية'' الغربية، التي نجحت في تمرير الكثير من الأخطاء، ودس الأكاذيب، فمزقت خطوط وتفاصيل الذاكرة الجزائرية، وقطعت أوصالها وسلاسلها الزمنية، وفتتت بنيتها ووحداتها الموضوعية، وتلاعبت بعناصرها وأحداثها وشخوصها· وفي الوقت الذي كان يردّ هذه المغالطات كان يسعى من أجل إبراز خصائص هذه المنطقة وتأكيد الحقيقة التاريخية والاجتماعية التي مؤداها أن هذه المنطقة إمتلكت (وتمتلك) قدرات ذاتية وديناميكيات داخلية ساهمت في تطورها عبر التاريخ، وشكلت أهم سماتها، وأكسبتها روح التحرر وحب الاستقلال· وكان من ثمار هذه المجهود العلمي تأسيس مرجعية علمية، وتقديم مادة موثقة وموثوقة للطلبة والباحثين، استطاع بفضلها رأب الصدوع وتجاوز القطائع، وإعادة بناء صلة الأجيال الراهنة بماضيها العريق بانسجام وتناغم· لقد نذر عبد القادر جغلول جهوده للكشف عن طبيعة مجتمعات المغرب العربي التي رحبت بطريقتها الخاصة بالاندماج الثقافي والسياسي والاقتصادي في العالم الإسلامي مع محافظتها الحازمة على استقلالها؛ وعلى نحو فريد مكنّها من تمثّل الدين الإسلامي في أبهى صوره، ولعب أدوار بارزة في نشر تعاليم هذا الدين في ربوع أوروبا· بل أنها استطاعت، كما يقول جغلول، تأسيس نظام سياسي قادر على تجاوز إطار القبيلة، مكذبا بذلك الكتابات التاريخية المعادية، التي تنكر وجود نظام Ordre، وتتحدث عن فوضى Désordre، فهي ترى في التاريخ السياسي للمغرب مجرد ''تعاقب طويل لصراعات غامضة بين القبائل التي أعاقت إقامة حكم سياسي تابع للدولة'' متغافلة بذلك عن حقيقة ظهور مملكات وإمبراطوريات خلال هذه الحقبة، ووجود إقليم متجانس؛ فوجود قبائل متمردة ورافضة لدفع الضرائب لا يمكن أن يحجب حقيقة ظهور تنظيم سياسي راسخ· وكما نجح في دحض الأطروحة الاستعمارية ناقش أيضا وبدقة منقطعة النظير الأطروحات الماركسية التي تناولت التكوينات الاجتماعية قبل التغلغل الاستعماري، فلم يتعجل في حسم الجدل أو اختيار الحل الأيسر بالاصطفاف إلى جانب نمط بعينه· فقد واجه الأطروحات بعضها ببعض (أطروحتي غاليسو وفالنسي) فأظهر الطرح المؤسس، وبيّن ضعف غيره، وميّز الصحيح من الخطأ؛ واستخرج ما يمكن أن يثبت أمام النقد العلمي، وما تسنده حقائق التاريخ· كان هذا بعض ديدنه في التحليل وهذه طريقته في الاستقصاء، فوفق في تقديم الكثير من الدراسات الجادة، والأعمال التي سدت فراغا هائلا في مكتبنا، وردمت بعض ثقوب الذاكرة· المعترك الثقافي: تناول المرحوم جملة من القضايا الثقافية الوطنية، كما تناول العديد من التراجم والسير لبعض الشخصيات الثقافية الجزائرية البارزة، مجليا إسهاماتها ومواقفها، ومبرزا بعض الجوانب التي لم تسلط عليها الأضواء؛ فكانت أعماله بحق إضافة هامة للمكتبة الجزائرية، ومراجع لا يستغني عنها المهتمون بالتاريخ الثقافي الجزائري، فضلا عن كونها تمثل أيضا أحد أبرز الإسهامات في مجال الثقافة السياسية في الجزائر· ويجدر التذكير بأن معايشة المرحوم للكثير من المثقفين والأدباء الكبار ورجال القانون والسياسة، كذا التحول في مساره المهني وتعدد أنشطته الثقافية وانتقاله للعمل بالخارج، قد أثرى تجربته الشخصية والعلمية، وزاده ثباتا على مواقفه الوطنية الحاسمة، وجعله يرسم أهدافا خاصة لكل مرحلة من حياته· فبعدما قدم لجمهوره الجزائري كتاباته الأولى (''ثلاث دراسات حول ابن خلدون'' 1984، و''عناصر من تاريخ الجزائر الثقافي'' 1984، و''ثماني دراسات عن الجزائر'' 1986)، وجّه كتاباته الثانية (فيما بين 1985 و1997) إلى الجمهور الفرنسي والجمهور الجزائري المقيم بالخارج، ملتزما بخطه المعهود وتوجهه الفكري الراسخ، بل الأكثر من ذلك، فإن الفترة التي قضاها بالخارج شحنت أسلحته باليقظة المعرفية وضاعفت من حسه النقدي· أستطيع أن أقول من خلال معايشتي القصيرة له منذ 2004، أن أحداث الجزائر الكبرى (1988 وما بعد جوان 1991) قد أثرت كثيرا عليه، أكثر مما عاناه