عصارة الفكر الإنساني العميق المتنوعة تياراته الفكرية والعقلية المندمجة، مشوار تاريخ من الحضارة الفارسية الزاخرة بأدب وزندقة إلى فلسفة اليونان وسفسطتهم، إلى تشريعات الرومان وقوانينهم إلى نسك الهند ورهبانية المسيحية إلى حكمة الصينيين إلى الحضارة الإسلامية التي لم تنازعها على سيادتها أي حضارة وقت ما دمجت كل هذه الحضارات مجتمعة وقبل أن يصيبها الضعف والعبودية والانحلال لتنزوي في جحور التخلف والضياع اللذين تعرضت لهما وتقيدت بنفس القيود التي قيدتها وجمدتها· الكتابة محاورها كثيرة، ألوانها متعددة، لا تقتصر على فن دون غيره فهي جامعة العقل والروح معا، هي الكل المتكامل· ما يهمنا هو الكتابة الإبداعية والأدبية والفكرية بزخمها السياسي واللا سياسي، الإيديولوجي أو حيادها المدافع على قيم الإنسان· الكتابة الزاخرة بتجددها أو حتى المنغلقة على ذاتها، المنفتحة على العالم أو المنطوية على نفسها وفي حدودها· الكتابة في التاريخ الإنساني كانت ولا زالت رهينة الصراعات لأنها تحمل أفكار وآراء أصحابها، فهي تمثل الكاتب، والكاتب قد يكون سياسيا أو أميرا أو خادم الملك أو ديكتاتورا أو قائدا أو صعلوكا أو طيارا أو كاهنا أو مجنونا، أو سجينا أو جلادا ··· هي في النهاية جسره، دين وثوابت واعتقاد وفلسفة وعلم وحروب وأمن وسلطة وشهوة وأنانية أيضا· لم تكن الكتابة في التاريخ الإسلامي والعربي بمنأى عن هذه المعضلة، فلقد استعانت الفرق و الشيع بالخلفاء لنصرة آرائها الفكرية والسياسية في أغلب الأحيان وفرضتها بالقوة على خصومها إلى ويلات ونكسات لازمتها من العهد العباسي إلى اليوم· لقد نصر الخليفة المأمون والواثق فرقة المعتزلة على حساب أهل السنة ثم تحول الدعم سنيا في عهد المتوكل ثم علويا شيعيا في عهد آل بويه والأمر حدث نفسه في مشارق العالم الإسلامي والعربي ومغاربه· سادت الاضطرابات وتداخلت الأحداث الرسمية من يومها إلى حاضرنا؛ الشيوعيين على حساب الليبراليين والليبراليين على حساب القوميين وتحالف الدينين في وجه العلمانيين والأحداث تصنع الصراع ولا شك· وحدها تبقى الكتابة لأن الصراع باق، تبقى بعفويتها وبشدتها، بمكر أصحابها وبطهارتهم، بمكرهم وخديعتهم، بصفاء قلوبهم ونقائها، ببهيمة غرائزهم وحواسهم وبملائكية روحهم ونورها· ما الكتابة التي نريدها في وقتنا هذا؟ ما هي أسسها ووسائلها وأهدافها؟ عدميتها ولا مبالاة المجتمع العربي والإسلامي بها؟ تراجع الكتاب الإبداعيوالفكري والفلسفي ومعطيات راهن الكتاب الديني والسياسي؟ كتابة المتأزم والجاهز؟ الكتابة المأزق؟ كيف نحقق وجودنا في ظل الرداءة وتغليب قمع الحريات والقهر والعنف والإكراه؟ هناك خصائص مميزة لكل أنواع الكتابة ويقرّ بها الجميع· 1- حرية التعبير: ولأن الكتابة حرية اختيار وقسمة مشتركة بين الكتّاب جميعا ملتزمين وغير ملتزمين على رأي جون بول سارتر، فإن التكافؤ في الفرص فيما بينهم في المنبر والوسيلة الإعلامية واجب، تحقيقا لمبدأ المساواة الذي نادت به الأديان و الأعراف و القوانين· لا تُمنعُ الحرية لأجل الجنس واللون والمكانة الاجتماعية والعرق والتمييز الطائفي، لا يجب أن تُمنع الحرية لأجل المعارضة ضد سياسة نظام ما قائم أو لانحرافات دينية خطيرة أو