الغرب يدعو لتدريس تاريخ الهولوكوست لعدم تكرار التجارب المخزية··· وإسرائيل تواصل الإبادة الجماعية على مرأى ومسمع العالم يتزايد الحديث يوما بعد يوم عن الحصار المفروض على غزة من طرف الكيان الصهيوني، بين حديث النشرات الإخبارية عن تبعات الحصار وحديث المنظمات الدولية عن ضرورة رفع الحصار وكلام الساسة المناور، هي مجرد كلمات لا ترقى لوصف المعاناة الي يعيشها أكثر من مليون ونصف مليون شخص، أشخاص لا ينجح الإعلام في تقريبهم من الرأي العام العالمي، على اعتبار أنه حديث يخوض في العموميات، وإن دقق في التفاصيل، فتكون تفاصيل الاستراتيجية السياسية والكلام الكبير في المصالح الإقليمية والصراعات الدولية· حديث يتجاهل معاناة الناس، تلك الأسماء المختزلة جزافا خلف تسمية الغزاويين· فالحديث عن معاناة سكان غزة قد لا يعني لنا شيئا مادام أنه ليس مقرونا بأسماء أشخاص محددين، وجوه لها أحلام، طموح حياة تمضي كل يوم بحثا عن أشلاء آمال تعيش عليها· قبل الترحال نحو القطاع المحاصر لم تكن نظرتنا للحصار والمحاصرين تختلف كثيرا عن الرأي العام الجزائري، حيث يستقي معلوماته من الإعلام العالمي، هذا الاعلام الذي يردد ما اتفق البعض على تسويقه كل على حسب توجه سياسته، فالإعلام الغربي ومعه بعض الدول العربية يسوّق لفكرة الحصار بعد قيام حركة حماس باختطاف الجندي الإسرائيلي جيلعاد شاليط، في حين أن الطرف الآخر يروج لفكرة الغطرسة الصهيونية المنتقمة من شعب بريء· بين هذه الطروحات، تبقى حقيقة واحدة لا يمكن لأي كان التغاضي عنها، حقيقة اللاعدل الدولي أمام ما يحدث للغزاويين منذ أكثر من ثلاث سنوات، والواقع أن المفردات اللغوية تسقط أمام ما يعيشه الغزاويين، فلا المعاناة تؤدي المعنى ولا البؤس يقترب من الوضع المعيشي، تماما كما تعجز كلمة الصمود عن التعبير على قدرة الغزاويين على التعامل مع الأوضاع الاستثنائية التي يعيشونها، أيوب نفسه قد يشهد لهم بالقدرة على الصبر. غزة لمن لا يعرفها مدينة ساحلية صغيرة، قد نلجأ لتشبيهها بأي مدينة ساحلية بالجزائر، لتقريب الصورة، مدينة جميلة بتواضع، ليست بحاجة لكثير من البهرج لإبراز جمالها الطبيعي، أول ما يشدك امتزاج الألوان بين اخضرار وزرقة البحر· قد لا تشعر بأن المدينة المكونة من خمس محافظات هي: رفح، خان يونس، دير البلح، غزة وجباليا تعاني من ظروف استثنائية، فبالرغم من الحصار إلا أن عزة نفس أهل غزة تمنعهم من التسليم في الحياة والرضوخ للأمر الواقع· على عكس الاعتقاد الذي كان في مخيلتنا والصورة السوداوية التي رسمناها وجدنا مدينة تسعى جاهدة للحفاظ على جمالها الطبيعي، وأنت تدخل غزة تلاحظ العربات المجرورة بأحصنة بين الأزقة الضيقة، أو كما يسميها الغزاويون بالكارو، يعمل أصحابها على تنظيف الطرقات ونقل النفايات لخارج المدينة· كما لا يمكنك أن تغفل الكم الكبير من الكتابات الحائطية لدرجة يخيل لك أنك دخلت مدينة تقيم منافسة للخط العربي أو لأجمل العبارات· فلا يكاد يخلو حائط بغزة من عبارات توحي لك عن شيء من انتماء صاحبها، فإما عبارات مساندة للمقاومة، أو أدعية أو آيات قرآنية· هي هكذا غزة تسعى للحفاظ على كرامتها، غير أن صورة الإكتشاف