أنظر إلى غلاف ''المضلع المرصع بالنجوم'' يجتاحني ياسين دفعة واحدة ومن كل الجوانب والاتجاهات، هكذا في لحظة كالبرق القاصف، صورة موزاييكية، وجها مفعما بالملامح المتزاحمة والمتراكمة مع الزمن الباطني للذاكرة والمتجاوز كل الموسيقى الخطية والداخلية لإيقاعات الزمن، أو رقصاته، أو شطحاته أو بروزه وتجليه الخاطف كما اختفاءه·· الصورة، صورة الكاتب الصديق، صورة الصديق تتجلى هكذا دفعة واحدة مثل الرفقة المنبجسة، صورة متشكلة بالأصداء البصرية المتناثرة كشظايا الجسد المتفرقع، كالبوزل المثير للفضول الخفي الصارخ·· ها هي ابتسامته الخجولة الأقرب إلى حياء صبي حينما يقترب في لحظة غير مناسبة ممنوعا ومحظورا، وها هي نظرته ذات البصر المتأمل في حالات سكونه وغضبه الهادىء، وها هو هديره الضاج عندما ينفجر كالنهر الجارف وهو يستعيد نبضات وهوس الماضي المتواشج مع خرير اليومي الطافح بالأحجار والحصى ووشوشه الصدى الرنان والمتجدد·· ثم يا الله ها هي أحلامه الغرادة بالمشاريع والطوباويات ذات البصمة الورشية في تجريبيتها ورقصاتها البهلوانية على حلبة لعبة الهدم والبناء في زمن متزامن، متعاد، متشاكس ومتآخ معا·· يا الله، هل مات فعلا وإلى أبد الآبدين ذلك الطير الحامل في فمه حجر أبابيل؟! هل تحول مثل باقي الأسلاف يسكن الكهوف والمغاور والسراديب ولا يطل إلا تحت جنح الظلام وعندما تقوى العواصف وتنوح الرياح وتزمجر السماء وتميد الجبال وتكشط السماء فيظهر في صورة الروح العائدة المفعمة بالزمجرات ووعيد الثأر من امبراطورية الشر والأشرار؟! الصدق أقول، لم تداعبني يوما، ولم أفكر وأنا أسير تحت حفيف شجر غابة ابن عكنون إلى جانب صاحب ''مسحوق الذكاء'' أنني سأجد نفسي أقف كالتائه، كالشريد على حافة بياض الورق وبياض الزمن لأكتب عن تلك اللحظات التي لم أكن أتصورها أنها ستستقر في متاهات سراديب الذاكرة والوجدان وأسعى إلى روايتها فيما بعد·· ما الذي يدفعني الآن إلى ممارسة التذكر المتشظي والمتعدد، وأركض حافي الوجدان لأطرق تلك الأبواب الموصدة والتي بدأ يعتريها الصدأ حيث ينام هناك صاحب نجمة، الأسطورة الحية في قلوب الرفاق الذين تفرقوا وتواروا الواحد تلو الآخر مثل الأحلام التي تظهر لحظة لتختفي خلف بعضها البعض·· ما الذي يدفعني إلى استحضار هذا الرجل الذي فتح القدر بابه لألتقيه صدفة في مدينتي عندما كان مخلفا كل المجد وراءه، وكنت عندها أيضا أبحث عن طريقي إلى نور في مفترق الظلمات؟! خلف الرجل يختفي كل ذلك الزمن الصخب المليء بالوجوه، والأصوات والأشباح والأفراح والأتراح والأحلام ذات الأجنحة المرفرفة والمهيضة·· خلف الرجل تطل الحياة عارية من كبريائها وادعاءاتها وتورياتها ومجازاتها المحلقة في الفضاء السامق للكلمات·· خلف الرجل تقبع الحياة بما فيها من جنون وصخب وتوق إلى التعرية العميقة·· خلف الرجل، وخلف الحياة، ليس ثمة سوى الحياة التي يعاد نسجها بالتذكر والتذاكر وبالحكي المتوالد والخصب كلما تجلى المعنى الكبير والمعقد عبر النتوءات التي تملأ وتزركش جسده المتستر خلف الحكايات والروايات·· كان الرجل يجلس وحيدا، أمام آلته الراقنة يعيد نسج ما عاشه ورواه، وفي كل مرة كان يفجر الكلمات لترقص بدورها على نفس حلبة الحكاية، الحكاية واحدة حتى وإن تعددت أصواتها وإيقاعاتها وألوانها وأطيافها وموسيقاها، وها أنا أجلس وحيدا، بل أتمدد وحيدا، وقربي ''المضلع المرصع بالنجوم'' أنظر إليه، فأرى كل ذلك العالم الذي كان ذات يوم عبارة عن لحظات، وها هو اليوم يسعى لأن يتشكل من جديد على لسان الحكاية، حكايتي أنا، عن رجل ''نجمة'' المستحيلة·· وكل السر في تحقق ''الاستحالة''! أليس كذلك·· استحالت ''نجمة'' (زليقة) الإسم الحقيقي على الفتى ياسين·· تحققت المسافة، وبالرغم الدنو كانت بعيدة·· ابنة العم كانت جميلة، ساحرة وذات إغراء أسطوري، كانت هي الأخرى تتقد حبا في ياسين الفتى، الفتى المثير والجميل وذو الوجه الملائكي، لكنها كانت متزوجة، وكان زواجها بآخر، هو الاستحالة عينها·· كانت قلعة منيعة، هل يخون ياسين زوجها، وتخون زوجها؟! هل تستسلم لنزوة الحب المجنون وتتركه يختطفها ويهرب بها إلى المغارة الرهيبة التي ذكرها في بداية نجمة، وعندئذ يعيش كلاهما في ظلام المغارة، هاربين من الأرواح الغاضبة، المليئة بالثأر·· وهذا الفتى ياسين الذي لم يكن يملك من ثروة العالم إلا أحلامه وأشعاره، هل يملك قدرة أخرى، بإمكانها تغيير المصائر والأقدار؟! كان يقف أمام القدر، مثلما وقف أمامه أوديب بالرغم تلك الروح المقاومة والمتمردة التي تسكنه·· وقف أمام القدر وهو يحمل تراجيديته الفردية بين يديه، يحملها كجثة جريحة ودامية.. يحملها بينما قلبه يدمي وعيونه تدمع عبرات دامية وحارقة·· يحمل حبه جثة ملتهبة، ومن حوله ألهبت كل الكائنات والأشياء والكلمات·· تحول هو بدوره إلى لهب مسكون باللعنات والصرخات العميقة، مسكون بحالة التسامي والتطهر صونا للحب القتيل، وصونا للجسد المقدس الذي تحول إلى جسد أسطوري، جسد الوطن كله·· الكلمات قادرة على تحويل جسد الحبيبة إلى جسد وطن محبوب ومرغوب في الوقت ذاته، حتى وإن كان هذا الوطن مسيجا بالممنوع والمحظور والمحرم·· وهنا تتحول الاستحالة إلى ممكن، إلى أن تبقى هدفا من أهداف استعادة الجسد المحاصر·· قادرة هي الكلمات على توليد الجسد من جديد من قلب خراب الجسد المغتصب··