لوقوف في وجه ظلم وانتهاك لشرعية ما· أو تنديدا بجور وظلم واستبداد· يجب أن يكون الكتّاب سواسية أمام الدولة والمعارضة، معارضين كانوا أو موالين، دعاة دين أو دعاة فلسفة وأفكار· الحق في التعبير للغني صاحب القوة والسلطة كما للفقير فاقد الوسيلة الإعلامية وفاقد الحماية ''··· الجميع سواء في طلب العلم وفي المعاملة والاهتمام''، كما ذهب إلى ذلك أبو حامد الغزالي· إن الإقصاء والتهميش والعناية بفئة دون غيرها إهانة للعقل والذكاء وللإبداع، فمن الظلم حرمان كاتب معارض أو فيلسوف أو مفكر من قول الذي يعتقده وينتقده ويراه تجاوزا في حقه وحق الآخرين الصامتين· فقد يكون الصمت لغة رفض أيضا عند سارتر وليس خيانة· حرية التعبير حق لكل كاتب وليست ممنوحة فقط لمن يملك الشرف والحصانة ومتوغل في دواليب السلطة أو حليفا لجهة ما تملك قوة المال والإعلام والتأثير· ولقد أثبت التاريخ أن الكتابات الخالدة هي التي وقع عليها الإقصاء والظلم وأبعدت عن واقع الشعب، فاستمدت خلودها مما منعت منه؛ منعت حرية رؤية الآخرين وقراءتهم لسبب أنها تنبّئ بما ليس في زمانها أو تعالج المتستر عنه أو تنبه لخطر سحر ممارس على العقول والقلوب فصارت في قاعدة كل ما هو ممنوع مرغوب هو انتصار للرأي· 2- الالتزام: أن يتمسك الكاتب بآرائه و يدافع عنها بكل وسيلة ولا يتنازل عنها ولو كلفته حياته هذا لا يبدو غريبا لأن الكتابة جزء من ذات صاحبها· أكّد مارتن هايدغر مند مدة على أن الاهتمام بالكتابة كالتزام وجودي بالأنا والآخر اللذان هما مشروعان مؤجلان وسط المعرفة· يقول الدكتور شايف عكاشة: ''الحرية لا تتناقض مع الالتزام القائم على أسس الوعي ··· لأن الحرية التي يطالب بها الأديب لا تتوقف عند حرية الفكر والتعبير وإنما هي تمتد إلى الحرية الاجتماعية بكل صورها وأبعادها· وكما قال فريديريك هيغل''··· ما دامت الحقيقة هي الكل اللامتناهي الذي ننهد إليه و هي الحياة في شمولها الذي يحاول سبر أعماقها كل فكر لو عرفنا الحقيقة الكاملة انتهت أهدافنا لذا يظهر عجزنا عن ماهيتها بهذا الكل اللامتناهي''· ولذلك فالالتزام جزء من واقعية ذاتنا، هو حامل أمانة العقل والمعرفة بجسد ضعيف حامل لغرائز الظلم و الجهل لأن العلم في غياب الضمير لا يحقق الفضيلة كما ذهب سقراط· ولذلك فالالتزام أمانة ووديعة الله فيمن يعرفها وهدي إليها· الوقوف على معرفة شكل الكتابة داخل فضائها الدائري، التقصي والخوف من عثرات خطاب النص، النص يحتاج للتنقية والتنقيح، النص قبل خروجه يحتاج للتقليب، تحتاج زواياه للتدقيق والمسح، التنقية من نفايات السرد المعيقة للفهم المفسدة للذوق المعطلة للتحصيل الدافعة للملل· النص قبل خروجه يحتاج لأكثر من مراجعة لأجل اكتماله، استحالة الكمال الكلي للنص، الاكتمال الشكلي والمضمون مستحيلة· النص يحتاج لوضع صحي، لمراقبة العقل ومقارنته بما يتناقض والمنطق، وضعه في ميزان الذوق، ميزان جمال اللغة، ميزان الأسلوب· بعد ذلك تأتي مرحلة الفتح· الفتح يحتاج إلى قلب شجاع وإلى عقل متنور قادر على المواجهة، رباطة جأش ومقدرة على الرد واحتمال الصدمة ''واقي الصدمات الأدبية''· الفتح يحتاج لشريك، يمنحه إمكانية الاطلاع على ما يحويه النص؛ الفتح مرحلة قادمة بعد الكتابة