الأول تأخذ في التغير كلما تعمقت الزيارة وفسحت مجالا للحديث مع السكان، الغزاويين الذين طال الحديث عنهم دون سماعهم· الحديث مع عامة الغزاويين يكشف أن كل المحاولات الصادقة للإبقاء على خفقان الحياة نابضا تزداد صعوبة يوما بعد يوم، ''أم حسن'' واحدة ممن تحدثنا إليها وهي جالسة على عتبة بيتها تنظر للمارة، أول ما تدرك أنك أجنبي تسأل إن كنت مسلما وعربيا لتبدأ بعدها الحديث، مشيرة إلى ضرورة إسماع صوت الغزاويين في العالم، بالرغم من سنها المتجاوز العقد السادس تدرك بفطرة ما أن تنديدات الساسة تظل مجرد سياسة: ''إحنا منسيين والعالم على كثر ما يحكي عنا بس ما في شي إتعمل، بنظل نعاني ولا حدا وقف الظلم· إسرائيل تسكر الحدود والعالم بيتفرج علينا صرنا مثل الحيوان بالقفص الكل يجي يتفرج ويروح صارلنا ثلاث سنين على هاي الحال''· ''أم حسن'' التي تجلس على عتبة منزلها لا لسبب سوى أن ما تبقى من المنزل يشهد تصدعات جعلت من البقاء بالداخل مثل الجلوس بالشارع، فهو مكشوف على العراء على إثر الدمار الذي لحق به بفعل الغارات الجوية التي شنتها إسرائيل في العدوان على القطاع· والمثير أن حال ''أم حسن'' يكاد يكون حال كل البيوت والعمران بغزة، فقد تعذر إعادة البناء أو الترميم بعدما منعت إسرائيل دخول أي أنواع مواد البناء للقطاع· هذه الوضعية جعلت السلطات المحلية تعمد لخلق أساليب جديدة في محاولة لإعادة الإعمار أو على الأقل محاولة تدبير أمر الحطام المتراكم من الهدم الشامل الذي لحق بجزء كبير من المدينة· فقد وجدت السلطات الحل في إعادة تدوير الحطام من خلال شحنه نحو ورشات تقوم بتصفيته من خلال استرجاع الحديد، الرمل والصخر والعمل على إعادة استعماله في عمليات الترميم· بهذا الخصوص يشير القائمون على العمران في غزة إلى أن المدينة في حاجة لأكثر من مليون طن من الإسمنت لإعادة ترميم البنايات المهدمة، في الوقت الذي يستمر منع دخول ولو كيلوغرام من الإسمنت· ويبقى الحديث عن الضرر العمراني والدمار لا يكشف حقيقة المعاناة الإنسانية التي يعيشها السكن، معاناة قد تتضح معالمها من خلال الحديث عن اعتماد أكثر من 80 % من السكان في حياتهم اليومية على المساعدات المقدمة من طرف المنظمات الدولية، بهذا الخصوص تقول أم حسن: ''بين الفترة والأخرى يتم منحنا كميات من المواد الغذائية الجافة التي يترض فيها أنها تكفينا لمدة محددة على اعتبار أن التوزيع يتم بشكل دوري ووفقا لقائمة محددة''، مع ضرورة الإشارة إلى أن المحلات في غزة لا تخلو من البضائع، فهي لا تختلف كثيرا عن أي محلات بأي مدينة عربية تعج بالبضائع من كل نوع، والحال أن اقتصاد الأنفاق بات يضمن تمويل القطاع بكل ما يلزم من المنتوجات بدءا من الماء، البنزين وصولا لمنتوجات كمالية من قبيل المايونيز· لا شيء ينقص بعدما تحولت الأنفاق العديدة لشريان الاقتصاد، غير أن الإشكال الحقيقي في القطاع لا يكمن في غياب البضائع، وإنما في قلة الموارد المالية لتوفير ما يلزم الأسر والعائلات التي باتت تعيش حالة من الفقر المدقع ما لا يسمح لها باقتناء الضروريات بالمال، والإكتفاء بما يتم توزيعه· فالبطالة من أخطر ما يعاني منه القطاع، بعد تعطيل