وتعرض له من ضغوط مهنية وتصرفات سلبية، ومما أذكره أنه نصحني بتجنب الصدام في مؤسسات لا تحفل بمثقفيها، ولا زلت أذكر نصيحته الثمينة بعد أن دفعت فاتورة صحية باهظة· أثناء لقاءاتنا المتعددة كنت أستشعر المرارة في حديثه، خاصة عند حديثه عن معاناته من بعض المثقفين والجامعيين، فظلم ذوي القربى أشد وأنكأ، وقد لاحظت أيضا أثناء ذلك قلقه الكبير على صحته، من أجل زوجته الطيبة، التي التقيت بها في عشاء ودي ضم القانوني الشهير جاك فيرجيس، وابنته سيمون والتي هي إبنة المجاهدة جميلة بوحيرد أيضا· وبمناسبة قلقه على مرضه، أتذكر بأن أحد الأطباء مّر بنا، فقلت لجغلول هذا الطبيب يمارس العلاج بالإبر الصينية، وانتقدت هذا العلاج لأننا لا يمكن أن نتحقق منه Non vérifiable، فقال لي لعله أفضل من العلاج الأكاديمي، فطلب مني أن أنادي الطبيب، فناديته وتحدثا معا طويلا، ثم بدأ بقياس نبضه بإبهامه، وبعد برهة من الزمن أخبره بأنه يعاني من مرض في قلبه، ومن إصابة في ركبته أو رجله، فأكد جغلول تشخيص فتعجبت من ذلك، واتفقنا على أن يجري له جلسة علاج بالإبر الصينية، فكان له ذلك، وقد شعر بتحسن على حد قوله؛ وكان دائم السؤال عن أحوال هذا الطبيب· وأثناء لقائنا في مدينة بسكرة إتفقنا على القيام بمشروع علمي وعملي حول الطفولة في الجزائر تحت رعاية اليونسيف، وهو مشروع طموح وضع المرحوم مخططه بنفسه وسطّر أهدافه· ولا زلت أحتفظ لحد الآن بكل ما خطه بيده· وقد نجحنا في تشكيل فريق من الباحثين ضمّ صديقي معتوق جمال بروفيسور في علم الاجتماع من جامعة البليدة، والدكتورة ناصر فريدة التي تشتغل في الوقت الراهن بجامعة بجاية، وطبيبة إسمها نادية غرينيه Nadia Grinet· ولكن أخبار عبد القادر انقطعت فيما بعد، فعلمت أنه أصبح مستشارا للسيد رئيس الجمهورية، فجددنا الاتصال مرة أخرى، وزرته في مقر عمله، فوجدته كما عرفته، من هؤلاء الذين تتشرف بهم المناصب· لا مساومة في قضية الهوية والانتماء: كان المرحوم عبد القادر يؤمن بمنظومة ثقافية جزائرية واحدة موحدة، ولم يكن أبدا مع الطرح الذي يرافع لصالح بُعدٍ محدّدٍ من أبعاد الهوية، ويتغافل أو يُقصي الأبعاد الأخرى· كان يؤمن بأن الجزائر بحاجة لكل أبنائها، وأنها تسع الجميع على تعدد جهاتهم، وعلى تنوع مشاربهم، واختلاف أطيافهم· فدور المثقف كما يقول هو الدفاع عن عناصر هويتنا دون إقصاء أو تهميش، وكذا العمل من أجل إثراء وترقية هذه العناصر بما يتناغم وأصالتنا، وبما يتلاءم مع متطلبات العصر· وفي الوقت الذي كان فيه عبد القادر يدحض الأكاذيب التي سعت لطمس الحقائق التاريخية والثقافية للبلاد كان أيضا يواجه كل من يتهجم أو يستهدف أحد عناصر الهوية: فهو لم يكن يعيش حالة انفصال بين نشاطه العلمي والتزام الوطني، وهذا ما نستشفه من رسائله التي ذكر فيها فضل الكتاب والساسة ومجد أعمالهم، ووجه بعض النصائح والانتقادات اللبقة لبعضهم، والحادة أحيانا لمن يتلاعب بانتمائنا الأمازيغي والعربي والإسلامي· ففي إحدى رسائله، وبعد أن سجل إعجابه بسعيد سعدي، عاب عليه رؤيته الاقصائية، وارتماءه الساذج في أحضان الأيديولوجية الفرنسية، وتحامله على التوجه الإسلامي لبعض الأحزاب الجزائرية، واتهامه للإسلام بالنازية، فنصحه بالتعقل والحكمة، وقدم له درسا عظيما في حب الوطن وحب ''أبناء الوطن''، وبرهن له (ولغيره) بأن قلبه الكبير يسع جميع أبناء هذا الوطن·وفي الأخير دعاه إلى التعامل مع منْ أخطأ في حق الجزائر على أنه إبن من أبناء الجزائر أضلّ الطريق، وركب موجه الإرهاب· ثم يختم قوله، بهذه الكلمات المعبرة، بالدعوة إلى ألا نهمش هؤلاء أو نقصيهم، بل يجب أن نردّهم إلى سواء السبيل؛ ولكن إذا ما سبقنا القدر إليهم، فعلينا أن نحضر جنازاتهم ونتلو على قبورهم بعض الآيات من القرآن الكريم، فما أحوجنا لهؤلاء الرجال ·· هؤلاء الآباء ·· هؤلاء من يجب أن نحفل بهم، ونرسخ ذكراهم في العقول والقلوب·