والتنقيح والتنقية والفرز لأنه يبحث على اكتشاف عوالم جديدة قد تكون مختفية في جملة ما أو التصقت بين فكرتين ولم يهتد إليها إلا به· الفتح على موضوع السرد وعلى فكرة السرد يمنح المعرفة الجديدة، المنعرج في التغيير النصي ككل وإعادة كتابته، في إعادة تشكيل الفكرة ككل والتراجع عن التناقضات الموجودة داخلها· قد يكون محتوى النص رديئا وهذا ما يتوقعه كاتبه قبل القارئ· على الكاتب أن يأخذ العامل النفسي بالحسبان، يكلف الكاتب أو السارد منطقه ويتنازل عن غروره ويستشير أهل السرد بما تركوه وبما سبقوه به، حتى لا يغضب بذلك أهل الكلمة منه ويصل لفهم القارئ بدغدغة مشاعره وإقناع منطقه ولو كان خارجا عن مألوف ما يعتقدون أو منفّرا لما ألفوه· الإخراج يكون غير سابق لأوانه فالتعجل لا يمنحك الوقت الكافي لمعرفة قيمة نصك، قد يكون النص جميلا لكنك أفسدته بوضعه في غير مكانه اللائق به أوفي محله· النص كالسلعة تحتاج لسوقها كما تحتاج لمعرفة مستوى من يبتاعها· النص يجب أن لا يكون مستهلكا، بل مؤثرا مأخوذا به· يحتاج إلى سوق لغوية وافرة المعاني· التدقيق في علاماته الأصلية والزائفة، النص يحتاج للمقابلة بينه و بين النصوص المتقاربة التي تحدث بمحض الصدفة · مقابلة بمستوى التأثير الفكري و الجمالي· الكتابة تحتاج لعلامة خاصة تميز كاتبها، السرد الفكري أو الأدبي يحتاج لعلامة تشهره في عالم الكتابة ككل· الكاتب يجعل لنفسه خاصية يستقل بها عن غيره يجعل قارئه يميز نصه دون قراءة اسمه، حين يصل إلى هذه الخاصية يكون قد حقق القدر الكافي من النضج و الاحترافية الكتابية فالكاتب المحترف يختصر المسافات و يختزل لغة خطابه ويوّقع بعلامة خاصيته فلو انتحل كاتب ما أسلوب الجاحظ لبان ولو أستعار شاعر أسلوب درويش وأدونيس و أحمد مطر والجواهري ومحمد العيد آل خليفة لبان أمره وانكشف لأن كل هؤلاء ابتدعوا علاماتهم التي حافظوا بها على تميزهم الإبداعي في النص(الشكل الصورة الأسلوب التمثيل···)· النص يحتاج لأولية المتسع على الضيّق، المتسع من النص يعطي المتسع من التأويل والنص الكبير المتسع هو المانح لقوة الحضور للقضايا الراهنة والمستقبلية، للتنبؤات، لما يحدث وسيحدث في الواقع· الكتابة بقيمها الخاصة للوضع والمحيط وأخذها بالأسباب وتكليفها للأخذ من نتاج الآخرين حتمية لأن حضارة الشعوب مرهونة بثقافاتهم· السارد مجمل القول هو أكثر من مثقف، يرتقي المرتقى الصعب الوعر، فالإبداع همّ ووجع رأس، إنها مهمة تؤخذ من دون آمر، جزء يضاف إلى الأجزاء الأخرى للعقل والروح فالإبداع ليس ثقافة فقط لأن المثقف لا يكون مبدعا بالأساس ولا خالقا له إنما دوره منحصرا في تأكيد الاختلاف طريق إلى الحرية وبذلك فمهمته عامل أساسي في إبراز الأفكار الدالة على الوجود وإلى التنوير ، التنوير كما عرّفه كانط: ''خروج الإنسان من حالة القصور التي يبقى المسئول عن وجوده فيها'' والقصور حالة عجز عن استخدام الفكر عند الإنسان خارج قيادة الآخرين وأوامرهم؛ الإنسان القاصر مسئول عن قصوره لأن العلة ليست في غياب فكره وإنما في انعدام مقدرته على اتخاذ القرار وفقدان الشجاعة على استخدام فكره بنفسه· هذا ما نقصده بأولوية المتسع على الضيق· الكاتب في نصه يخرج من حالة القصور