الحصار دخول المواد الأولية لكثير من الصناعات المحلية اضطرت المصانع لغلق أبوابها، أكثر من نصف سكان غزة من الرجال يعيشون حالة من البطالة· وبالرغم من ذلك، فإن هناك من يستمر في مقاومة الظروف القاهرة من خلال التوجه للزراعة وتوفير بعض أنواع المواد الأولية التي تقوم عليها بعض الصناعات الغذائية، إلا أنها تظل محدودة لا يمكنها فك الخناق المطوق على السكان· من الذين وجدوا في الأرض مصدرا للعيش جيران أم حسن، في مقدمتهم جابر، كهل في الأربعينيات من عمره يبدو لك لأول وهلة وكأنه قارب العقد السادس من عمره، يعاني من أمراض مختلفة إلا أنه يضطر للعمل لإعالة ليس فقط عائلته وإنما عائلة أخيه الأصغر القابع بالسجن في إسرائيل· الغريب أنه بالرغم من العوز والظروف القاسية إلا أن الكرم والشهامة شيم لا يمكن التفريط فيها بالنسبة للغزاويين، حيث تقول أم حسن أن جابر يتقاسم معها ما تجلبه له الأرض ليرد عليها في تواضع أنه أقل ما يمكن أن يقدم لوالدة الشهداء· فالجدير بالذكر أن أم حسن فقدت إبنيها، الأكبر لأنه انضم للمقاومة والثاني بعد قصف جوي على المنزل، بهذا الخصوص يقول جابر: ''أم حسن وغيرها الكثيرات من عائلات الشهداء لا يمكنهن العيش على المساعدات فقط، سيما بعد غياب الرجال عن الأسرة، حيث كثيرا ما تبقى الأسر دون معيل، وعليه نقوم بمساعدة بعضنا البعض، بصراحة ليس فضلا منا وإنما لأنه واجب لا يمكننا التهرب منه، أبناؤها قدموا حياتهم دفاعا عن الأرض''· بهذا المبدأ يستمر أهل غزة في مساعدة بعضهم البعض والمضي قدما في الحياة بالرغم من الحصار· أما إن حدثت جابر عن أهمية الأنفاق فيؤكد لك أنها مهمة غير أنها لا تجدي نفعا ما لم يتوفر المال: ''من أين لي بالمال، كل ما أجنيه من بيع بعض الخضار أسدد به الفواتير وحاجيات الأطفال المدرسية وغيرها من المصاريف، لا يمكنني الحصول على المال أنا أعمل من أجل توفير اللقمة فقط لا غير''· جابر أب لستة أطفال ويعيل خمسة من أبناء شقيقه وأمهم، أكبر أبنائه لم يبلغ الخامس عشر من العمر، مهمة شاقة على من يعاني من أمراض مزمنة· وبالحديث عن المرض، فإن البؤس كله تلمسه وأنت تشاهد وضعية المستشفيات، التي تستمر في العمل وفقا للحد الأدنى من الخدمات بعدما بات من المستحيل إجراء عمليات جراحية بفعل تعطل الأجهزة الطبية وغياب الأدوية اللازمة، دون الحديث عن غياب الكوادر والإطارات الطبية اللازمة· لكم أن تتصوروا الصبر على الألم مع الإدراك أنه ما من سبب يحول دون الحصول على العلاج سوى الحصار الرافض لدخول معدات طبية· هي معاناة تتجاوز مفهوم الكلمات· قبل سنوات كتب فيلسوف فرنسي هو أوجين يونيسكو يصف الحالة الخطيرة التي بلغتها الإنسانية اللامبالية ازاء ما يحدث من حروب بقوله: يستمر التقتيل خلف الأشجار الجانبية في الوقت الذي يواصل فيه المارة بالهرولة على الطريق الكبير دون سماع الصراخ، والحال أن غزة تواصل الصراخ دون أن يسمع العالم نداءها بالرغم من دق أجراس الخطر وقرع ناقوس الموت، يستمر العالم في التغاضي عن الإبادة الجماعية الصامتة، ولسخرية الأقدار يستمر البعض في المطالبة بتدريس تاريخ الهولوكوست لاستخلاص العبر وتفادي تكرار التجارب المخزية.