ولا يحمل مهمة اجترار الحديث بتقليد الآخرين، تقمص شخصية الآخرين وتمثلهم في نصه، إن في ذلك إسقاط عنه لاسم الكاتب المبدع بتحوله إلى ناطق باسم إبداع غيره، يشبه الناطق للحكومة وقتها أو الناطق للحزب السياسي أو لتنظيم ما أو لجمعية خيرية أو دينية ترفض مبدأ الاجتهاد والتغيير والحرية - هذا هو الضيّق - فالمتسع هو الراهينية وسؤالها وأشكلة المؤشر المستحدث المبرز للفعل المتأصل في الإنسان كما بينّ ذلك ميشال فوكو في فهمه لعامل الثورة فهي مؤشر توقعي · الكاتب مؤشر توقعي لأنه لا يمكن نسيان تأهبه في مستقبله الذي يبرز من خلاله حتى و لو كان من الجائر مراجعة بعض مواقف الكاتب وعدم مراعاة الضغوطات التي يتعرض لها لأنه مثال التنوير· الكاتب يجب أن يحرر نصه من التبعية أنّ كانت فبكونه حرا فيما يكتبه فالضمير وحده فتواه، أمانة العقل تحت وصاية أمانة الضمير، أن يكتب بشجاعة ولا يقع تحت أي تأثير مادي كان أو معنوي· أن يؤسس فكرته بثورة داخل نصه حتى لا تجعله جامدا ميتا· إن أولوية المتسع في الأخذ بما هو حق وقريب إلى جوهر الإنسان كما خلقه الله دون حالة القصور داخله من تأثير بدنه و شهواته عليه ، دون تأثير أسرته ومحيطه فيه· أولوية المتسع على الضيّق أن يأخذ السارد من الحقيقة المطلقة لأن الحقيقة المطلقة هي نقطة بداية فيما يريد كتابته وإبداعه، على الكاتب أو المفكر أن يضع تلك الشروط كميزان ، شروط الحقيقة المطلقة· إن الفصل في الامتثال للقوانين الجائرة التي تحد من حرية الفكر والرأي وتكبح اجتهاد العقل المبدع في الموضوعات ذات الصلة بالإنسان وحمايته من الإنسان ذاته· أولوية المتسع على الضيق أن يأخذ من الحقيقة المطلقة ويتجلى ما يقدمه عقله إضافة للعقول التي تنحو المنحى نفسه، أن يكون الكاتب والمفكر حرا في عقله وفي الوقت نفسه قابلا للتعايش مع الأجهزة المسيطرة على عقول العوام ، هذه العقول الخاضعة والمستعملة كعناصر لعبة شطرنج· يمكننا مثلا مخالفة فوكو لأن فوكو ليس المتّسع، يمكننا مخالفة الغزالي لأنه ليس المتسّع إنما مؤشر للدخول للمتسع· أولوية المتسع على الضيّق في الكتابة تتماشى مع الطبيعة النفسية وتعالج الحالة المرضية· هي الدليل الصحي المناقض للحالة المرضية· كل كاتب يستعين بما ليس له ولا يشرك رأيه فيه خاضع للضيّق، النفس تحتاج للرحابة مجبولة على حب الكثير الجاهز - حالة مرضية أو فطرة- والمتسّع يخالف إرادتها لأنه يكبح جماح ذلك· هل العقل الغربي المتطور يتسع بقدر كاف من الحرية في الأخذ من المتسع ومطابقة تفكير محيطه ودعم العوام لما يفعله؟ عكسنا نحن تماما ، يتلقى الكاتب والمفكر والمبدع الأصيل عقابا على تجرئه التفكير الايجابي، ويجازى الكاتب الآخر حالة قصوره لنفاقه وتخاذله· الكاتب المتخاذل هو الواقع في مبدأ الضيّق - الحالة المرضية أداة في جهاز ما- · أولوية المتسّع على الضيّق تدفع الكاتب إلى البحث عن المنفذ لمشكلات الواقع الآنية ويدفع الضريبة لوحده في وطنه· هو الواقع تحت تأثير الوشاية بما هو حادث وجاهز للحدوث· بداية الضيّق في الحادث الجاهز للحدوث وليس المتوقع حودثه· المتسّع هو المطلق بقانونه والضيّق هو فوضى تحليلية يعتبرها الكاتب علاج· النص يأخذ جملة واحدة قصيرة لكنها من المتسع·